كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم "زهرة الصبار".. أحلام مفقودة تؤازرها المحبة

(واقعية تمزج الرمزية بالفنتازيا)

خالد ربيع السيد/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 

العفوية في الأداء والعمق الفني هما اللذان يدفعان بالمشاهد للاندماج في أحداث فيلم «زهرة الصبار» 2017م، لمخرجته هالة القوصي المتميزة في أسلوبها المتجاوز المعتاد، والذي نالت عنه الممثلة «منحة البطراوي» جائزة أفضل ممثلة في مهرجان دبي السينمائي تلك السنة، وهي، أقصد منحة: ناقدة ومخرجة مسرحية، مثلت في فيلم «سرقات صيفية» وظهرت في فيلم «مرسيدس»، «إسكندرية كمان وكمان»، «المهاجر«، «جنينة الأسماك»، «احكى يا شهرزاد»ـ لعل هذا التعريف الخاطف يشير إلى أهمية هذه الفنانة القليلة الحضور والمؤثرة بأدائها في كل فيلم تظهر فيه، فهي من رعيل الممثلات اللاتي يتم اختاريهن وفق نظرة خاصة تحتكم لتلقائيتها في الأداء؛ ولمشاعرها التي تعكس تقمصها الحثيث للأدوار المسندة إليها.

 

مخرجة وقدرات وفنتازيا

من المؤكد أن قدرات المخرجة «هالة القوصي» وموهبتها وثقافتها مكنتها من إدارة ممثليها المبدعين: «سميحة» (منحة البطراوي)، و«عايدة» (سلمى سامي)، و«ياسين» (مروان العزب). لتقدم فيلما مستقلاً نابهًا يجمع بين جمال لغة السرد غير النمطية المعتمدة على مونتاج يوائم بين التصاعد الطبيعي للأحداث وتداخل الأزمنة الخارجة عن الروي التراتبي؛ في غير خلل.

وأيضاً في اتباعها أسلوب المزج بين الواقعية الحديثة المطعمة بالرمزية والفنتازيا والتوليفات البصرية الما بعد حداثية، تلك المستوحاة من الفن المعاصر في تكوينات الصورة والكوادر المدروسة، أو حتى في استخدام فن الأداء Performance art  وفن البانتومايم (فن الحركة الإيحائية) Pantomime ضمن سياق تعبيري جمالي.

سرد متقطع في خطين متلازمين بين الحاضر وبين أحلام البطلة، تلك المبثوثة بفانتازيا متحررة من قيود المنطق والشكل والحدث، ومعتمدة على بوح الخيال المختلف عن العالم الذي تعيش فيه عايدة؛ لكنه في صلبه وجوهره ومستكمل لقصتها، من حيث الشخوص الواقعية وتشكلها في أدوار تتناقض مع حاضرهاَ أحياناً؛ والتجربة التي تخوضها.

ولأن المخرجة، وهي كاتبة السيناريو أيضاً، قادمة من ذلك العالم التشكيلي المعني بالصورة وتأويلها الشكلي والسيميائي والذي حط بها أمام فن السينما المفتوح على استثمار وتوظيف الفنون، تغلبت حساسيتها البصرية في اختيار أماكن التصوير وزواياه وما تحمله من تأصيل للمكان بدلالاته الزمنية والبيئية، ولم تقدم توليفاتها البصرية بمعزل عن السينما الحديثة، بل عملت على إدخالها بكيفية منسجمة مع السرد ليمنحه أفقًا تأويليًا وجمالياً أوسع، أو بمعنى آخر: ليضيف إليه معان لا تخل بالسياق الدرامي أو تكون إقحاماً مربكاً لتوازن حبكة الفيلم أو الميزانسين أو السينوغراف الذي يحتويه، وحتى أسلوب تقطيع المشاهد ومونتاجها غير التقليدي (المونتير مايكل يوسف) الذي يحتاج الى مشاهد يقظ يربط ويحلل، فيدفع به إلى التحليق والاندماج الكامل المؤدي للدخول لقصة الفيلم دون الشعور بغرابة ما يبث أمامه، وإن كان ذلك الاحتمال قائماً عند المشاهدين اللذين اعتادوا السرد النمطي، هكذا قد يجد هذا النوع من المشاهدين بعض الارتباك في متابعة قصة البطلة؛ والقصص المتجاورة عن كل شخصية مرت في حياتها، لكن ما يعيد المشاهد إلى الاندماج هو قدرة المخرجة في عدم الامعان في المشاهد التخيلية، وبالتالي يستعيد المتفرج خيط القصة وتسلسلها.

 

شابة تبدأ حياتها وسيدة أسدلت الستار

ما يرويه الفيلم يصب في أزمة «عايدة»ـ ذات الأصل القروي وذات الـ 33 عاماً ـ والتي تحمل روحًا طموحة وإرادة عنيدة في تجاوز واقعها المحبط الممتد إلى جذور سنوات الطفولة في القرية وبراءتها بحلم أن تكون زهرة ترتدي "فستاناً" أبيضاً عليه زهور حمراء وتتساقط عليها الزهرات البيضاء، ثم تحسب الحائكة (الخياطة) والدتها (الممثلة عارفة عبدالرسول) سنوات عمر طفلتها التي تركتها لتواجه الحرمان والقسوة، هرباً من اجحاف زوجها وأهله، وتظل تحسب سنوات عمرها بأنواع الأقمشة لثيابها، لكن في كل ذلك لا تبتسم عايدة للصورة التي ستخلدها كطفلة سعيدة، فهي لم تجد واقعاً سعيداً.

منذ المشهد الأول للفيلم نراها طفلة واجمة تدخل الى أستوديو أو مسرح جدرانه مكسوة بورق حائط لرسوم نباتات الصبار الشائكة، وحتى بدايات شبابها وانتهاء بوعيها عما آلت إليه بعدما نضجت ظلت واجمة لا تبتسم، أخذت تكافح لتحقيق ذاتها كفاعلة لما تحلم أن تكونه، رافضة الرضوخ لإرادة ذويها في أن تكون طبيبة بينما تريد أن تصبح فنانة ممثلة... من هنا جاءت منطقية توظيف المشاهد التشكيلية التعبيرية التي نشاهدها في ثنايا الفيلم، لتبدو وكأنها مقتطفات من خيالات مسرحية تدور في عقلها الباطن؛ أو حتى في خيالاتها الواعية، فالتمثيل والمسرح يعتملان في وجدانها كمشاهد حقيقية من حياتها.

لمّا فشلت في إخفاء مشروعها الشخصي قاطعها أهلها وخرجت عن حياضهم، وأيضًا لمّا فشلت في أن تكون ممثلة، أو حبيبة، انطلقت لتبحث عن أمل يحقق لها حلمها أو يؤازرها على الأقل في التخفيف عنها، فجاورت السيدة «سميحة» المنطوية؛ التي تعيش وحيدة، بعد أن رحلت عن شقيقتها، باقية على ذكرى ماض استمتعت فيه، فتروي لصديقها القديم «مراد حلمي» (زكي عبد الوهاب)، الذي رفض الزواج منها، عندما كانت تُلقب بـ «المغناطيس» بسبب جاذبيتها.

الآن، بعد سنوات طويلة؛ عندما تشردت سميحة مع عايدة، تذهبان الى «مراد»، حيث عرفتاه في الوسط الفني، عملت معه عايدة كمخرج، وكانت هناك لوعة حب من طرف مراد، لكنه حب مرفوض من قبلها. وها تجمعهما الأقدار مرة أخرى مع سميحة.

في مجريات الفيلم نشاهد «عايدة» وهي تهتم بنبتة الصبار التي زرعتها في شرفة شقتها، ربما تعتز بها لأنها نبتة تعتمد على قوتها في التشبث بالحياة دون كثير من الرعاية أو السقاية، وإن لم تفصح بذلك، ولكنها الرمزية المقصودة في الفيلم؛ لأن نبتة «الصبار» أكثر شبهًا بالحياة الجافة التي تعيشها، بالرمزية لواقعها في شح المياه والبيئة المحيطة بها، غير أن كل ذلك الجفاف يتوّج بطرد «عايدة» و«سميحة» من قبل صاحبة البناية، بسبب عجزهما عن سداد الإيجار، ليجدا نفسيهما في مهب الريح.

 

البحث عن مأوى مادي ومعنوي

تلتقيان بالشاب «ياسين» (مروان العزب) أو "الواد الحليوة"، كما تنعته سميحة، ربما لأنه يمثل شيئًا من حلاوة تطعّم حياتهما المرة، فهو حلو القسمات والروح، وبه يتكون ثلاثيًا يعكس معاني الصداقة والتآزر والألفة النائية عن المصالح المادية، إذ تمثل علاقتهم المحبة الانسانية؛ والمصير المشترك؛ لثلاث أجيال، يمكن تأويل التقائهم في ذلك التشابك الثلاثي إلى سياقات ثلاث: سميحة: الماضي بكل ما فيه من وجود حيوي لها وجاذب لمحيطها (المغنطيس)، وما يحمله من إخفاقات أيضاً... عايدة: ضياع الطفولة والمنعطفات الحادة التي ترتبت على ذلك... ياسين: بما يحمله من طموح الحاضر وأمل مرجو في المستقبل. إنها رحلة الحياة لعشاق الحياة؛ لقاء يمثّل دفقة المحبة التي تؤازر أزمات الانسان المعاصر.

تلتقي عايدة بـ«هند» (فرح المصري)، صديقتها القديمة منذ أيام الدراسة، الموهومة بحياة زائفة تتخذ من التدين الشكلي أسلوبًا لها، فهي تضع الحجاب "الموضة"، وتطلب لعايدة الهداية بنبرة دينية وعظيه مؤدلجة تعكس رعبها من سيطرة التيار الديني المضلل والقوي في آن، وركونها إلى هذا الدور الذي قد يخلصها من بطشهم ويضمن لها حياة مادية مستقرة بالزواج من أحد عناصره.

 

مشاهد بين الضعف والابداع واللا مفهوم

مشهد لقاء الصديقتان داخل السيارة؛ الأضعف والأكثر ميلودراما وادعاء في أداء الممثلة فرح المصري، ليس لأنها أدت بإحساس لا يتفق مع اللحظة السردية فقط؛ بل لأن المخرجة قادتها ووافقتها على هذا الأداء المفتعل: صديقتان تلتقيان في زحمة المرور وهند المحجبة داخل سيارتها مع سائقها، تجلس في المقعد الخلفي كسيدة ذات سلطة ومال، فتنادي على عايدة العابرة في الشارع وتتعرف عليها بعد سنوات انقطاع، وبدلا من دهشة اللقاء وانفعال فرحته نشاهد السكينة والندم والحزن واللوم والتصنع للإيهام بالتأثير والشجن. مشهد ضعيف، لكنه موفق في انشاءه الدرامي، ثم قطع وتدخل فانتازي مفاجئ واستكمال حوار الصديقتان: نرى فيه الصديقتين في مكان مظلم وخلفهما جدار مسمط؛ تتحاوران، هند بثوب عار يبين مفاتنها وجمال جسدها وشعرها المثير؛ وعندما تتغير زاوية الكاميرا نشاهدهما في شُرفة وخلفهما بنايتين: قصر فخم مكتمل البناء ـ خلف عايدة ـ تجاوره عمارة بهيكل أعمدة خرسانية لم تكتمل ـ خلف هند ـ لوحة تنطق بلغة رمزية بصرية موحية؛ لكنها تعبر سريعاً ولا تمكّن المشاهد من استيعاب رسالتها.

مشهد آخر في الفيلم يحمل حواراً وأداءً رائعاً: تقف سميحة مع مراد في شرفة شقته المطلة على النيل، في الصباح، يتألق الممثلان في حوار عميق عن فقده لحب وضياع وهجر عايدة، لتتركه ينتحب حظه من الحياة وعزوفها عن حبه؛ ينتحب رغم قناعته بأنها ساقطة رخيصة!

ثمة لقطات أخرى تنبض بجمال التصوير والحركة والحوار: عايدة وسميحة في منزل والدة عايدة (عارفة عبدالرسول) والثلاثة يتشاركن تقطيف أوراق الملوخية ويعدونها للطبخ؛ ثم يجلسن لتناولها.. الملوخية خضرة الحياة وزهوها؛ رمزية بليغة. ثم نرى الثلاثة يفترشن الأرض والكاميرا تصورهن من الأعلى وهن مستلقيات على نجيل أخضر منثورة عليه الورود، وتحكي عايدة عن قصة حبها المفقود. حلم الرومانسية واللحظات المسروقة، وبراعة تشكيل الصورة.

في نهاية الفيلم نشاهد مشاهدًا لا نجد له مبرراً أو معنى واضح، سوى أن نعتبره ضمن اللا مفهوم والغامض وغير المنسجم سوى فيما يدور في عقل مخرجة الفيلم. انها الرمزية الغارقة في الغموض التي تربك المشاهد والتي يمكن التمهيد لها حتى لا تكون فجة وناشزة. ولكن بمجهود لمحاولة الفهم نستطيع، فهم مشهد الاعتداء على ياسين من قبل "بلطجية" يمثلون قوى رسمية، لتثنيه عن نشاطه الإعلامي في البودكاست.

 

أن تحب من لا يحبك ويحبك من لا تحبه

تتعثر علاقة عايدة بحبيبها «أحمد» (صدقي صخر)، بعد ما رفض الزواج منها، كونه صاحب قناعة بأن «الممثلة سيئة السلوك ورخيصة، أيضا كمفهوم مرادً، ولكن مراد أحبها؛ غير أن أحمد لم يحبها بوجدانه، ولكنه اشتهى جسدها بغريزته؛ مكانتها لديه لا تتجاوز العلاقة الحسية العابرة، وظل يتهرب منها بأنه لا يستحقها وأنه شخص لا يطاق. كاتب مثقف ومخرج فنان يفكران بهذا الأسلوب وينقلان قناعاتهما العقيمة في كتبهما وأفلامهما. نقد حارق للثقافة والفن اللذان لم يغيران العقول، لكنه مصير عايدة التي أحبت ولم تجد الحب المقابل. أزمتها الوجدانية الحقيقية.

ثم نتوقف عند شخصية «باسم» (باسم وديع) الحاد في طباعه أو الواقع تحت تأثير اكتئاب نفسي بعد مروره بأزمة عاطفية مع صديقته الألمانية، وظهوره في مشهد تجريدي وهو يعدو ويلهث بلا طائل من أجل تحقيق ذاته، ومن ثم تشجيع عايدة وسميحة له على الاستمرار في الغناء، تمثل وبقدر كبير من التعبير عن أزمة الفنان المثقف المحبط، ولعلها صورة تكررت في أعمال سابقة.

بقي القول أن نجاح المخرجة في إدارة طاقم العمل، لم يتحقق فقط على صعيد التصوير (عبد السلام موسى: مصور مسلسلي: «موجة حارة» و«أفراح القبة» وفيلم «باشتري راجل»). والموسيقى الحسية المختارة أو المؤلفة الناقلة لنبض اللحظة (أحمد الصاوي: والتي جعلها مسالمة، لكنها ضافية بالتأثير السحري. نجاحها انما بالتحرر تماماً من الصور الذهنية المعتادة لطريقة أداء الممثلين، وتجسيدهم للشخصيات، وهو ما وضح بجلاء في أداء ممثلي الأدوار الرئيسة، واستخراج أفضل ما في جعبتهم، لا سيما البطراوي، التي ألمّت بدواخل الشخصية، وما عبرت عنه حركياً ونفسياً بأفضل صورة، ثم أداء سلمى العميق والقريب كالواقع تماماً، ويأتي أداء الشاب مروان العزب، بحضوره المتوائم، وتلقائيته اللافتة، وهو الذي بدأ مسيرته الفنية كناظم كلمات ومغني راب، ودرس التصوير السينمائي في كلية الفنون التطبيقية، وكاتب سيناريو للفيلم القصير «المجذوب»، الذي مثل فيه أيضاً.

سينتصر الحب؛ الحب بمفهومه الواسع، الحب الماء الذي يروي الظمأ والجفاف الروحي والعاطفي، الكل يغتسل ويتطهر بماء النيل؛ بل يتبارك به. الكل يلهو ويستمتع بالماء. تنثال ترنيمة بصوت «باسم»: (لما أكون تعبان أروح لمين غيرك ـ أنت اللي ترشدني يا رب أركع وأصلي لك).

سميحة وأم عايدة تدعوانها للنزول للماء، تهتف أمها: الحب جميل؛ ترد عليها: البحر بيخوف. تدعوها سميحة كفايكي جبن، وتدعوها للنزول.

أحمد يقف على الشاطئ بكامل أناقته ووجهه الجامد؛ واجماً كصنم، لا يستطيع الاقتراب من المياه، بينما تنزل عايدة الى البحر وتغتسل. ثم تدعوه فيأتي الى البحر ويحتضنها والماء يغمرهما.

مشهد ختامي: يسير الأصدقاء الثلاث: سميحة، عايدة، ياسين، وأغنية الشيخ إمام بكلمات أحمد فؤاد نجم؛ يؤديها ياسين بطريقة الراب:

دي كلمة من عذابي قلتها لك/ باقي كلمة من حنيني صنتها لك

في الضلوع من دنيا ظالمة/ كنت خايف يلمحوها يقتلوها في سكة ضلمة

شقشقت والنور بشاير/ يا نسيم الشوق يا طاير خد لمصر الصبح كلمة

طول ما يبقى الركب ساير/ بالبصاير والعينين

يبقى ضامن يمشي آمن يبقى عارف يمشي فين.

سينماتك في ـ  29 يوليو 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004