كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 

"فتاة المصنع" لمحمد خان

محسن الهذيلي * / خاص بـ"سينماتك"

عن محمد خان وفيلمه الجديد «فتاة المصنع»

 
 

آخر فيلم شاهدته للمخرج محمد خان كان "شقة مصر الجديدة"، حيث كنا في جو مختلف عما ظهر في الفيلم الجديد "فتاة المصنع"، وذلك سواء من حيث المكان والانتماء الاجتماعي للشخصيات وانشغالاتهم اليومية أو من حيث جو الفيلم وروحه.

وإذا كان فيلم "شقة مصر الجديدة" أجمل فنيا، فإن فيلم "فتاة المصنع" يتمتع بروح ونظرة إلى الانسان أكثر تفاؤلا وتراحمية.

وبالرغم من أن قصة فيلم "فتاة المصنع" تبدو عادية ليس فيها كبير جدة، إلا أن لها بريقا وجاذبية. وأساس ذلك، حسب رأينا، الحوار الذي سوف نتوقف عنده لاحقا. هناك عنصر آخر مهم أعطى الفيلم عمقه ودسامته السينمائيين، وهو الديكور أو الخلفية والإطار المكاني والموقعي.

فالفيلم كان مثل توثيق للأحياء الفقيرة والمعدمة في القاهرة وعمارتها اللا صحية واللا إنسانية، وكانت الصور في الفيلم، وهي توثق هذا، تجيؤنا جديدة مباغتة كأن لم نكن نعرفها أو كأننا لم نرها من قبل.

وربما نكون قد رأيناها سابقا في أفلام وثائقية ولكن من المؤكد أننا لم نرها في أفلام مصرية روائية بهذا الطرح، وهنا تأتي قيمة الحكاية، فالحكاية كانت تعطي المعنى لمشاهد تلك الأماكن، أو هي تعطي الروح للفيلم، وهي روح مغايرة عما يمكن أن نراه في أفلام مصرية أخرى كأفلام خالد يوسف مثلا.

فالحكاية هنا رغم عاديتها، أو بسبب عاديتها تتناقض مع الواقع المصوَّر فثير المشاهد وتدفعه للمقارنة بين شخوص الفيلم المرحين عموما والواقع الرث والمزري، وربما جعلته، أي المشاهد، يشعر بعدم الاكتراث لذلك الواقع ويلغيه من وعيه.

والحوار الذي هو نقطة القوة في الحكاية، نلتقي فيه بالروحية الجديدة التي تحدثنا عنها، وهي نادرة في السينما المصرية الأخيرة، إنها روحية متفائلة، تنتصر للانساني وتصور المصريين ليس في ضعفهم وتفككهم وإنما في تماسكهم وعمقهم الحضاري والروحي.

لذا فإننا بسبب هذا نعتقد أحيانا ونحن نشاهد الفيلم، أن محمد خان إنما كرم بفيلمه ليس سعاد حسني أو المرأة المصرية وحسب وإنما كل الشعب المصري وخاصة طبقاته الشعبية، وذلك رغم تصويره للرجل، ضمن هذا الشعب، بصورة سلبية جدا تبلغ حد جلد النفس.

وإن نجح محمد خان في التعاطف والتضامن مع شعبه المهمش والفقير والمعدم فإنه على مستوى العمل على الشخصيات كان قد أخفق إلى حد ما، فأولئك المعدمين لم يصورهم محمد خان معدمين حقا، لأنه لم يبرزهم أمامنا في كل أبعاد معاناتهم ومشاكلهم الواقعية.

يبدو لنا أن حياة شخوص الفيلم بعيدة عن حياة أناس الأحياء الفقيرة في القاهرة. الفيلم أرانا شخوصا نمطيين لا يبتعدون كثيرا عن شخوص أغلب الأفلام والمسلسلات المصرية، فهناك تنميط لحيوات الناس العاطفية والنفسية والأنثروبولوجية بحيث يختفي منها البعد المأساوي، فالأب مثلا لا نراه يعمل ويتعب، إننا نراه دائما راجعا من العمل وقد بدا مستريحا.

الأم أو الزوجة نراها إما تتزين لنفسها كما في مشهد الحناء أو تتزين لزوجها كما في المشهد الذي أخرجت فيه فستان نومها الأزرق الفائح ولبسته ووقفت على الشرفة تنتظر عودة زوجها، ثم رأينا اللقاء بينهما من خلال تبادل نظرات مرتاحة هادئة لا تشوبها أي شائبة انهاك أو حزن... إنها منتهى السعادة.

وجه الزوج الذي بدا شابا جدا نسبة إلى زوجته ساعد كثيرا على إشاعة هذه الأجواء. أما وجه الزوجة، التي كان أداؤها مقنعا عموما، فإن طبقات الماكياج الذي وضعته عليه كان يغطي بشكل درامي كل ملامحها، لذا لم نكن نتعرف فيه على حزن أو فرحة.

ونحن نوافق وربما نعجب برغبة محمد خان أن يصور جزء كبيرا من شعبه المهمش سعيدا وغير مهزوز فإننا كنا نتمنى أن نرى الواقع في ملامح الوجوه على الأقل، فنحس بأن الشخوص ليسوا في قطيعة مع الواقع الحقيقي وإنما هو الصبر والصمود وعمق التضامن والتراحم بينهم، وأن ذلك هو السر الذي جعلهم يتغلبون على حزنهم الظاهر بالسعادة الباطنة والحقيقية...

على المستوى الشكلي والفني، بدا الحوار جميلا ومميزا لأنه كان يعتمد أولا على أكثر من متحاوِرَيْن، وثانيا كنا نتابع، أحيانا، نفس الحوار عبر مشاهد متعددة. والحوار كان مثله كمثل الحكاية ليس فيه كبير تجديد، ولكن ذينك الأسلوبين هما ما جعلاه خفيفا وجذابا.

ولدي مثالان يمكن أن أسوقهما كأفضل مصاديق على ما قلت، المثال الأول يخص معركة الرجال وبينهم الزوج، كانت المعركة عادية لا تختلف عما يمكن أن نراه في الأفلام المصرية، ولكن تمثلت الجدة فيها في أننا لم نرها بشكل مباشر إلا للحظات ثم تابعناها من بعيد وتعرفنا على خلفيتها على لسان النساء اللاتي تفاعلن مع الحدث وعبرن على رأيهن من بيوتهن، وأثناء ذلك عرفنا أن الشاحنة التي يُتَخَاصَم عليها هي شاحنة الشراكة، ما يحيلنا من أجواء الخصام والسب والسلبية إلى أجواء التضامن التي تسود تلك الأحياء الشعبية فنحب الناس لإيجابيتهم ولا نزدريهم.

المثال الثاني كان في مطبخ الخالة، وجرى الحوار فيه بين الأختين والبنت، كانت الخالة أثناء هذا الحوار تتحاور في ذات الوقت مع شخصيتين لكل واحدة منهما أسلوبها في الحوار وخلفيتها وحالتها النفسية المختلفة، كانت تحاور أختها الغاضبة المستنفرة وابنتها المتجاهلة غير المكترثة.

وكان الحديث مع الأولى متوترا يدور حول مصير بناتها، أين قضين ليلتهن وأين ذهبن في الصباح والحديث مع الثانية حول تجاهلها لأمها وعدم فتحها الباب لها في الليلة المذكورة.

كان الحديث عاديا ومنتظرا ولكن طريقة إدارته وتقطيعه هي التي جعلته جديدا وخفيفا.

وإن أردنا الآن أن نتوقف عند هفوة مفصلية في الحكاية، فلابد أن نشير إلى بعض الخلط الذي ربما لم يمس جو الفيلم وإنما جعلنا نتساءل. إنها مسألة حمل هيام وتعليقها من المهندس صلاح، فكل ما في الحكاية يأكد لنا ذلك، بدءا من تصريح هيام نفسها، حيث اعترفت لأمها أن العادة قد تأخرت عليها شهرين كاملين ما يعني أنها حامل. وعندما نعلم أواخر الفيلم أن هيام لم تكن حاملا وهي لاتزال بكرا، نتساءل حول دواعي ادعائها الحمل أمام أمها مع ما يمكن أن يسببه ذلك من تعقيدات وربما ردود أفعال عنيفة جدا. بعدها يأتينا الجواب متناقضا، حيث نسمع في حوار بين هيام وجارتها التي تعمل معها في المصنع، أن الأخيرة هي التي "فضحتها" في المصنع بهدف إجبار المهندس صلاح على الزواج منها، ثم نرى ردة فعل هيام الغاضبة، وذلك بعدما كنا نظن أنها هي من أخرج إشاعة كونها على علاقة حميمة بالمهندس صلاح وإنها حامل منه.

نأتي الآن إلى الحديث عن إطار الفيلم المكاني ومواقع تصويره، ونؤكد إنها من أهم نجاحاته، وإنها منحته جمالية خاصة، وهذه الجمالية ليست مرتبطة فقط بالمشاهد والمواقع في الحارات الشعبية والفقيرة ولكن في التنويع المكاني الذي عرفه الفيلم، وخاصة في جزئه الثاني، فجاء خفيفا ومنعشا.

في الأحياء الشعبية كل الأماكن كانت ضيقة ومغلقة بما في ذلك الأنهج، إن الأنهج التي صورت في النهار وفي الليل كانت توحي دائما بذلك الضيق والاختناق وتلك الظلمة اللتان كنا نحس معهما حتى بالرطوبة.

المصنع، ما عدى مشهد الإطلالة من الشباك لتوديع المهندس المستقيل في بداية الفيلم، كنا نحسه مغلقا أيضا، وحتى الأماكن التابعة له كانت ضيقة ومغلقة كما في مثال دورات المياه. وذلك الممر أو السلم الذي كانت بطلة الفيلم هيام تلتقي خلاله في كل مرة مع المهندس صلاح كان نموذجيا في خصوص هذا الضيق الفضائي.

لذا فإن الفيلم عندما أخرجنا من هذا الضيق المكاني واللوني أسعدنا كثيرا وشرح صدورنا ونجح. لقد نجح في أنه ضيق علينا أولا ثم نجح في أنه نفس علينا ثانية. وقد بدأ التنفيس مع تلك الرحلة السنوية إلى البحر. بعدها انفتح الفيلم على كثير من الأماكن الخارجية المغايرة.

إلى جانب مشهد البحر الذي كان منعشا جدا كان هناك مشهد المستشفى الذي نزل فيه المهندس صلاح. رغم أن فضاءه كان يشبه مدرسة أكثر منه مستشفى إلا إنه كان ناجحا مشهديا وأنعشنا وأراح دوابنا.

فنيا أمتعنا الفيلم بكثير من الصور الجميلة والطريفة مثل ذلك اللقاء تحت الجسر بين التكتك والحافلة. بقية الصور الجميلة ارتبط أغلبها بالحضور المبهر لهيام، هذه التي ابتعدت في أسلوب أدائها عن كثير من نجوم السينما المصريات، كما أن جمالها كان متوافقا مع الشخصية التي أحسن الكاتب تحديد ملامحها.

لقد نجح محمد خان في تصوير هذه التحفة الفنية التي هي هيام وأحسن، وذلك سواء ضمن الأماكن التي نوع في اختيارها أو في تصويره لها في بورتريهات، وأجمل هذه الصور ما رأيناه في المشهد الأخير، أي مشهد الرقص.

من جهة أخرى اعتمد محمد خان على اللقطات البطيئة ليرينا هيام تحت سماء أخرى، تصويره لها في الشرفة وهي في لباس فرح أمها القديم تقفز في مكانها كان شاعريا وكذلك بالنسبة لمشهد الرقص الأخير.

اللقطة البطيئة استعملها محمد خان بنجاح أيضا في مثال سرد الزوجة على حماتها مناما زارها فيه زوجها المتوفى، أرانا محمد خان مقدم السيارة السوداء وهي تتقدم ببطئ في إحدى مناهج الأحياء الفقيرة الخالية، كانت الحماة خائفة وتسأل إن كان ولدها قد جاء ليأخذها معه أم جاء زيارة.

لونيا، لم تكن الاختيارات ناجحة في فضاء الخياطة في المصنع، الأحمر على الجدار كان طاغيا ولم ينجح المخرج في التغلب عليه، التنويع في لون الملابس المخيطة من أجل قتل رتابة الفضاء لم تكن موفقة هي الأخرى. إن فضاء الخياطة كان يشكو من رتابة واضحة حتى أننا لم نعد نريد أن نرجع إليه في النصف الثاني من الفيلم. عندما صوره محمد خان في إحدى اللقطات من وراء المروحة تنفسنا الصعداء.

اللون الذي طالعنا به محمد خان في المستشفى الذي رقد فيه المهندس صلاح، وأعتقد أنه مشمشي، كان عذبا ومنعشا.

في مناهج الحارات الشعبية لاحظنا أثناء الليل استعمالا غير موفق للون الأصفر، ربما أراد به المخرج الايحاء بالقدم والتآكل، ولكن لم تكن النتيجة مقنعة عموما.

كذلك بالنسبة للتصوير في الداخل، لقد كانت الألوان إصطناعية والإضاءة غير موفقة، في بعض المشاهد كما إحدى مشاهد السلم في بيت هيام كانت الصورة غير واضحة تماما.

بالنسبة للصوت، لاحظنا أن الأحياء الفقيرة كانت بلا صوت حقيقي، ما ذكرنا بأجواء بعض الأفلام والمسلسلات التي تصور في الأستوديوهات.

إستعمال الأغاني المتنوعة وبشكل مقتضب لتأثيث الخلفية الصوتية للقطة، كان منعشا وتكامل مع تقطيع الفيلم إلى مشاهد كثيرة وغير مطولة، بقي أن ذلك كان يعمق غربتنا بالمكان وأبقانا على عطشنا إلى الأصوات الحقيقية.

كان هناك المشهد الجميل الذي ظهر فيه القطار، كان هناك صوته، في اللقطة اللاحقة، لم نبرح المكان ولكن لم يعد للقطار صوت.

على مستوى الدراما، لم يبالغ الفيلم في وضع المتدينين في قفص الاتهام كما يمكن أن نلاحظ في أفلام المرحوم عاطف الطيب ووحيد حامد على سبيل المثال، ولكن لم ينسى المخرج أن ينهج تلك الممارسة ولو جزئيا، وبشكل أكثر تحيينا مما رأينا لدى الطيب، وذلك سواء في الشعار الذي رفعه المتظاهرون في آخر الفيلم، والذي كان متعلقا بالمرأة، أو في التلميح إلى أن الفتاة الحامل في مجموعة فتيات المصنع هي إحدى الفتيات المحجبات.

كما لاحظنا أن المواقف السلبية ضمن تلك المجموعة تنطلق دائما وتتزعمها فتاة أو فتيات محجبات. هذا الاختيار تابعناه حتى في اختيار العروس، التي جاءت من خارج المجموعة، والتي كانت محجبة، وذلك في مقابل بطلة الفيلم هيام التي رفعت غطاء رأسها لترقص به ولتغيظ العريس وعروسه.

 بالنسبة للتمثيل كان اختيار محمد خان على ممثلين وممثلات في الغالب غير معروفين ناجحا حيث أعطى لأجواء الفيلم شيئا من العفوية والتجديد، أداء الممثلين كان عموما مقبولا، ولكن ثلاث نساء تميزن وأعجبني أداؤهن كثيرا: الخالة (سلوى محمد علي) وابنتها والبطلة هيام (ياسمين رئيس).

كانت الخالة (سلوى محمد علي) في أدائها هي الأقرب والأنجح في تصوير تناقضات المرأة التي تعيش في الأحياء الشعبية الفقيرة وتغادرها في النهار أو في الليل لتكدح وتعمل بشرف، وهي المرأة التي تقف بأصالتها وذكائها النسوي على خطوط تماس الواقع المتناقض.

كل شيء في الخالة كان يصور لنا هذا التناقض وعدم الاستقرار، مشيتها، طريقة حديثها، ضحكتها الهستيرية، نكاتها، تدخلاتها العنيفة المبالغ فيها... كل ذلك في مقابل أصالتها وإصرارها على شرفها. والأهم من هذا كله: الإحساس والتعابير على مستوى الوجه المكفهر والنظرة الحزينة والخائفة والمفكرة والمترددة ولكن المصرة والصامدة في ذات الوقت.

بنت الخالة كانت ناجحة في أدائها أيضا حيث صورت بالفعل الفتاة غير المكترثة والأنانية، كانت البنت في ردود أفعالها طبيعية وكانت نظراتها معبرة جدا، خاصة وهي تنظر إلى أمها على جنب غير موافقة على ما تقوله أو تفعله، إنها القطيعة بين جيلين لكل منهما أحلامه وقيمه المختلفة وهي القطيعة بين الآباء المعذبين في الأرض والأبناء المرعوبين من الحاضر والمستقبل.

قبل الحديث عن أداء (ياسمين رئيس) في دور هيام لابد أن ننوه باختيار هذه الممثلة للاضطلاع بهذا الدور، فهي حتى في جمالها بعيدة عن ذلك الابتذال الذي غلب على كثير من الممثلات هذه الأيام، مع هيام نحس بشخصية الفيلم وليس بشخصية الممثلة المنتفخة حد الانفجار، كانت الممثلة رهن إشارة المخرج، متواضعة مستسلمة تفعل ما يطلبه لصالح الشخصية وليس لصالح الممثلة. كانت انفعالات هيام محسوبة وطبيعية وحركاتها رشيقة ومشيتها فيها كثير من العنفوان والأنوثة أيضا، بحيث تلاءم كل هذا مع الشخصية الأولى في الفيلم والتي كرم بها محمد خان كل أحبابه من سعاد حسني إلى الشعب المصري مرورا بالمرأة المصرية.

محسن الهذيلي

http://betweenkairouanandkyoto.blogspot.com

سينماتك في 19 أبريل 2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)