حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينماتك في مهرجان دبي السينمائي الدولي

"مطر خفيف في أغسطس"

فيلم كبير لـ"بلد صغير"

بقلم: محسن الهذيلي

 

مطر خفيف في أغسطس

AUGUST DRIZZLE

سريلانكا / 2011 / 108 دقيقة / 35 ملم ـ الفئة: دراما, سيرة ذاتية, فني

إخراج: أرونا جاياوردانا ـ إنتاج: كوسومسيري دي سيلفا ـ تأليف: أرونا جاياوردانا ـ تصوير: تشانّا ديشابريا ـ تمثيل (بالترتيب الأبجدي): تشانداني سينيفيراثن, جاغاث مانوارانا

ملخص الفيلم: يحكي الفيلم عن أهالي المنطقة الجافة في سريلانكا، ويروي قصة سيدة الأعمال "سوملاثا" التي تعمل في دفن الموتى، فينبذها المجتمع لأنه يعتبر مهنتها دنسة وملعونة. تحيا وحيدة، محرومة من الحب والحنان والزواج والأمومة، في حين أن طبيعة عملها والطرق المبتكرة التي تبتدعها لتجذب زبائن جدد، تسبب الضيق لمنافسيها في المهنة، من الرجال.

 

لقد استوحيت عنوان مقالي هذا من الكلمة التي ألقاها منتج الفيلم أثناء تقديمه لفيلمه بمناسبة مهرجان دبي السينمائي الدولي، وقد قال أن الفيلم يأتي من بلد صغير، كان القصد بالتأكيد صغر الحجم، لأننا منذ استفتاح هذا المنتج تقديم فيلمه باللغة السريلانكية أولا لأن في القاعة بعض السريلانكيين الذين جاؤوا يتابعون فيلم بلادهم في مسابقة المهر الآسيوي الأفريقي، منذ هذه اللحظة عرفت أن سريلانكا ليست بلدا صغيرا، بل هو بلد كبير بثقافته ولغته. بعد ذلك عندما بدأت مشاهدة الفيلم (الذي حسب منتجه نفسه قد اختير للمشاركة في عدة مهرجانات دولية منها مهرجان دبي وكوريا الجنوبية) بدأت سريلانكا تكبر في نظري بفيلمها الكبير جدا.

الفيلم السيريلانكي "مطر خفيف في أغسطس" لصاحبه أرونا جاياوردانا هو (إلى جانب الفيلم الصيني "كلب عجوز" لمخرجه بيمة تسيدان) الفيلم الأجمل من بين كل ما شاهدت حتى الآن في دبي 2011.

الفيلم هو من ذلك النوع من الأفلام غير القشرية أو المخففة، التي عندما تطرح موضوعا ما لا تنغلق عليه وتغمض عما حوله، وإنما تطرحه من خلال إنفتاحه على كل الحيثيات والأبعاد العامة والخاصة التي تحيط به.

"مطر خفيف في أغسطس"، الذي يصور حياة إمرأة تعمل في دفن الموتى، يتطرق بشكل مباشر إلى واقع هذه المهنة كما تدار في إحدى القرى السريلانكية الصغيرة، ويصور الصراع الذي يحكم العلاقة بين مختلف العاملين فيها وعلاقتهم المصلحية والإنسانية مع مختلف أفراد المجتمع من أشخاص عاديين وآخرين غير عاديين ممن يعتبرون أصحاب السلطة المطلقة والقرار النافذ في القرية.

خلال كل هذه العلاقات المتشعبة تحاول "سوملاثا" دافنة الموتى ضمان حياة هانئة وسعيدة وتعمل لتحقيق أحلام صاحبتها منذ طفولتها.

في هذا الإطار من الصراع والتزاحم الاجتماعيين نتابع ضمن الفيلم حياة إنسانية أخرى يزخر بها وجود دافنية الموتى، لا تختلف عن حيوات كل الناس، وهي حياة ترتبط بالعواطف وصراعات البقاء والنجاح التي كثيرا ما تنتج أحقادا كريهة تؤدي إلى جرائم كبيرة.

يتطرق الفيلم أيضا ضمن عالم دافني الموتى إلى ظواهر اجتماعية أخرى مثل سلوك المسؤولين الجهويين بمختلف درجاتهم وكيفية معالجتهم لقضايا المجتمع، وكيف يتملقون الناس ويلعبون على عواطفهم دون تقديم أي خدمة حقيقية لهم، فبينما كان الشعب يطالب في الفيلم بسياسة ناجعة لمقاومة هجوم الفيلة من حين لآخر على بيوتهم وقتل أفراد من عوائلهم، كان أقصى ما كانت تقوم به السلطات المحلية هو الإلتفاف على الموضوع وخلق اهتمامات جديدة سرعان ما تحولها إلى ظواهر وأحداث إعلامية.

في هذه الظروف يصبح العامل الديني مهما لاستغلاله من أجل إنجاح عملية تحويل الإهتمام وإشغال الرأي العام. هذا ولا ينسى الفيلم أن ينبه إلى مكانة الدين في المجتمع السريلانكا والأسلوب الذي يتدخل به رجل الدين للتأثير على حياة الناس الاجتماعية والسياسية والشخصية.

يشير الفيلم أيضا إلى بعض ممارسات الفساد ضمن سلك الموظفين الذين يوزعون جثث الموتى على دافنيها على أساس قيمة الرشاوى التي تقدم إليهم.

لا ينسى الفيلم أيضا أن يصور لنا مقتطفات من الثقافة الشعبية وبعض ممارسات التطير والنبذ على أساس بعض المهن كمنهة دفن الموتى.

إلى جانب ذلك، تعرفنا في الفيلم على كثير من عادات أهل "البلد الصغير" سريلانكا وذلك حتى على مستوى كيفية غسل الناس وجوههم حين يصبحون.

تعرفنا بالطبع على ديانة الناس وأماكن تعبدهم كالمعبد والنهر المقدس. من ضمن الطقوس الدينية، عرفنا بالتأكيد كيفية مواراتهم لموتاهم من خلال الحرق، كما تعرفنا على الطقوس التي تجري قبل ذلك في إعداد الموتى للاحتفال الأخير وإلباسهم الأبيض ووضع خوذات بيضاء في أيديهم، كما رأينا كيف يُأخذون من مقار سكناهم إلى حيث يحرقون، حيث يمشي المشيعون على البسط التي توضع أمامهم وتسابق خطواتهم.

كل هذه القضايا يطرحها الفيلم في إطار سرده لحكاية دافنة الموتى "سوملاثا" (تشانداني سينيفيراثن) ومساعدها الشاب (جاغاث مانوارانا) وذلك في خفة لامتناهية وأجواء ليست دون مرح وفكاهة، فالحزن الثقيل لم نره في الفيلم إلا في دقائقه الأخيرة حين أصبح من الطبيعي أن نحزن لأن كل عوامل الحزن قد اجتمعت وكل الأحلام قد دفنت، وذلك سواء بالنسبة لحلم بطلتنا دافنة الموتى أو مساعدها الشاب.

من أجل نجاح الفيلم في تصوير كل ما أشرنا إليه آنفا ومحافظته في ذات الوقت على خفته ولطفه كما أقررنا، استعمل المخرج آرونا في فيلمه الطويل الأول خبرة وإحساسا فنيا وجهدا سينمائيا لا يكل.

فعلى مستوى الصورة لا أتذكر أن هناك لقطة كانت تشبه أختها، وذلك حتى وإن تمت من ذات الزاوية، فاللعب على الألوان والأصوات وحركة الممثلين وزاوية التصوير وزمن التصوير (ليلا أو نهارا) وتأثيث الحيز، كل هذه العناصر كانت تتدخل لتعطي التنويع في المشاهد واللقطات وتجعلها كلها مختلفة وجديدة.

بالنسبة للصورة المرئية كانت الألوان دافئة أثناء النهار باردة أثناء الليل، وكان اللون البرتقالي هو الغالب خاصة حين تأخذ الصورة في الداخل، في مشهد المعبد وقد أثثه وجود بعض طلبته الدينيين في لباسهم البرتقالي الداكن كانت المسحة تميل إلى اللون الأحمر.

في الليل، كثيرا ما يكون اللون الأزرق هو الغالب في تصوير مشاهد الخارج وخاصة في مشهد المنام، في الداخل حتى في الليل كان اللون الحار أكثر حضورا، مشهد النهر كان يصور دائما عند الشروق أو الغروب فكانت ألوانه ساخنة.

فيما يخص الصورة دائما، كان هناك عمل متقن على مستوى الفرايمات، كنا نرى من خلال النهر جبالا تعطي خلفية شاعرية جدا، وكنا نرى أيضا أطرا تزينها الأشجار بفروعها المتعددة والكثيفة.

كانت هناك الأطر التي يصنعها الظلام المحيط بالكائنات، بحيث تكون البقع الضوئية- اللونية ضمنه مثل ملاذ آمن ولذيذ للعين.

رأينا هذا في تلك اللقطة التي صورت الصَّانعَيْنِ في السيارة ليلا، وكانت تتبعهما سيارة ثانية ترسل عليهما ضوءها، كان ضمن الإطار المظلم تماما للصورة فضاءُ داخل السيارة وحده مضاءً.

هناك أيضا تلك اللقطة الليلية أمام المعبد وضمن إطار أسود تماما، كانت قبة المعبد البعيدة المضاءة تبدو لنا كالمعلقة.

العمل على الإطار رأيناه أيضا ضمن الفضاءات المبنية، سواء إطلعنا عليها من الخارج أو رأيناها من الداخل أو نظرنا من خلال الداخل إلى الخارج.

كان الإطار في الفيلم يتنوع ضمن هذه الفضاءات ويتسع حين نطالعه من الخارج ويضيق ويصبح مجرد فتحة باب أو نافذة ذات شباك حديدي يأطرهما جدار داكن، وهو ما يضيق إطار الصورة ويحصرها في الفتحات التي إن دخل خلالها جسد أو وجه أحد شخصيات فيلمنا أحسسنا به إحساسا جديدا.

السيارات والباصات والشاحنات تعامل معها المخرج بنفس الأسلوب الذي تعامل به مع الفضاءات المبنية، كان الزجاج العاكس للحافلة يأطر النافذة الوحيدة المفتوحة التي رأينا من خلالها بطلة فيلمنا.

وسائل النقل والتنقل اعتمدها المخرج أيضا (وبإحكام) من أجل تشكيل أو إعادة تشكيل صوره، كانت تستعمل كإحدى العناصر التكوينية في الصورة أو تكون (وذلك في أغلب الأحيان) بمثابة العنصر المضاف الذي يتدخل ضمن إطار الصورة فيغيرها ويثريها، وذلك كما في مثال دخول الشاحنة المعبئة بالتوابيت على الصورة الثابتة فتزيدها جمالا وعمقا دراميا.

هناك الحضور الحيواني المتمثل أساسا في حضور بعض الكلاب المستلقية على الأرض، هذا الحضور المطمئن للكلاب أخبر عن الجو الآمن والمطمئن للمكان وعبأ وأثث في ذات الوقت إطار الصورة.

بالنسبة للخلفية الصوتية للصورة فقد كانت تعكس غالبا أصوات الغابة المحيطة، بتنوع حيواتها والمخلوقات التي تقطنها. ولكن هذه الخلفية لم نجدها على طول زمن الفيلم، فالفيلم كان يعفينا من سماع هذا الصوت (الذي يمكن أن يصبح مملا) من خلال إدخالنا إلى أماكن متعددة تقطعنا عن "ضوضاء" الغابة ويكون سماع أصواتها أجمل لنا وألطف وأخف. الفيلم كان كثيرا ما يخفف من هذه الأصوات أيضا ليسرب واحدا منها فقط وذلك من أجل إعطاء شعور بعينه مثلما فعل عندما أسمعنا صوت الذئب وحده ليشعرنا بالوحدة والخوف في نفس الوقت.

في مرة أو مرتين قطع الفيلم كل صوت وبقينا نستمع (كما في ذلك الفضاء الداخلي) لحديث وحركة صانِعَيْ الدافنة فقط، كان هذا المشهد خفيفا أراحنا كثيرا من ثقل ورتابة الصوت الضاغط المنبعث من الغابة المحيطة.

السيارات والشاحنات التي كانت تأتي بالتوابيت إلى مقر الدافنة كانت مثلما تتدخل في صياغة الصورة المرئية وإعادة تشكيلها كان لها دور كبير في تأثيث اللقطة والمشهد صوتيا.

صوتيا كذلك، كان للموسيقى التصويرية دور مهم في التنويع الصوتي وتخفيف الصفحة الصوتية للفيلم. لم تصاحبنا الموسيقى طيلة وقت الفيلم بحيث نملها، ولم تكن العنصر الأهم في إعطاء إيقاع الفيلم وإنما كانت موضعية وتتماشى مع بعض الأحداث الدرامية وتشارك مشاركةً في ترسيخ ريثم الفيلم الهادئ والعميق عموما.

وعندما نذكر مسألة الريثم في هذا الفيلم الجميل لـ"آرونا جاياودانا" لابد أن نتطرق إلى مسألة الأداء التمثيلي الجميل وإتقان المخرج إدارة ممثليه، إن هذا العنصر هو من أقوى أسباب نجاح فيلم "مطر خفيف في أغسطس". إن حركة الممثلين خلال الأطر المتنوعة للقطات، والأصوات المنبعثة من حواراتهم وحركاتهم في تنقلهم واستقرارهم لتعتبر توفيقا ونجاحا سينمائيا كبيرا.

كل الشخصيات الرئيسية في الفيلم لم تكن ثرثارة، زوجة صانع الدافنة لم تتكلم ولا مرة، هي ليست خرساء وإنما بها فكاهة وربما بعض بساطة عقل، وهي لم تنبس على طول الفيلم بأم شفة، فهي إما أنها تضحك وتقهقه أو تبكي وتتأوه.

نوع المخرج كذلك في حركة ممثليه فمنهم العجوز ذات الحركة الوئيدة ومنهم الشاب المتهور والأعرج ذو العصا ومنهم السكران المتأوه. أسلوب اللباس وطريقة تقمصه ووضعه أثرى حركة الممثلين وخاصة صانع الدافنة.

في نفس إطار حديثنا عن الأداء التمثيلي في الفيلم لا ننسى أن نبارك الإتقان والأناقة في أداء كل من "تشانداني سينيفيراثن" و"جاغاث مانوارانا".

في الأخير أقول بأن الفيلم السريلانكي هو رغم مشكلتيه التقنيتين اللتين ارتبطتا بالتفاوت الواضح بين الحركة والصوت في بعض اللقطات ومشكلة الوضوح في الصورة في لقطات أخرى، هو فيلم كبير كبير بكل المقاييس السينمائية رغم أنه يأتينا من "بلد صغير" في حجمه.

في آخر هذا المقال أشير إلى أن فيلم "مطر خفيف في أغسطس" هو واحد من الأفلام المخولة لنيل جائزة المهر الآسيوي الأفريقي أو نيل مخرجه لجائزة الإخراج أو نيل بطليه أو أحدهما (خاصة ممثلته التي كانت متميزة تماما ومبتكرة في أسلوبها الأدائي) جائزة أحسن تمثيل.

سينماتك في 12 ديسمبر 2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)