سينماتك

 

علامات سينمائية موريتانية

محمد عبيدو

 

 

 

 

سينماتك

يرى اغلب المتتبعين والمهتمين بالمجال السينمائي في موريتانيا ان سنوات الخمسينيات شهدت اولى ارهاصات وتطورات المشهد السينمائي الموريتاني من خلال «البعثات الرحالة» التي قامت بها فرق فرنسية ومصرية على شاشات سينمائية محمولة جابت العديد من البوادي الموريتانية محاولة تجسيد ونقل صورة لمجتمع صحراوي لم يألف هذا الفن ولا هو بالقريب من فهمه واستقراء مكامنه، واستمرت الرحلة على علاتها حتى سنة 1960 التي ظهر فيها المخرج السينمائي «همام افال» محاولا خلق قاعدة بشرية تستوعب او تقترب في تلك الرحلة من التعمق في فهم الصورة السينمائية وقراءتها مستفيداً في ذلك من تجربة الفرنسيين والمصريين الذين ادخلوا هذا الفن تحت يافطة التعاون، الموريتاني الفرنسي والمصري، ومن هنا اسس همام افال بعض دور السينما وفي الوقت نفسه توج اهتمامه هذا بانتاج بعض الافلام مثل «ميمونة» و«بدوي في الحضر» و«ترجيت» وهذه الافلام التي لا يعتبرها المهتمون بالسينما افلاماً بالمعنى المهني تمثل على الاقل بداية كان يمكن ان توصل هذا البلد الى تجاوز واختزال لزمن طويل ما زال تجاوزه يطرح عائقاً كبيراً.

 بعد مرحلة همام افال اسست المؤسسة الوطنية للسينما واختزل دورها - في صورة غريبة- على الرقابة على الافلام دون الانتاج الذي اقتصر على انتاج الافلام الوثائقية، وظهر مخرجون من امثال سيدين سوخاني ومحمد ولد السالك ومحمد ميد هندو الذي يعتبر من اشهر المخرجين الموريتانيين، ويقيم حالياً في فرنسا وفي رصيده العديد من الافلام السينمائية ولسوء الحظ لم تعرض في موريتانيا حتى اللحظة.. والده كان سنغالياً، والام موريتانية، وينحدر اسلافه من السودان، ولهذا فهو يتمتع بجذور اثنية متعددة،ولقد بدأ هندو حياته طباخاً، ثم هاجر الى مرسيليا لاكتساب المزيد من المعرفة، في هذا المجال، وهناك اشتغل عاملاً في الميناء، ثم في قطف الفواكه من الحقول الفرنسية، قبل ان يجد عملاً في مطعم، يتذكر هندو قائلاً «لقد كان العمل في المطعم شاقاً، ولكن علاقتي مع بعض الاشخاص الذين عملت معهم كانت هي الامتحان الحقيقي لي، فقد كان رئيسي الذي استأجرني بأقل من الاجر المعتاد، يخجل مني، فأرسلني ركناً قصياً في المطبخ، ولما اكتشف، انني اضفي نكهة غرائبية اثرية على مؤسسته سمح لي بالظهور العلني».

 اتاحت له الاعمال المختلفة التي امتهنها ان يتعرف الى حياة الطبقات العليا والدنيا من المجتمع الفرنسي عن كثب، وبعد 6 سنوات من هجرته تلقى هندو دروساً في فن التمثيل المسرحي، ولكنه سرعان ما ادرك انه من الصعوبة بمكان ان يعبر افريقي اسود عن نفسه على خشبة المسرح الفرنسي ، فألف هندو مع عدد من اصدقائه من افريقيا وامريكا اللاتينية مجموعة مسرحية لأداء بعض المسرحيات التي كتبها مؤلفون أفرو امريكيون، وبعد ان ادى هندو بعض الادوار في افلام للمخرجين كوستا غافراس، وجون هيوستون، وروبرت ايكر يكو شغف بالكاميرا وشرع في العمل كمساعد مخرج، وقرر ان يتعلم الاخراج السينمائي على نفقته ونجح في ذلك وابتدأ باخراج فيلمين قصيرين:

 الاول (اغنية للمنابع والجذور) يتناول فيه هندو مشكلة افريقي مهاجر يعود الى وطنه من فرنسا ولا يجد اية وظيفة فيتسكع على الشاطئ ثم يعتصر ذهنه في التفكير في هذا الخيار الذي اتخذه طواعية، خيار العودة الى الوطن، يعود البطل الى الوطن ولكنه على الرغم من ذلك يشعر بالضياع والتيه، ويحكي الفيلم الثاني (كل مكان ولا مكان ربما) عام 1969م عن قصة زوجين فرنسيين من خلال عيون افريقية .

 في فيلمه الروائي الطويل (SLOEIL- O) عام 1969 م يعيد هندو انتاج تجربته الشخصية المريرة في المهجر الى جانب ملاحظاته حول التمييز العنصري، يتركز الفيلم حول افريقي شاب، لا اسم له يأتي الى باريس بأمل الحصول على وظيفة محاسب، ومن خلال بحثه الدائب عن وظيفة وعن مسكن، يواجه عدداً من الصعوبات واشكال الرفض المبنية على اساس عنصري، وهندو لم يمنح بطله اسماً لكي يكون ممثلاً لكل الافارقة بغض النظر عن اقطارهم او مهنتهم، وإذ يشعر بأنه مرفوض وغير مرغوب فيه، يصير على شفا حفرة من الجنون، هذا الفيلم على خلاف افلام ايكاري، موجه الى النقد والاحتجاج السياسي، ويشاهد البطل في نهاية الفيلم ينطلق الى الغابة وهو يعاني من الألم والتوتر، وتتراءى له مشاهد من انتفاضات العالم الثالث الشعبية.

 يفتتح الفيلم بمشهد لأحد افلام الرسوم المتحركة الذي يعرض ارضاً افريقية وقد غزتها الآلة العسكرية الاوروبية فأحالتها الى خرائب وانقاض عن طريق القسوة والبطش، حتى اسم الفيلم ذو دلالة رمزية فهو مقطع من اغنية قديمة كان يغنيها الرقيق الافارقة ايام الرق والاستعباد، وهكذا ربط هندو بين مرحلة الرق، وعهود الاستعمار وما بعد الاستعمار.

 ان للبنية الاسلوبية لهذا الفيلم طبقات ومستويات، فعدد من اللوحات التي صورت باستخدام تكنيكات مختلفة، تتعاقب في الظهور على الشاشة، وتشكل في نهاية الامر (كولاج) يجمع المخرج بين التشخيص المسرحي والوثائقية والمقابلات الشخصية وقصص الحياة الحقيقية، وان التعددية الاسلوبية لهذا الفيلم تنسجم مع تعدد موضوعاته وتنوعها، التخلص من الوهم، والوطن والعمل، والحب وعنصرية البيض، والتناقضات بين الافارقة انفسهم.

 في فيلمه «العرب والزنوج، جيرانك» يواصل هندو معالجة موضوع الاضطهاد الاستعماري ويتناول بالتحليل حياة العرب والزنوج في فرنسا ولقد اشرك في هذا الفيلم عملاً حقيقيين كما تبنى الارتجال في اداء المشاهد التمثيلية، يقول هندو:

 وفي اعماله السينمائية اللاحقة قام هندو بالتوسع في تحليل قضايا الاستغلال الاستعماري، والهجرة الى اوروبا، ان ميدهندو هو وبلا شك مخرج موهوب، اذ احدثت افلامه ضجة واسعة ليس على نطاق السينما العربية والافريقية فحسب، وانما على مستوى السينما العالمية عندما نال كثيراً من الجوائز في المهرجانات الدولية .

وبعد ذلك دخل الساحة الفنية السينمائية اسم فني له تجارب فنية يحترمها الجميع ويتعاطاها بسحرها الذي قدمت به من خلال عدسة صاحبها عبد الرحمن سيساكو، يحمل سيساكو في تجاربه السينمائية بداية لمخرج ابهر العالم بعطاءاته السينمائية في هذا المجال، وقد انتج حتى الآن اكثر من اثني عشر فيلماً سينمائياً في المجالين الوثائقي والروائي وعبر برؤية سينمائية عن الهم الافريقي الكبير في حوار الحضارات والشراكة الفاعلة والهجرة والتنمية ...كما اسس شركة للإنتاج في باريس اسمها (شنقيط فيلم) وقد انتجت هذا الدار التي يديرها لمخرجين افارقة من السنغال وتشاد والبنين ولآخرين من ارمينيا وايران... عبد الرحمن سيساكو في رحلته كجزء من تاريخ رجالات موريتانيا في السينما سعى جاداً للاهتمام بقطاع الشباب الممارس للسينما عن طريق توفير المنح لهم وتكوينهم في الخارج ومن نتيجة ذلك كانت «دار السينمائيين الموريتانيين».

 ولد عبد الرحمن ولد محمد يحيى الشهير بسيساكو بكيفة سنة 1916 ليرحل بعد ذلك الى ( مالي) قبل ان يعود من جديد الى موريتانيا سنة 1980، وفي نواكشوط سوف يتعرف لأول مرة الى افلام الوسترن الايطالي ( كرانس هيل وبيد سبنسر) لكنه يتعرف في الوقت نفسه إلى المركز الثقافي الروسي ليكتشف عمالقة الادب الروسي كدويستوفسكي، غوغول وتورغينيف مترجمين الى الفرنسية وبعد سنة سيحصل على منحة الى روسيا ليدرس اولاً في روستوف قبل ان يدخل معهد افغيك (VGIK) السينمائي وهناك سوف يتعرف الى افلام مخرجين عمالقة كـ «فورد» و«فاسبندر» وبعد سنوات الدراسة سيخرج فيلمه الاول «اللعبة» (1989) كمشروع للتخرج يتم تصويره في تركمانستان ويحكي قصة الحرب من خلال لعبة اطفال يقضي معهم والدهم عطلة الاسبوع قبل ان يعود لجبهة الحرب.

 وتوج هذا الفيلم في مهرجان كان السينمائي، فيلمه الثاني اكتوبر 1993 يحكي قصة شاب افريقي ادريسا الذي يستعد للرحيل عن موسكو وعن حبيبته (ايرنا) الحامل الحائر بين الاحتفاظ بالجنين الذي تكرهه عائلتها وبين الاجهاض الذي يمحو علاقة بكاملها، وقد حصل على العديد من الجوائز في مهرجانات( كان) و(قرطاج).

 الفيلم الثالث هو ( الجمل والعصا المترنحة)1994 وهو عن احدى قصص (جان لافونتان).

 الفيلم الرابع (صابريا) 1996 وهو فيلم طويل صور في صحراء تونس ويحكي قصة صديقين يمضيان كل الوقت في «لعبة الطاولة» قبل مجيء إحدى  الفتيات التي تغير كل شيء، وقد حصل على جائزة (لا موسترا دوفنيس).

الفيلم الخامس (من روستوف الى لواندا) 1997 يزاوج بين الوثائقي والخيال، ويحكي قصة سفر المخرج ليبحث عن صديقه (بادي سانكا) الذي انقطعت عنه اخباره حينما عاد الى وطنه انكولا التي مزقتها الحرب والفيلم يبين آثار هذه الحرب دون ان يصورها مباشرة وقد حصل على جوائز في كل من مهرجان (ميلان) و(لادوكمانتا دوكاسل) و(لافيسير ليدوك) في مرسيليا.

 الفيلم قبل الاخير «الحياة على الارض»1998 يخلط الشعر بالسياسة من خلال رصد مرور عام 2000 في قرية صغيرة في عمق مالي هي (سوكولو) وقد حصل على العديد من الجوائز في مهرجان (كان) و (تورنتو) و(ساندانس) ونيويورك وقرطاج.

 ثم فيلم في «انتظارالسعاد» 2002 الذي يحكي قصة مراهق في السابعة عشرة من عمره يعود من مالي الى موريتانيا وطنه ليجد والدته تعيش في غرفة صعيرة في احد احياء العاصمة الاقتصادية نواذيبو في الحوش نفسه تسكن مجموعة من الاجانب اضافة الى فنانة تقطن الغرفة الملاصقة لتلك التي سيعيش فيها عبد الله مع والدته «سكينة».

 سيرتبط عبد الله بعلاقة عاطفية مع «نانا» الفتاة الغينية التي تكتري الغرفة المقابلة لهم، والتي تتمتع بحماية مواطنها «باري» الذي يدير مغسلة في الدار نفسه.

 شيئاً فشيئاً سيكتشف عبد الله هذا الفضاء المحيط به، والذي هو جزء منه لتفتح امامه فضاءات ارحب من التخيل والحلم.

 باختصار يحاول هذا الشريط ان يحكي قصص هؤلاء ليحكي قصة المنفي سواء على المستوى الداخلي الشعوري او على مستوى الواقع اليومي الملموس من خلال لغة سينمائية فيها الكثير من البساطة والعمق.

 في انتظار السعادة توليفة من الالوان ذات ابعاد جمالية كونية تنطلق من التفاصيل الصغيرة من اليومي، بل من غرفة معزولة في حي هامشي يقطنه هامش المجتمع ( مطلقة، حرفيون، اجانب، فنانة عاطلة عن العمل) وكأن مغنية الحي لا تطرب! لكن لكل واحد من هؤلاء قصته الخاصة، حياته بكل آمالها وآلامها، احباطاته وصبواته، باختصار عالمه الخاص ومن خلال التفاعل والانفعال سيربط هؤلاء بنسيج علائقي فيما بينهم من جهة وبين المجتمع الثالث، القصة في مفرداتها قد تحدث في اي زمان واي مكان لكن تكثيف الترميز يحيل الى قرائية تتجاوز السرد الى ابعد حد، والا كيف نقرأ مذياع ما كان الذي تسفو عنه الرياح بعد ان فقده، فإذا هو يذيع الاخبار! وكيف تطوف عشبة لتجوب المدينة كلها في رحلة لا تنتهي وكأنها الحلم القريب البعيد، الفيلم حافل بمثل هذه الاشارات الذكية، جمالية اخرى تميز الشريط هي جمالية الانسانية التي وظفت بشكل موفق ونلمس ذلك بوضوح في علاقة الفتى عبد الله بوالدته سكينة التي يعود اليها بعد سنوات من الفراق، غير قادر على الحديث معها بلغتها، لكن قوة الارتباط تكسر حاجز اللغة وتصبح لغة العاطفة اوضح من الدال اللغوي .

خطر الطفل الكهربائي معط الذي هجر البحر بعد ان جفت خيراته، ليتحول الى كهربائي متجول يزود مثل هذه البيوتات المعدمة بأسباب النور، ظلت علاقته بمعلمه اكثر من حرفية انها علاقة الانموذج الآيل للزوال، الذي يصارع الزمن ليترك سراً من الاسرار لدى من لم يصبح مؤهلاً بعد ليضمن صيرورة الفعل المستمر، انها لحظات الحزن المشوب ببريق من الامل.

 من نافذته الصغيرة المسواة بالارض يطل عبد الله كثيراً ليكتشف المارة من خلال هذا المستطيل المسطح او بالاحرى لتتراءى له اخيلتهم يمر الجميع، كل يحمل قصة، تاريخاً ما، يختلف بالضرورة عن تاريخ الجميع لكن قصص هؤلاء تصطبغ بذاتية عبد الله.  المرافق يحمل في ذاته ازدواجية مركبة، حاضر مثاقف، ومستقبل اكثر استيهامية من الحاضر وما بينها ينتصب الرجل المنفي.

 لن نعرف من الفيلم هل سيسافر عبد الله ام لا؟ لكن المؤكد هو ذلك السفر الاستنباطي الداخلي الذي من خلاله سيحسم علاقته بالفتاة نانا لكنه سيكتشف من خلال الفن جزءاً مطموراً في ذاكرته، ذاكرة بلد بكامله وسوف يكون لاغاني فاطمة المطربة التي اجادت دورها الفنانة كبيرة النعمة منت الشويخ، فعل السحر بالنسبة للفتى المراهق الذي ظل يراقب الفنانة، وهي تحاول ان تزرع تاريخها الفني في عقل ووجدان الفتاة الصغيرة التي تعلمها من خلال دروس قاسية الغناء والعزف تماماً كما يريد الكهربائي ان يورث تلميذه اسرار مهنة النور.

يرى العديد من المهتمين بهذا الميدان ان ابرز المشاكل التي تعانيها السينما الموريتانية تتلخص في الاطار القانوني، حيث تتبع السينما كمصلحة لادارة السمعيات والبصريات لوزارة الاعلام والثقافة سابقاً ومع تغير شكل الوزارة لم يتغير المضمون، والنصوص المنظمة لهذا القطاع وظل دور وزارة الاعلام مقتصراً على الرقابة في شكلها البوليسي دون الانتاج ولم تكن السينما تابعة لمؤسسة ثقافية همها الرعاية بقدر ما كانت تابعة لمؤسسة بوليسية همها الرقابة وبذلك وئدت كل المحاولات التي تمت في هذا الميدان، ومثال الشركة الوطنية للسينما التي يشرف عليها حاكم المقاطعة مع رقيب شرطة ومديرها دليل واضح على العبث الفاضح بهذه المؤسسة، وهذه الاشياء مجتمعة خلقت فوضى في هذا القطاع فتحت الباب واسعاً امام مستغلي الفرص من المشتغلين بهذا الميدان لتصدير ما بقي من وثائق وافلام الى المعهد الوطني للسمعيات البصرية في باريس حيث يباع تاريخ هذا البلد في المجال السينمائي.

شاعر وناقد سينمائي سوري

obado@scs-net.org

16 أبريل 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك