كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 

رحمة منتصر..

سيدة المنمنات في مونتاج الأفلام

كتابة وحوار سعد القرش/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 

روائي مصري رئيس تحرير مجلة الهلال (2014 ـ 2017)

صدر له : ـ ثلاثية أوزير (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد) ـ حديث الجنود ـ باب السفينة ـ سبع سماوات ـ الثورة الآن - يوميات من ميدان التحرير

وفي السينما: في مديح الأفلام.. مهرجانات ومدن وشعوب تحبها السينما (2016)

سعد القرش

 

 

رحمة منتصر..

سيدة المنمنات في مونتاج الأفلام

 

كتابة وحوار سعد القرش/ خاص بـ«سينماتك»

يكرم مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الرابعة (10 ـ 16 فبراير 2020) المونتيرة المصرية رحمة منتصر، وهي تنتمي إلى جيل المونتيرات الرائدات في السينما المصرية، وارتبط اسمها بمونتاج عدد من أبرز الأفلام التسجيلية والروائية المصرية لمخرجين من أجيال مختلفة، ولا تزال تواصل عملها أستاذا في المعهد العالي للسينما بأكاديمية الفنون في القاهرة، وكانت من أوائل خرّيجيه الذين برز منهم مخرجون شكلوا تيار الواقعية الجديدة في بدايات الثمانينات، ومنهم خيري بشارة وداود عبدالسيد وعلي بدرخان، وقد تخرج الثلاثة عام 1967.

لسبب ربما يخص الالتزام بالصرامة الحَرْفية للتعريب، يسمّى «المونتاج» في المغرب «التوليف». في المغرب أيضا يتخفّفون من همزة القطع الساكنة، ويستبدلون بها همزة وصل، فيطيرون بالحرف منزوع الرأس عاليا إلى نغمة الجواب، هكذا: «لا باس»، «ياتِيكم بضياء»، «ويامُرون الناس»، «لكيلا تاسَوْا على ما فاتكم»، بدلا من: «لا بأس»، «يأتيكم بضياء»، «ويأمُرون الناس»، «لكيلا تأسَوْا على ما فاتكم». وفقا لهذا القياس يكون «مولّف الفيلم»، وهو المونتير، أقرب عمليا إلى «مؤلف الفيلم»؛ فهو آخر من يتعامل مع المادة المصورة، ليصوغ في الشريط النهائي رؤية المخرج.

وبمشاهدة الأفلام يمكن التفرقة بين مولّف حِرَفي مهمته تركيب مشاهد الفيلم وتنفيذ السيناريو، ومونتير فنان يتفاعل بحساسية مع الفيلم، ويصنع له إيقاعا يخلّصه من أي شيء يعوق تدفقه، فلا تتلكأ العين في المشهد الواحد، ولا تتعثر في مطبّات بصرية بين مشهد وآخر.

من مدرسة المونتاج جاء اثنان من رواد الإخراج في السينما المصرية، هما صلاح أبو سيف (1915 ـ 1996) وكمال الشيخ (1919 ـ 2004)، وكلاهما عمل مونتيرا قبل التفرغ للإخراج. ومنحتهما سنوات المونتاج قدرة، ولعلها جرأة، على الاستغناء عما يمكن ـ أو ما يجب ـ أن يُستغنى عنه، وأن يكون الفيلم «مشدودا» خاليا من الترهل، محققا درجة توتّر عالية لا تنتهي مع كلمة «النهاية». أبو سيف الذي ألحقه نيازي مصطفى بالعمل في ستوديو مصر كان يعتبر المونتاج «لغة السينما.. أفضل مدرسة تعلمت فيها فن الإخراج.. يستطيع المونتير أن يحلل ويفهم أساليب المخرجين، ويرسم خطوط صعود وهبوط إبداعهم.. وعندما وقفت وراء الكاميرا مخرجا.. وجدتُ ما تعلمتُ أمامي». وأما كمال الشيخ ـ الذي التحق بالمونتاج عام 1938 تحت إشراف نيازي مصطفى أيضا ـ فهو مدين لفن المونتاج الذي مارسه نحو 14 سنة جعلته يدرك «عيوب أفلامنا، وتحاشيت الوقوع فيها، عندما أصبحت مخرجا». وقال الشيخ للناقد السينمائي كمال رمزي إن حرص المخرجين على الاستعانة به مونتيرا «يرجع إلى اهتمامي بدقائق التفاصيل: علاقة كل مشهد بالمشهد السابق واللاحق. اللقطة التي ينتهي عندها المشهد واللقطة التي يفتتح بها المشهد التالي. ترتيب المشاهد بهدف العمل على تماسك الفيلم دراميا... حتى بعد تفرغي للإخراج، تمسك أنور وجدي بأن أقوم بمونتاج جميع أفلامه».

أما كمال أبو العلا (1923 ـ 2008) فآثر التفرغ للمونتاج، اكتفى به ولم يتخذه جسرا إلى الإخراج.

وإلى مدرسة الإخلاص للمونتاج تنتمي رحمة منتصر التي عملت مونتيرا مساعدا لكمال أبو العلا في عدة أفلام أبرزها «المومياء» لشادي عبد السلام؛ وقامت بمونتاج معظم الأفلام التسجيلية لشادي عبد السلام وأفلام لمخرجين آخرين، قبل أن يرتبط اسمها لدى مشاهدي الأفلام الروائية الطويلة بمونتاج ستة أفلام تستقر في الذاكرة، وتحتفظ بمكانة تترسخ مع الوقت ضمن كلاسيكيات السينما المصرية، وهي: «يوم مرّ.. يوم حلو» 1988 و«إشارة مرور» 1996، وكلاهما لخيري بشارة، و«سرقات صيفية» 1988 ليسري نصر الله، و«شحاتين ونبلاء» 1991 لأسماء البكري، و«البحث عن سيد مرزوق» 1991 لداود عبد السيد، و«المواطن مصري» 1991 لصلاح أبو سيف.

بعد مونتاج نحو 25 عملا تسجيليا يليق بطموحها وذائقتها، جاء اختيار رحمة منتصر للمشاركة في مونتاج أفلام روائية طويلة، مختارة بعناية، قليلة العدد عالية القيمة الفنية؛ فلا يُرضي المعتز بمقعد «الأستاذ» إلا تجربة فيلم يستهويه، شُغْل غَناوة، تلبية لروح الهواية، واستفزازا لقدرات الخيال الحرّ، وليس التنفيذ النصّي لمناهج الاحتراف.

بمنطق الهواية، وغواية اللعب، يمكن أن نرى فيلمي «يوم مرّ.. يوم حلو» و«إشارة مرور»، من خلال مونتاج رحمة منتصر. كلا الفيلمين قصة قصيرة طالت قليلا إلى زمن الفيلم الطويل. يتمتع خيري بشارة بروح كاتب قصة قصيرة، يقتنص اللحظة، وتتجاوب رحمة منتصر مع هذه الروح المشاغبة، بتقطيع المشهد ولو قصيرا إلى لقطات بانورامية ومتوسطة ومقربة. ويستمتع المخرج باللعبة، ثقة منه بأن فنانة المونتاج أشبه بلاعب سيرك تبدو حركاته عفوية، ولكنها محسوبة بدقة، بوصول اللاعب معلقا في الهواء بالضبط حين تكون الحلقة مارة أمام يديه، فيتلقفها وإلا يقع ويدق عنقه. وهذا التقطيع يمنح المشهد إيقاعا لاهثا، فيه رشاقة وإشباع معا.

في فيلم «إشارة مرور» تحدٍّ آخر، فالأحداث تقع في ليلة واحدة، حول ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، والبطولة جماعية تناسب زحام منطقة «وسط البلد»، حين يتعطل المرور وتتوقف حركة السير، انتظارا لمرور موكب رسمي، فيلتقي مواطنون من طبقات وخلفيات مختلفة ما كان لهم أن يلتقوا إلا في مثل هذا الظرف القاهر، ويقضون ليلة لا يشعر معها مشاهد الفيلم بأي ملل، وإنما يدفعه الإيقاع إلى القفز وراء الشخصيات واستعجال المصائر، في مسرح محدود تتنازعه العتمة والأضواء، والمطر وانفجار ماسورة مياه، ومشاجرات نسوية.

في هذا الميدان تتوازى وتتقاطع خطوات لاعبيْ سيرك، موظف يصدم سيارة آخر قبل توقف الحركة، ممرضة تحلم بالشهرة كمطربة، عامل بناء تتعثر خطوبته لفتاة فقيرة أبوها رجل المرور المغلوب على أمره في الميدان، ضابط شرطة كبير قليل الحيلة يطالب المتذمرين من تعطيل المرور بالصبر، شاب يكلف بحمل قنبلة لاستهداف الموكب فتنفجر في منزل عجوز وحفيدتها، فتاة ليل تقدمت بها السن ولا يأبه لها أحد، رجل أعمال يتبرم من خسارته لتوقف حركة المرور وتتصارع عليه زوجته وعشيقته، عازف ترومبيت وحيد تنتهي علاقته بامرأة بائسة في حياتها الزوجية فتودعه متوجهة إلى المطار، مدرس كبير السن لا يهنأ بمولوده لعجزه عن الوصول بزوجته الموشكة على الولادة إلى مستشفى ثم تلد في الميدان، طالب جامعي يعجب ببائعة في محل فيتزوجان وليس معه مال إلا ما يشتري به حزمة من الصحف يفترشانها على سطح بناية.

كل هذه التفاصيل على خلفية مباراة لكرة القدم يذيعها التلفزيون، ويتابعها مواطنون في قهوة شعبية، مع الممرضة والعامل الشهم الذي تمكن من إنقاذ المدرس اليائس حين أشعل النار في نفسه. وفي القهوة يلحق بهم رجل الأعمال الحائر، برفقة الضابط الكبير. بضع ساعات مزدحمة بالحياة، تزخر بشجارات، إنهاء علاقات حميمة وبدء أخرى، فكّ خطوبة وفراق وزواج وولادة، فقراء ينجذبون إلى أشباههم، والثروة دائما تمشي بمحاذاة السلطة وفي حمايتها وكلاهما تفيد الأخرى. تفاصيل كثيرة تكفي لإغراق الفيلم وتشتيت المشاهد، ولكن المونتاج المتوازي، بحيوية وإشباع، يجيد تقديم كل شخصية بإيجاز، بملامحها النفسية والجسدية، بما كانته وما صارت إليه.

الجيل الأول من فناني المونتاج لم ينل حظه من التعليم الجامعي، أكسبتهم التجارب العملية خبرة عوّضت عدم انتظامهم في دراسة أكاديمية، على العكس من الجيل الذي حظي بمثل هذه الدراسة، ومن رموزه أحمد متولي وعادل منير، وإلى هذا الجيل تنتمي رحمة منتصر التي تخرجت في المعهد العالي للسينما بالقاهرة (قسم المونتاج) عام 1965، ولا تزال تعمل في المعهد نفسه أستاذة لفن المونتاج، وتشرف على ورشة المونتاج، وعلى مشاريع تخرج الطلبة منذ عام 1968 حتى الآن. كما قامت بتدريس المونتاج بمعهد التلفزيون وقصر السينما والمركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة.

 
 

 

 
   
 

التقت رحمة منتصر مع زوجها مهندس الديكور صلاح مرعي (1942 ـ 2011) في عدد من الأعمال التسجيلية الروائية ومنها فيلم «المومياء»، وكانت مونتيرة مساعدة لكمال أبو العلا، وكان صلاح مرعي مهندسا للديكور ومصمما لمناظر الفيلم، وفي الفيلمين التسجيليين «آفاق» عام 1972 و«كرسي توت عنخ آمون الذهبي» عام 1982، وكلاهما من إخراج شادي عبد السلام أيضا. وقامت بمونتاج الفيلم الروائي «إشارة مرور» الذي كان فيه صلاح مرعي مشرفا على الملابس وتصميم المناظر، كما أدى في الفيلم دورا قصيرا، جسد فيه شخصية طبيب في مستشفى يرفض استقبال المرأة الموشكة على الولادة. وقامت رحمة منتصر بمونتاج الفيلم التسجيلي الطويل «آفاق 96»، وهو العمل الوحيد الذي أخرجه صلاح مرعي، وأنتجه صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة المصرية. ويوثق الفيلم بدايات سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، ومن ثماره أعمال صرحية ومتوسطة الحجم من حجر الجرانيت، نحتها فنانون من أنحاء العالم، ووضع معظمها في المتحف المفتوح الذي أشرف صلاح مرعي على تأسيسه، ويطل على نهر النيل بأسوان.

ولا تكون الأفلام على وتيرة واحدة، قد يتحقق قدر عالٍ من الانسجام بين أبناء الجيل الواحد. خيري بشارة وداود عبد السيد من خريجي المعهد العالي للسينما (قسم الإخراج) عام 1967، ولكن صلاح أبو سيف ينتمي إلى جيل سابق، فكيف يكون التفاعل بينه وبين مونتيرة تلقت دراسة أكاديمية وتقوم بتدريسها لطلبة المعهد؟ جاء تجربة رحمة منتصر مع فيلم «المواطن مصري» مختلفة، على الرغم من وجود طارق التلمساني مديرا للتصوير، وهو أيضا مدير تصوير أفلام «يوم مر.. يوم حلو» و«إشارة مرور» لخيري بشارة، و«البحث عن سيد مرزوق» لداود عبد السيد.

في فيلم «المواطن مصري» يمكن التوقف أمام الصراع بين الرغبة والاستطاعة. نلاحظ نُـبل الطموح إلى صنع فيلم ناطق بأيديولوجيا مخرجه صلاح أبو سيف، بعد تقدم السن وتراجع القدرة على الإحكام، فجاء الفيلم أقرب إلى منشور سياسي تعليمي، إبراء سينمائي للذمة من سلوك القوى المضادة لمبادئ ثورة 23 يوليو 1952، وهي قوى شرسة لا تكتفي بالسطو «القانوني» على أراضي اكتسبها الفلاحون، وإنما تسرق أرواحهم، وتستبيح أن تنسب استشهاد «المواطن مصري»، في حرب أكتوبر 1973، إلى شاب تافه هارب من التجنيد هو ابن العمدة، وينال العمدة التكريم كأب لشهيد، كما يستعيد الأرض من الفلاحين.

هناك فرق بين الحكي الشفاهي لقصة ما، والسرد الفني المحكم للحكاية نفسها. وكان فيلم «المواطن مصري» أقرب إلى حكي لا يتمتع ببناء قوي، وهي أيضا سمة الفيلم التالي والأخير لصلاح أبو سيف «السيد كاف»، من إنتاج قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري 1994. ولكن صلاح أبو سيف يظل مخرجا مرموقا ورائدا رسّخ تيار الواقعية في السينما المصرية، بأعمال لم تخذل محبي السينما.

إنتاج التلفزيون من الدراما يلائم مشاهدا يسترخي في بيته وهو يتابع سهرة تلفزيونية، فلا يستعجل إنهاء اتصال تليفوني، وربما ينشغل بمقطع فيديو وصله في رسالة على هاتفه، ثم يواصل المشاهدة واثقا بأن شيئا كبيرا لن يفوته، وأن أغلب الدراما الرتيبة يغني سماع حواراتها عن دور غائب لحركة الكاميرا. وكان سامي السلاموني مضطرا إلى كتابة مقدمة طويلة عن ريادة صلاح أبو سيف، وأنه من محبيه «وتلاميذه والعارفين بقدره»، قبل أن يبدي رأيه في الفيلم المثقل بحوارات مطولة لا تترجم إلى حركة، ويقول: «أتصور أن مونتاج رحمة منتصر فعل المستحيل في الإسراع بإيقاع الفيلم الذي كان مصمما من البداية بحيث يكون بطيئا وإلى حد الركود وجمود الموقف أحيانا ولكنها أنقذت منه ما أمكن إنقاذه».

في «البحث عن سيد مرزوق» لا أتخيل رحمة منتصر فعلت شيئا ذا بال من المستحيل الذي أشار إليه السلاموني في تجربتها مع فيلم «المواطن مصري».

ففي «البحث عن سيد مرزوق» يتحقق انسجام هو حاصل تفاعل أضلاع المثلث: المؤلف/ المخرج، ومدير التصوير، والمونتيرة. ويتنوع المونتاج بين القطع الحاد والناعم بإظلام تدريجي لا يتباطأ، في الانتقال من مشهد إلى آخر، وفقا لطبيعة النقلة النفسية للبطل يوسف كمال وهو قاسم مشترك في كل المشاهد تقريبا. ونتيجة هذا التوافق ثلاثي الأضلاع تتلاحق المَشاهد، وتتدافع في مجرى ومنحنيات ولكنها لا تعوق هذا الفيضان، وتتلاحق الأنفاس أيضا، لمتابعة مصير يوسف كمال، النموذج المثالي لموظف روتيني تشابهت أيامه، وقضى عشرين عاما على وتيرة واحدة، وربما لم يسهر ليلة خارج البيت. ولكن خطأه في المشهد الأول، بذهابه إلى العمل يوم الجمعة واكتشاف أنه عطلة، ينسف عمرا من البراءة، وينقله إلى الخبرة. كان عالمه أحاديا بسيطا، يتفادى فيه الانخراط في الحياة، ولا يكاد يعرف عنها إلا مسار رحلته من العمل إلى البيت. وهو الآن ينخرط في عالم معقد، ويشتبك مع تفاصيله ومتاهاته وغموضه وكوابيسه، ويواجه في يوم واحد ما لم يره في حياته الماضية. ثم تكتمل الدائرة، آخر الليل، باتهامه بقتل مواطن صدمه رجل الأعمال سيد مرزوق بسيارة أهداها إلى يوسف كمال، فلا يكون من الشاب الذي لم يعد ساذجا إلا أن يتعامل مع العالم المتوحش بقانون هذا العالم، وهنا «يقرر» الانتقام من القاتل الحقيقي سيد مرزوق، ذلك الشيطان الذي يأخذ من كل شيء أقصاه، ويقابله يوسف كمال في كل مكان، في مركب نيلي وفي الصحراء وفي قسم الشرطة، وتجتمع فيه الصفات المتناقضة من الكرم غير المحدود والبذخ والشره لكل الملذات إلى الاستعداد لإيذاء البطل بالإبلاغ بأنه القاتل.

منمنمات رحمة منتصر تتجلى أيضا في الفيلم التسجيلي القصير «القاهرة 1830» لسمير عوف، وفيه تغني الموسيقى عن التعليق الصوتي، في نسغ فني مع لقطات متمهلة تستعرض لوحات مستشرق إنجليزي عن القاهرة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. اللقطات في الفيلم أشبه بفرشاة فنان تشكيلي، تبدو عفوية ولكن بينها تناغما، من مآذن تصافح السحاب، وحارات مزدحمة بأرباب حرف وباعة ومارة، ومصلين في المساجد ينتهون من الصلاة فيلتفّون حول دروس العلم، والمراكب الفقيرة في النيل، وكتبة الشكاوى للمساكين الأميين، والجمال المحجوب وراء المشربيات، وجوقة العازفين لراقصتين في مشهد يعتمد ليس على تقطيع الجملة، بل تقسيم الكلمة إلى حروف، وكل حرف ينطق بمعنى ويشير إلى دلالة.. من لقطة للجسد الكامل للراقصتين تتحاوران بالتمايل واختبار الليونة، إلى لقطة تالية للقدم اليسرى مرفوعة الكعب وتستند بتماسّ خفيف على الأصابع، كأنها على وشك الطيران، ثم صعودا إلى أرداف تضبط إيقاع الجسد، وصولا إلى الأذرع الرهيفة الدالة على تحرر الروح.

لا تُعنى رحمة منتصر، في ما يبدو، بأن يكون لديها قائمة تزدحم بالأفلام الروائية الطويلة، فهي قادمة من نبع آخر يزخر بالإشباع الفني، ذلك الذي تمثله الأفلام التسجيلية. وتزامن عملها الأكاديمي مع الاشتراك في أفلام تؤرخ لجوانب من التاريخ المصري. ففي عام 1966 عينت معيدة بالمعهد العالي للسينما، وكانت مع زميلتها منى الصبان أول دفعة يتم تعيينها في المعهد بقسم المونتاج، وقامت بوضع المناهج الأساسية لهذا القسم، وواصلت دراستها فحصلت عام 1971 على دبلوم معهد السينما في لندن، ومنذ عام 1972 إلى الآن تواصل التدريس في قسم المونتاج، فتتعهد الطلبة منذ التحاقهم بالمعهد وتنتقل معهم سنة بعد أخرى حتى السنة الرابعة، ويتخرج على يديها كل أربع سنوات دفعة، جيل واعد من فناني المونتاج. وقد خرّجت أول دفعة في المعهد عام 1976 ومنها المخرجون هاني لاشين وعمر عبد العزيز ومحمد أبو سيف ويوسف أبو سيف، ومدير التصوير محسن أحمد.

التواصل المباشر والمستمر على مدى أربع سنوات يتيح للطلبة أن يتعلموا من رحمة منتصر أسس نظريات للمونتاج، وتحليل الأفلام، والفرق بين مونتاج الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي.

 
 

 

 
   
 

هكذا تكلمت رحمة منتصر

أول سؤال يمكن أن يوجه إلى رحمة منتصر، يخص قضية الكثرة العددية والندرة لمن يعمل في الفنون عموما، وبالنسبة إليها تحديدا، ففي رصيدها ستة أفلام روائية طويلة، ولكن اسمها له حماية «تاريخية» خاصة جدا؛ للارتباط المبكر باسم شادي عبد السلام مخرج الفيلم الروائي الطويل الوحيد «المومياء»، وعلى الرغم من ذلك يأتي «المومياء»، وفقا لعدة استفتاءات عربية، في صدارة أهم الأفلام في تاريخ السينما العربية. في الفنون يُسأل دائما عن النوع، الكيف، لا الكم الذي ربما يكون ركاما لا يضيف. فماذا تقول رحمة منتصر؟

من يجمع بين العمل الإبداعي والعمل الأكاديمي، ويرى ثمرة عمله تتمثل في فناني مونتاج متميزين بعد التدريس لهم طوال أربع سنوات، لا بد أن يجيد انتقاء الأفلام التي ستحمل اسمه. ومنذ وقت مبكر عملت مساعدة للمونتير الكبير سعيد الشيخ في أربعة أفلام أحببتها: «الخائنة» عام 1965 لكمال الشيخ، و«خان الخليلي» عام 1966 لعاطف سالم، و«القاهرة 30» عام 1966 و«الزوجة الثانية» عام 1967، وكلاهما لصلاح أبو سيف. ولا أنظر إلى الأفلام أو أتعامل معها كعمل تجاري، وإنما أختار الأعمال المتميزة فنيا، وهذا يفسر القلة العددية للأفلام الروائية الطويلة التي قمت بعمل المونتاج لها. وتتميز الأفلام التسجيلية أيضا بالجودة، وخصوصا في تكوين شريط الصوت واستخدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية وكافة العناصر التي تمنح الفيلم شخصيته.

وعن الأعمال التسجيلية الأقرب إلى رحمة منتصر، وتتحمس للاشتراك فيها تقول:

أحببت مونتاج الأفلام التسجيلية التي تصور الفنون التشكيلية، فمن خلال المونتاج يتاح لي متابعة جوانب من هذه الفنون، حيث يتعانق فن العمارة بشموخه، والنحت صلابته، مع رهافة فن الباليه. وأول فيلم تسجيلي أقوم بعمل المونتاج له بعنوان «القاهرة 1830» وأخرجه سمير عوف عام 1969، من ثمار مركز الفيلم التجريبي الذي أشرف عليه شادي عبد السلام وتأسس بتكليف من وزير الثقافة ثروت عكاشة. وهذا الفيلم، الذي يستغرق تسع دقائق، يحاور لوحات المستشرق الإنجليزي ديفيد روبرتس (1796 ـ 1864)، وتسجل اللوحات رؤاه عن الشرق من خلال رحلته إلى مصر عام 1831، وقد استغرقت بضع سنوات ذهب خلالها إلى الجنوب حيث بلاد النوبة، كما زار بلاد الشام أيضا.

ومع سمير عوف قمت بعمل مونتاج فيلمه «لؤلؤة النيل» عام 1970، وهو وثيقة شديدة الأهمية لمعبد فيلة في أسوان وهو غارق، قبل إنقاذه ونقله إلى مكانه الحالي، في جزيرة نيلية أكثر ارتفاعا. وكان فيلمي الثالث من إنتاج مركز الفيلم التجريبي ومع سمير عوف أيضا بعنوان «مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب» عام 1975، وهو يخلو من التعليق الصوتي والموسيقى التصويرية، ويستمد موسيقاه من مؤثرات صوتية تتمثل في هدير تيارات المياه ومحركات السيارات حاملات الجسور التي تنزلق فترتطم بالمياه، وأصوات المطارق على جبهتين للقتال، من خلال تجربتيْ المقاتل المهندس فاروق والمهندس أحمد عفيفي، وقد ولدا عام 1948 وتخرجا في كلية الهندسة عام 1972. كلاهما في مهمة للإنقاذ، إذ يعمل المهندس فاروق في الشمال، في تجهيز الجسور العائمة تمهيدا لعبور قناة السويس إلى الشرق حيث جزيرة سيناء المحتلة آنذاك، لإنقاذها واستعادتها من الاحتلال الصهيوني. وأما المهندس أحمد عفيفي ففي الجنوب يشارك، بالكفاءة الفنية نفسها، في إنقاذ الآثار المصرية القديمة من الغرق، وهكذا يسهم في حماية جانب أساسي من التراث الإنساني.

ومن الأفلام التسجيلية القصيرة التي تحتفي بالفن التشكيلي، وقمت بعمل المونتاج لها «منمنمات تركية» عام 1970 إخراج هاشم النحاس، و«بيكار» عام 1972 إخراج محمد فاضل، و«إنجي» عام 1988، وأخرجه محمد شعبان عن الفنانة المصرية إنجي أفلاطون، ويستعرض جوانب من حياتها ونشاطها السياسي وأعمالها الفنية.

ولبداية عمل رحمة منتصر مع شادي عبد السلام قصة، وهذه بعض تفاصيلها:

في عام 1970 كنت مساعدة لكمال أبو العلا في مونتاج فيلم «شكاوى الفلاح الفصيح» وهو مأخوذ عن قصة من الأدب المصري القديم ترجع إلى حوالي سنة 2200 قبل الميلاد. وفي عام 1972 كان مونتاج فيلم «آفاق» لكل من كمال أبو العلا ورحمة منتصر. والفيلم الأخير بانوراما للحركة الثقافية والفنية في مصر آنذاك: فرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة، وفرقة باليه أوبرا القاهرة، وأوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة يوسف السيسي يقدم أوبرا كارمينا بورانا، إضافة إلى تصوير عدد من الفنانين التشكيليين المصريين في المراسم، وفناني الحرف اليدوية، ومواقع أثرية منها وكالة الغوري، وقصر المسافر خانة، ودار الكتب المصرية، ومقتنيات بدوية وأثرية من مجموعة الفنان صلاح مرعي، ودار الأوبرا التي التهمها حريق في 28 أكتوبر 1971.

وفي عام 1975 قامت بمونتاج فيلم «جيوش الشمس»، تحية لأقدم مؤسسة عسكرية في العالم منذ فجر التاريخ حتى حرب أكتوبر 1973 وفيها حقق جنود «جيوش الشمس» معجزة عبور قناة السويس. وتوالى التعاون مع شادي عبد السلام وصولا إلى «كرسي توت عنخ آمون الذهبي» من إنتاج الهيئة العامة للآثار عام 1982، و«بنك مصر» عام 1984، و«رمسيس الثاني» عام 1985.

وإذا كانت بدايات عمل رحمة منتصر في المونتاج بأفلام تسجيلية قصيرة، فإن السنوات الأخيرة شهدت مشاركتها في تجربة فنية مختلفة، مع الفيلم التسجيلي الطويل «وقائع الزمن الضائع.. محمد بيومي» الذي قدمه المخرج محمد كامل القليوبي عام 1991، في استعادة فنية وإنسانية لمحمد بيومي (1894 ـ 1963) الرائد الأول للسينما المصرية، وهو أول مصري يقف خلف كاميرا ليسجل جانبا من الحياة الاجتماعية والسياسية. أنجز القليوبي شريطا نموذجيا لبحث تاريخي شاءت المصادفة أن يصبح فيلما نادرا يرى النور، وأثناء تنفيذ الفيلم ـ الذي صوره محمود عبد السميع ـ كان القليوبي يعثر على الجديد، فيناقش فيه المونتيرة، ويضاف إلى فيلم يعتمد على المزج بين تراث صوره بيومي وعُثر عليه في منزله القديم، ولقاءات شخصية وخصوصا مع ابنته «دولت بيومي». ويمزج مونتاج الفيلم عدة عناصر تشمل الصور الفوتوغرافية والوثائق الورقية والمقابلات واللقطات السينمائية المصورة في بدايات عشرينيات القرن العشرين ومشاهد من أعمال لبيومي، ومنها أول عدد من الجريدة السينمائية «آمون» لتوثيق عودة سعد زغلول من المنفى، وفي اللقطة الأولى كتب هذه اللوحة «ترحيب الأمة المصرية بالرئيس سعد باشا زغلول.. أول شريط يقوم بإدارته وعمله مصري وطني». ولعبت موسيقى راجح داود دورا مهما في فيلم القليوبي، وتماهت مع اللقطات الصامتة التي صورها بيومي.

أخيرا ينتهي اللقاء مع رحمة منتصر، التي ترى أن المونتير هو أول ناقد للفيلم. وبعين النقد أيضا تنظر الآن وراءها بكثير من الرضا، عن خمسين عاما مع الخيال، وربما لا تتخيل حياتها من دون هذا الفن الذي أحبته، وأعطته بأقصى ما يمليه عليها هذا الحب.

(هذه السطور في محبة رحمة منتصر التي يكرمها مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الرابعة، وسوف تتسلم درع التكريم في حفل الختام، مساء السبت 15 فبراير الجاري).

سينماتك في ـ  12 فبراير 2020

جزء من هذه الدراسة نشر في

صحيفة العرب اللندنية بتاريخ ـ 16 يناير 2020

رحمة منتصر حائكة الصورة في السينما المصرية

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004