سينماتك

 

"فاسبندر"

ملهم السينما الألمانية

محمد عبيدو

 

 

 

سينماتك

 السينمائـي الكبير راينر فاسبندر, الذي كان الى جانب فيم فندرز, و هرتزوغ وشولوندروف وبيتر هاندك , ومجموعة من مخرجين آخرين, من أحيوا السينما الألمانية بعد موات مؤكدين لجديدها حضوراً عالمياً مدهشاً حيث استطاعو أن يجمعوا من خلال أفلامهم بين الحرفية العالية والرؤية المبتكرة وكان راينر فيرنر فاسبندر المتوفى في 15 – 7 - ١٩٨٢ أكثر الفنانين السينمائيين إبداعا وإنتاجية، و قدم الكثير من اتجاهات التطور الخلاق في السينما الالمانية ومنحها مكانة جديدة بين السينما العالمية، وناقش فيها بجرأة شديدة صورا مدهشة للحياة في المانيا المعاصرة وكانت أفلامه تتميز بالتنوع الشكلي والقصصي وتركز على الفرد المقهور وتناقضات التاريخ الألماني- استنادا إلى فن الميلودراما- واحتلت أعماله مكانة الصدارة بين الأفلام الروائية الكبيرة ("زواج ماريا براون" ١٩٧٨، و"برلين- ميدان ألكسندربلاتس" ١٩٨٠، و"لولا" عام ١٩٨١). وحصل فيلمه "شوق فيرونيكا فوس" على أكبر جائزة في مهرجان برلين السينمائي الدولي عام ١٩٨٢} .

وفاسبندر كان عبقريا مبدعا لايتوقف عن عن الانتاج الابداعي وكأنما كان يدرك انه سيموت في سن مبكرة,    فكا ن يخرج الأفلام بسرعة كبيرة , فتجاوزت اربعين فيلما خلال اربع عشرة سنة .. وكانت ترافقه عوامل الخوف والغضب والتشكك اليائس , لايراعي في ذلك نفسه ولا يمتنع عن تنفيذ ما يخطر له بصورة فورية . وكانت قوته الابداعية أقرب الى قوة عدوانية بعنفوانها واذكر قول لزميله منتج الافلام " هانس يورجين " عقب وفاة فاسبندر : " لقد كانت حياته تتفجر تفجرا خلال وقت قصير لتعبر عن نفسه بتلك القوة والسرعة .. دون ان تبقي له أي احتياطي " . .و بدون مواربة قال فيم فيندرز بعد وفاته: " نحيا هذا الفقد، ينقصنا أيضاً الأفلام التي ستحققها اليوم "..

وقد توفي فاسبندر في السادسة والثلاثين من عمره . كان الوقت القصير , كافيا ليصبح فاسبيندر دينامو الفيلم الالماني .. ومع غزارة انتاجه بالاخراج  فقد اشترك في تمثيل افلامه و افلام اصدقائه .وكتب السيناريوهات والنقد وقام بالمونتاج  والدوبلاج.

«أريد ان أحقق بايقاع سريع أفلاماً بميزانيات صغيرة وفريق نشط».. هكذا كتب في عام 1966، في سن الحادية والعشرين الى أكاديمية الفيلم البرليني، غير انها رفضت مقابلته واقتراحه في آن واحد، ولذا قرر ان يدبر أموره بدون مؤسسات. وفي الوقت الذي كان يبحث شلوندورف عن «الخروج من النظام»، وبينما كان يتردد الحكيم فيم فاندرز على المدرسة العليا للسينما،بدأ فاسبندر يكتب النقد السينمائي وهو دون العشرين , بل وأخرج أول أفلامه وهو دون العشرين أيضا الفيلم القصير " صعاليك المدينة " عام 1966 أسس: «آنتي تياتر» (المسرح المضاد)، الذي سيضم تلك الرابطة المضادة للسلطوية، النواة الصلبة لفرقته. في نهاية السبعينيات، حقق سبعة أفلام طويلة بالتمويل ـ الانتاج الذاتي، غير الاخراج المسرحي والتمثيل: «ربما كان ضرباً من المرض الذهني»، هكذا شخصت أو قدرت أمه، ليزلوت إدر، الموقف الذي حمله، في عشر سنوات، على أن يميز بين السينما والواقع. كان يمضي وقته في صالات ميونيخ المعتمة برفقة جدته التي تتحمس بصوت عال مع كل حركة.

نشأ طفلاً وحيداً حول خرائب الرايخ، ونما " كنبته " بين أم مسلولة وجدة لاجئة من دانتزج، ومن «تاجر الفصول الأربعة» (1971) الى «سرفيرونيكا فوس» (1981)، لم يكف عن استدعاء الماقبل تاريخ لجيله عبر «أمجاد» الخمسينيات التي تأسست عليها أسطورة " الجمهورية الفيدرالية النقية ".

وتنقسم اعمال فاسبندر السينمائية الى ثلاثة افلام قصيرة , و23 فيلما روائيا للسينما و9 افلام روائية للتلفزيون و4 مسلسلات سينمائية , واربع افلام فيديو.

عبر فاسبندر عن عظيم اعجابه بالرائد السينمائي دوغلاس سيرك وذلك لقدرته على أن يقدم من خلال افلامه قضية شيقة وقضية سياسية في آن واحد . الامر الذي كان فاسبيندر دائما يجهد لتحقيقه . انه يقول جازما: " لا اصنع قط افلاما غير سياسية. وهذا يصدق على افلامه منذ مأثرته الاولى "الحب اشد برودة من الموت".

في عام 1969، حقق في تسعة أيام «الحب اشد برودة من الموت». آنذاك، رأى «عاش حياته» لجودار «هذا الفيلم قواني»، مثلما قال بعد ذاك، وعنه، تعلم امكانية الخطاب «الذي ينفي التماهي ويجبر المتلقي على التفكير». في سلسلة من اللقطات الثابتة، يظهر « الحب اشد برودة من الموت » طفولة متلعثمة، عن الحب والمال اللذين تتكلم عنهما حول طاولة مشرب. الحوارات تدور عن عمل المهاجر يورغوس الذي ـ مثل كل اليونانيين، يوناني السينما العالمية تحديدا ـ «يعتقد بالشيوعية». في الشارع، فتاة تجلس الى جانب يورغوس، تحب هيئته الخجلة والقوية الارادة. فاسبندر، نفسه، أدى دور شخصية يورغوس الذي أوسعه صبية الحي ضرباً. يتشابه الممثل والمخرج الى درجة كبيرة حتى ليلتبس الأمر على المتلقي، مثلما ذكرت هانا شيغولا: «على الفور، صعقت من هذا الوجه، وجه الغريب، من هذا المزيج من الوقاحة والمحو، من الدناءة واللطافة».

والمعروف ان هانا شيغولا لعبت دور البطولة في أفلامه ايفي بريست وليلى مادلين وماريا براون , وارتفع فاسبندر بها الى شهرة عالمية .. لقد استطاع فاسبيندر فعلا ان يكتشف وجوها جديدة عديدة للفيلم السينمائي حتى ان هانا شيغولا كانت تتساءل في حفل تأبين المخرج الذي اكتشفها:

"من سيعطينا القوة الآن ؟ من يجدد لنا الوجوه القديمة من يستخرج منا الان كل طاقاتنا ؟".

صنع فاسبندر عام 1969 فيلم "اله الوباء" فاتيح لنا بذلك ان نشاهد شيغولا من جديد وذلك في دور جوانا المخبرة السرية البوليسية.

يتمتع فيلما "الحب اشد برودة من الموت" و"اله الوباء" بأهمية خاصة وذلك من حيث أنهما بشرا بالانجاز الكبير وهو "الجندي الامريكي".

لا يرتبط "الجندي الامريكي" بأعمال فاسبيندر الابداعية السابقة وحسب بل بعمل جاء بعده. ففي احد المشاهد تروي خادم في احد الفنادق قصة لاتلبث ان تصبح عماد فيلم "كل الآخرين يُدعون علي" الذي عرضته ال بي بي سي والذي بفضله كسب فاسبيندر جمهورا كبيرا في بريطانيا. برز فاسبيندر للأول مرة كمخرج كبير في فيلمه "احذر البغي المقدسة" وهو ما أشار اليه النقاد وفاسبيندر نفسه. ذلك ان الجهود التي بذلها قبل عام 1970 كانت من قبيل التمرين على العمل السينمائي. ان البغي المقدسة التي يشير اليها عنوان الفيلم هي صناعة السينما بالذات من خلال وجهة نظر فاسبيندر. ان فاسبيدر يقدم بيانا بالمصاعب التي تواجهها الفرق التمثيلية التي تجهد للعمل معا. وفاسبيندر يرفض ان تكون السينما بأية طريقة من الطرق أكثر اهمية من العالم الواقعي, كما يرى ان عملية صنع الافلام التي تستغرق المرء تماما أمر يبعث على الضيق: "ماازال اناضل في سبيل الحياة والواقع الحقيقيين".

في السبعينات، صعد نجم فاسبندر في السينما أكثر من المسرح فسرعان ما توقفت الأعمال من ضمن فريقه "المضاد للمسرح" ليتفرغ لأفلامه وكان أبرزها: "كل الآخرين يُدعون علي"، "ايفي بريست"، "حق الأقوى"، "ماما كسترز ترحل الى السماء"، "الروليت الصيني"، "زواج ماريا براون". غير انه سرعان ما حنّ الى الخشبة فالتزم بالعمل في مسرح "ام تورم" في فرانكفورت، وخلال سنة قدّم للخشبة اقتباسات من بيتر هاندكه، اميل زولا وانطوان تشيخوف وكتب أيضاً نص "القمامة والمدينة والموت" الذي صاحبته ضجة كبيرة في ذلك الحين: في المسرحية أربع شخصيات: امرأة عاهرة تدعى روما.ب. ورجل أعمالها ونازي ويهودي. المرأة فقدت جاذبيتها وتبيع جسدها الى رجل أعمالها وهو يوغوسلافي مهاجر، يعاملها بشكل سيء ويضربها باستمرار. والدها نازي قديم، انتهت النازية وهو بقي على إلحاحه عليها على الرغم من حياته الصاخبة بخصوصيات دقيقة: يتنكر بزي امرأة ويقلّد شخصية المغنية الشهيرة في الثلاثينات زاره ليندر. أما الشخصية الرابعة فهي اليهودي الذي وحده لا يملك لا اسماً ولا عائلة. على الخشبة يعرّفون به بحرف "أ"، أو "اليهودي الثري". جمع ثروته من عمله في شراء أبنية صغيرة وقديمة، يهدمها ويقيم مكانها بنايات حديثة ضخمة تدرّ عليه المال. يسيطر على المدينة بتآمره مع السلطات لكنه لا يحصد سوى الكره من الشعب. وهناك نحو 15 شخصية أخرى في العمل من رجل الشرطة الى البائع المتجوّل الى العاهرات في النوادي الرخيصة.

يأخذ اليهودي المرأة روما.ب. على عاتقه، يغرقها بالمال ثم لا يلبث ان يتغيّر معها وينتهي بها الأمر مقتولة خنقاً بين يديه، وينجح في اتهام رجل أعمالها بقتلها. عن نصه الغرائبي غالباً ما تحدث فاسبندر ومن أبرز شروحه له: "قد يكون مكان عملي المسرحي هو القمر لأنه صعب السكن تماماً مثل المدينة التي أتحدث عنها ويقصد بها فرانكفورت". كما انه قدّم في فرنسا عام 1977 فيلم "ظل الملائكة" المقتبس عن "القمامة والمدينة والموت" وأثار فضيحة مماثلة وكان فاسبندر قد أدى فيه دور رجل الأعمال وانغريد كافن أدت دور العاهرة. أما كلاوس لويتش فلعب دور اليهودي الثري. في ذاك العام، أثيرت ضجة في فرنسا بسبب الفيلم من قبل منظمات يهودية وتوقف عن العرض في الصالات بعد ان تعرّضت صالة "سان اندريه دي زار" الى التفجير بواسطة قنبلة وضعت بين الكراسي أثناء العرض. كان هناك محاولات لإعادة تقديم المسرحية في الثمانينات والتسعينات لكن تدخل اليهود كان دائماً يمنع الأمر: عام 1985، عرضت في اليوم الأول وتوقفت أثناء العرض في فرانكفورت وذلك بعد ثلاث سنوات على رحيل فاسبندر. وكان هناك محاولة أيضاً في برلين حين قرر مدير مسرح "ماكسيم غوركي" ان يقدّمها عام 1998 لكنه عاد ورضخ الى التهديدات..الى ان اعيد تقديمها العام الماضي في فرنسا في مسرح الباستيل الباريسي رغم تهديد المنظمات اليهودية.

ويتحث فيلمه "لولا" المنتج عام 1981 عن حقبة تأسيس جمهورية المانيا الاتحادية في الخمسينات وعن مقاول يريد كسب الارباح وعن راقصة تعرية تريد ان تصبح من الرأسماليين وموظف في ادارة الاسكان يرفض مبدأ الراسمالية ولكنه يدرك بانه لا يمكن ايقاف هذه السياسة الاجتماعية.

وفي فيلمه "شوق فيرونيكا فوس" يسعى الصحفي الرياضي روبرت مرون بشعور مزدوج من الشفقة والاهتمام الصحفي لمساعدة النجمة السينمائية السابقة فيرونيكا فوس التي اصبحت مدمنة على المخدرات وتحت رحمة طبيبة تستغل مرضاها لكسب المال.

ويبدأ فاسبيندر فيلمه "زواج ماريا يراون" 1978 بمشهد بالغ الجمال والروعة. نرى ماريا براون في مكتب الزواج حيث يتم عقد قرانها على هيرمان, وبحركة كاميرا بسيطة يكشف لنا المخرج عن الفترة الزمنية التي يتم فيها الزواج. فعلى الحائط ترى صورة هتلر, وفجأة ينهار الجدار بفعل قنبلة ويتم الزواج تحت قصف الطائرات. اننا في نهاية الحرب العالمية الثانية وفي برلين بالتحديد. وبعد ذلك يسافر هيرمان الى الجبهة ولم تعش ماريا مع زوجها الا ليلة واحدة. الفيلم يحكي بميلودرامية مقصودة اصرار ماريا بعد ذلك وفية لزوجها المختفي.

 الوفاء عندها لا يعني الامتناع عن ممارسة الجنس فهي تبدأ كبغي في بار أمريكي ببرلين. الى ان يعود زوجها ليجدها في احضان امريكي اسود, وفي لحظة رعب تقتل ماريا الزنجي وفي المحكمة يدعي الزوج انه هو القاتل, وليسجن بدلا من ماريا. ماريا تصعد بعد ذلك اجتمتعيا لتتحول الى "سلطة" فعلية في مؤسسة صناعية كبرى يرأسها عشيقها المتيم حبا فيها. يخرج الزوج من السجن ويرفض الرجوع الى ماريا قبل ان يحقق لنفسه مثلما حققت لنفسها, فيسافر الى امريكا ليعود ثريا وليجد ان عشيق ماريا قد مان تاركا كل املاكه لماريا وزوجها "تقديرا للحب الاستثنائي والنادر بينهما".

وفي اللحظة التي يتم اللقاء بين الزوج والزوجة تنفجر انبوبة البوتوغاز لتموت ما ريا براون وزوجها وتنزل على الشاشة صور رؤساء المانيا منذ انتهاء الحرب العالمية حتى اليوم!!

يتعمد فاسبيندر استخدام الميلودراما اقتناعا منه بأسلوب السرد الشعبي هذا يحتوي على العديد من العناصر التحزبية اذا احتفظ الفنان بمسافة نقدية بينه وبين الاحداث التي يسردها. والواقع هو ان "زواج ماريا يراون" فيلم لا يكف عن اضحاك المتفرج. يحاول فيه فاسبيندر ان يعلق على التاريخ الألماني منذ نهاية الحرب. المعجزة الاقتصادية والمؤامرات السياسية والبؤس الالماني تلك هي الموضوعات الحقيقية التي يسردها هذا الفيلم الغريب, الذي حقق نجاحا شعبيا استثنائيا في المانيا, وفتح ـ للمرة الاولى ـ السوق الامريكي امام السينما الالمانية حيث استمر يعرض في الصالات الامريكية لمدة عام.

obado@scs-net.org

شاعر وناقد سينمائي سوري

16 أبريل 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك