جديد الموقع

 
 
 

لاحق

1<<

05

04

03

02

01

>>

سابق

 
 
 

المذكرات الأصلية لفاتن حمامة

الحلقة الثانية..

ننشر المذكرات الأصلية لفاتن حمامة

عصام زكريا

 

حول مذكرات سيدة الشاشة العربية «فاتن حمامة»

 
 
 

·        أصبحت أستاذة فى الحب وعمري 16 سنة!

·        التقيت لأول مرة بالحب في هيئة ضابط بوليس علي محطة الأتوبيس

·        خطابات المعجبين حملت لي عرضًا للزواج من تلميذ في السنة الأولى الثانوية

·        وافق أبي على خطبتي لعز الدين ذو الفقار فتزوجته دون علم أسرتي!

لا يصنع النجم من الفراغ، ولا من عنصر واحد، ولكن تتضافر عوامل وظروف كثيرة فى صنع هذه النجومية. لا الموهبة الفنية تكفى، ولا الجاذبية الشخصية، ولا العلاقات، ولكنها مجرد نقاط قوة تتجمع فى ظرف تاريخى محدد واستعداد لدى الجمهور للوقوع فى حب هذا النجم. لقد تزامن مولد النجمة فاتن حمامة مع ميلاد صناعة السينما المصرية فى بداية الثلاثينيات، وخلال الفترة التى قضتها فاتن كطفلة من عام ١٩٣١ حتى مشاركتها فى أول فيلم وهو «يوم سعيد» عام ١٩٤٠، كانت السينما المصرية أيضا تتجاوز فترة طفولتها وتقترب من سن البلوغ!

وخلال عقد الثلاثينيات ظهرت، وازدهرت، الصحافة الفنية فى مصر وخاصة مجلات النجوم، التى تعتمد على أخبار وحوارات الممثلين المشهورين، وذلك سيرا على خطى صحافة النجوم الهوليوودية، ومن هذه المجلات مثلا «الاثنين والدنيا»، «أهل الفن»، «الاستديو» و«الكواكب» التى لم تزل تصدر حتى الآن، والتى نشرت المذكرات «الرسمية» لفاتن حمامة فى منتصف عام ١٩٥٦. ومن يرجع إلى المجلات والصحف الفنية لتلك الفترة سوف يفاجأ بالتطور المهنى والتقنى والجرأة والنفوذ الذى كانت تتمتع به. يمكن القول أيضا إن هذه هى الفترة التى ولدت فيها «صحافة الباباراتزى» أو الشائعات الفنية، التى تستهدف الحياة الخاصة بنجوم السينما، والتى لاقت، ولم تزل، قبولا واسعا من القراء فى العالم. ومثل معظم النجوم والنجمات، كانت فاتن حمامة موضوعا أساسيا لهذه الصحف والمجلات، ولم يكن لديها مانع من ذلك بالطبع طالما أنها تخدم نجوميتها وصورتها الذهنية لدى جمهورها، ولكنها بدأت تعانى من المشاكل مع هذه الصحف مع قضية طلاقها من عزالدين ذو الفقار وزواجها من عمر الشريف، وأصبح لديها «حلفاء» و«أعداء» فى الصحافة وفقا لموقفهم منها.

فى العدد ٤٢ من مجلة «أهل الفن» الصادر فى ٢٩ يناير ١٩٥٥ ينقل الصحفى أحمد ماهر رأى فاتن حمامة فى الشائعات التى كانت قد بدأت تنال من حياتها الشخصية:

«إن الفنان شخص مشهور قد تفوق شهرته السياسيين والصحفيين. ويستطيع السياسيون أن يحموا أنفسهم من الإشاعات بحكم سلطاتهم ونفوذهم، ويستطيع الصحفيون أن يحموا أنفسهم من الإشاعات أيضا بالاتفاق السارى بينهم- فأنت لا تجد سطرا واحدا فى إحدى المجلات أو الصحف يتحدث عن صحفى.. ويخوض فى حياته الخاصة، ولكن الفنان هو الوحيد الذى لا يستطيع حماية نفسه حين يتلقى الصحفى الإشاعة ويتناولها بقلمه ليزوقها ويعدها فى القالب الذى يرضى صناعته.. ويعتقد أنه يرضى جمهوره.. وأنا أخالفه كل الرأى، فالجمهور لا يحب أن يقرأ هذه الفضائح والإشاعات عن أحب الناس إليه». بجانب الصحافة الفنية، كان «نظام النجوم» الذى ابتكرته هوليوود قد أفرز ظاهرة أخرى هى «نوادى المعجبين»، الذين يشكلون جمعية أو تجمعا باسم فنان بعينه، وكذلك ظاهرة رسائل المعجبين إلى النجوم، والتى غالبا ما تتضمن عروضا بالزواج وتنتهى بطلب صورة تحمل توقيع الفنان.

مذكرات فاتن حمامة وأحاديثها الصحفية فى تلك الفترة تكشف الكثير عن حياة وتاريخ السينما المصرية وحياة المصريين بشكل عام.

فى هذه الحلقة من مذكرات فاتن حمامة، كما نشرت على صفحات مجلة «الكواكب» نركز على حكاياتها العاطفية، حتى زواجها الأول من عز الدين ذو الفقار.

أحببت الحب قبل أن أعرف معناه.. وعشت فى اللفظ قبل أن يبعث الشعور فى قلبي، وناقشت الحب، وأفتيت فى مشاكله حتى حملت لقب أستاذة فى الحب.. ثم.. ثم التقيت بالحب فى محطة «الأتوبيس»، التقيت به فدعانى وألح فى النداء.. ولكنى صممت أذنى دونه.. وإن لم أستطع منع قلبى عن الخفقان.. ولأبدأ الحديث من أوله.. كنت فى ذلك الوقت طالبة بمدرسة الأميرة فوقية الثانوية بالجيزة.. وكنت أغادر المدرسة عصر كل يوم فأسير مع زميلاتى حتى محطة الأتوبيس فنفترق عندها حيث أبقى أنا لأنتظر الأتوبيس العائد إلى المنيرة، ولاحظت فى أحد الأيام أن ضابطا شابا كان يتعقبنا.. كان يتعقبنى منذ اللحظة اللى نغادر فيها باب المدرسة حتى اللحظة التى يصل فيها الأتوبيس وكان يبدى اهتمامًا زائدًا.. وكنت ألاحظ نظراته وحركاته التى تدل على أنه يريد التحدث إليّ، ولم أعر الفتى اهتمامًا.. ولم أقم للأمر وزنًا فقد رأيت فيه أحد هواة معاكسة فتيات المدارس.. ثم خيل إلى أنه خطيب إحدى الصديقات من أعضاء الشلة.. ولاحظت أنه كان يواظب على مطاردتنا.. ولم يخطر ببالى أنه يتابعنى، وفى يوم سار خلفى خطوة بخطوة حتى بلغت المحطة.. ولما وصل الأتوبيس صعدت إليه فصعد هو فى إثرى وجلس فى جواري.. وهو مازال على صمته.. لماذا لم يتكلم؟ ثم ماذا يريد؟ هذه الأسئلة راودت أفكارى وأنا أجلس إلى جوار ضابط البوليس.. كان يبدو مرتبكا بعض الشيء.. ولم أفسر ذلك على أنه الحب.. وأن ضابط البوليس يحبنى أنا بالذات ولما تركت الأتوبيس.. نزل فى إثرى دون أن يتكلم، وفى اليوم الثانى وجدت ضابط البوليس أمام باب المدرسة وكان يقف فى منتهى الهدوء وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار وكأنه ينتظر أحدًا.. ولما شاهدنى أغادر المدرسة باتجاه محطة الأتوبيس سار ورائي، وقبل أن أصل إلى المحطة رأيته يتردد طويلاً. ثم تغلب على صمته وتقدم إلى يحيينى ويسألنى بصوت منخفض يخنقه الخجل؟ حضرتك مش الآنسة فاتن؟ ولاحظت من طريقة كلامه والسؤال الذى وجهه إلى أنه يريد التأكد من شيء أكثر مما يدل على أنه يحاول معاكستي.. ولذا اضطررت إلى الرد عليه بأدب فقلت: أيوه - وتلت «أيوه» خطوة إيجابية أخرى قام بها إذ قدم إلىّ نفسه باسمه وتلاه بالوظيفة والعنوان ثم سألنى عن إخوتى الشبان كل باسمه، وزعم لى أنه صديق لهم وأنهم كثيرا زاروه فى منزله، وهو يريد أن يرد لهم الزيارة ولم أعلق على كلامه بشيء.. وكنت خلال ذلك أحاول أن اكتشفت نواياه.. وقد اكتفيت بالصمت وبابتسامة مفتعلة وأخرج هو رسالة مطوية من جيبه قدمها لى وقال وهو ينصرف هذه رسالة إلى شقيقك أرجو تسليمها إليه، واختفى ضابط البوليس.. لقد عاد فى نفس الطريق بعدما رمقنى بنظرة فيها الكثير من المعاني.. لعلها نظرة حب.. أو لعلها نظرة إعجاب المهم أنى فكرت كثيرًا من المعانى بنظراته بينما كان يتوارى فى الزحام.. وأمسكت الرسالة بيد مرتجفة وأنا أسأل نفسي: ترى لأى واحد من أشقائى سأعطى الرسالة، فقد كانت الرسالة تحمل اسمى وليس اسم شقيقي.. وقد سبق الاسم كلمات ثلاث هي: إلى معبودة قلبي.. وبأنامل ترتجف.. وفضول غريب فضضت الرسالة.. وما إن قرأت الكلمات الأولى منها حتى وجدت نفسى أمام رسالة غرام.. رسالة تكاد تلتهب من حرارة كلماتها.. كان أسلوبها جميلاً.. وكانت عباراتها رغم الهيام الذى تنطق به منتقاة مهذبة، وقرأتها مرة واثنتين وثلاثًا.. ومهما كان حكمى على الرسالة يومئذ أو الآن، فإن الذى أعلمه جيدًا أنها خاطبت فىّ الغرور قبل أن تخاطب فىّ العاطفة، إن كل فتاة يهمها أن يقدر جمالها، ويهمها أن تشعر أنها جميلة فى عيون الآخرين.. قبل أن يهمها الآخرون.. وأسرعت إلى البيت، وكان أول ما فعلته هو أن أتخلص من الرسالة.. فقد كان إعجابى بأسلوبها ممزوجا بالخوف منها فهى شيء لا يمكن أن يرضى عنه أهلي، وأنا طيلة حياتى لم أفعل ما يغضبهم، ودخلت حجرة والدتى وفى هدوء تام وضعت الرسالة بين يديها بعدما أوجزت لها قصة تسلمى لها، ومزقت أمى الرسالة، ورحت أرقب قصاصاتها الصغيرة وهى تتسلل عبر النافذة إلى الطريق، وأحسست فى تلك اللحظة أننى أشيع شيئًا عزيزًا وكريها فى آن واحد، وعلى حافة السرير العريض جلست والدتى تلقننى درسها الأول.. وكان الدرس محاضرة تبين لى كذب الشراك التى يقصد بها الشبان قلوب الفتيات ... وفى اليوم التالى كان كاتب الرسالة يقف على محطة الأتوبيس.. كان يقف فى انتظار أن يرى نتيجة ما فعله بالأمس، وتقدمت إلى المحطة ووقفت إلى جواره وقد علا وجهى التجهم، ولم يجرؤ على محادثتى كما لم ألتفت إليه، والتقيت به فى اليوم الثالث أيضا كان همه الأكبر أن يشعرنى أنه إنما ينتظر مجىء الأتوبيس فعلاً، وأن لقاءنا مجرد صدفة، ولكن هذه «الصدفة» المدبرة تكررت فى اليوم التالى والأيام التى تلته، وعاش على أمل أن أرضى عنه أو أبتسم فى وجهه، عاشها لحظات قاسية على محطة الأتوبيس ولكن نصائح أمى كانت بمثابة حاجز حال بينى وبينه.. وذات يوم ذهبت إلى المحطة فلم أجده.. استولى عليه اليأس فانصرف.. لم يكن وجوده يعنى شيئا بالنسبة لى ولكن غيابه ضايقني.. ضايقنى كثيرًا، وأنا اليوم لا أدرى ماذا كان شعورى نحوه، هل أحببته؟ هل شعرت نحوه بعاطفة الحب السامية، الواقع أننى أنا و«أستاذة الحب» قد عجزت عن مواجهة أول تجربة تعرضت لها، وخرجت منها بنتيجة لا أعرفها خسارة أو ربحًا، كان قلبى يخفق وخفقاته كانت تختلط بالخوف الذى بعثته أمى فى نفسي.. وهكذا خنق الخوف حبى الأول.. وكأنه قدم مارد وطئت شجيرة ضئيلة فحالت بينها وبين النمو..

ومرت الأيام.. ونسيت الحب.. وكل ما يحيط به.. وتاهت فى ذاكرتى الأطياف والصور كما يغوص حجر أسقط فى بركة عميقة - لم أكن قد شعرت بالحب.. أنا «أستاذة الحب» .. هذا الساحر.. الذى اسمه «الحب» والذى تحدثت فيه كثيرا وناقشته مع رفيقاتى لم يعرف طريقه إلى مشاعري، عرفته فقط.. فى القصص.. والحكايات والسينما.. وعدت إلى العمل فى السينما.. فاشتركت بدور مهم فى فيلم «أول الشهر» الذى اضطلعت ببطولته صباح، حسين صدقي.. ثم تعاقد والدى باسمى على فيلم آخر هو «الملائكة فى جهنم».. وفى «الملائكة فى جهنم».. كان دورى فى الفيلم الجديد من الأدوار الهامة التى استغرقت أغلب أيام التصوير فى الاستديو، وكنت بحكم العمل على اتصال يومى بأحد الفنيين المشتغلين فى الفيلم.. كان شابًا مهذبًا.. رقيق الشعور طيب القلب ينتظر له الجميع مستقبلاً كبيرًا فى عالم السينما.. وقد حققت الأيام هذا التنبؤ، وكان شعورى نحوه شعور الشقيقة التى تحترم أخاها الأكبر، وكان هذا الشعور يدفعنى إلى معاملته معاملة لا تكلف فيها.. ويبدو أن هذا الشاب فسر هذه المعاملة تفسيرًا آخر غير ما كنت أعنيه فقد فوجئت ذات مرة بوالدى يقول لى إن هذا الشاب تقدم إليه طالبًا يدي، ولست أدرى لماذا غضبت يومها غضبًا شديدًا.. وثرت ثورة عنيفة، وكدت أعلن إضرابى عن الذهاب إلى الاستديو.. لولا أن أبى استطاع أن يقنعنى بأن هناك طريقة مهذبة للرفض لا تقضى على الصداقة.. ووافقت والدى على هذا الرأي.. فاعتذر إلى العريس.. وأبلغه أننى أريد متابعة دراستى إلى النهاية وأن الزواج سوف يمنعنى من تنفيذ ما أريد.. وعلمت فيما بعد من الأصدقاء.. ومن معارفنا بأن رفضى الزواج من هذا الشاب أثر عليه وأنه أصيب بصدمة عاطفية عنيفة.. ولكنى لم أهتم للأمر كى لا يفسر عطفى عليه نوعًا من الحب..

وكان أول خطاب تلقيته من معجب هو ذلك الخطاب الذى حمله إلىّ البريد بيد دورى فى «ملاك الرحمة»، وكان المعجب من سورية، وقد أسهب فى وصف نفسه وتحدث عن ثروته.. ثم ختمه بطلب متواضع.. الزواج؟ وأسرعت إلى والدى وأنا أنتفض من الغضب والخوف وأعطيته الخطاب وقرأه ببطء ثم ابتسم وقال: «بكره حيجلك كتير زى ده.. ما يهمكيش اللى فيها.. إنما لازم تردى عليها.. ده واجبك نحو المعجبين». وفى نفس هذا اليوم صحبنى والدى إلى مصور معروف التقط لى عدة صور فى أوضاع مختلفة، وطلب منه والدى أن يطبع ٥٠٠ صورة من كل «بوز».. وسألت والدى عن سبب هذه الكمية الضخمة، فقال: إن خطابات المعجبين تزداد كل يوم ويجب أن نرسل لهم صورك.. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أتأخر فى الرد على رسالة، ولا أضن بصورتى على من يطلبها.

وأثناء دراستى فى المعهد ذهبت لمشاهدة فيلم اسمه «الباحثة عن الحب»، وأعجبنى هذا الفيلم إلى درجة أننى شاهدته أكثر من خمس مرات.. وقصته تدور حول فتاة توفرت لها كل أسباب السعادة ولكنها حرمت من غذاء القلب، وعاشت تبحث عن هذا الغذاء الذى يساوى فى نظرها كل ما يحيطها من أسباب السعادة وكنت أعطف عطفا شديدا على بطلة الفيلم لحرمانها العاطفي.

وكنت فى تلك الأيام كأى فتاة فى مثل سنى أرسم فى مخيلتى صورة فتى أحلامي، وكان هذا الفتى كما تخيلته وسيمًا، سامق القامة، معتزًا بنفسه شجاعًا، وصريحًا.. وليس من حرج أن أذكر الآن أن الصورة التى رسمتها فى ذهنى عن فتى أحلامى لم أجدها فى واحد من زملائى طلبة المعهد فقد كانوا جميعا بعيدين كل البعد عن الصورة، ولذلك كانت الأخوة الصادقة هى إحساس علاقتى بهم جميعا، ودامت دراستى بالمعهد عاما وبعض العام، فقد ازدادت ارتباطاتى بالعمل فى الأفلام فكان من العسير أن أجمع بين بطولة هذه الأفلام ودراستى بالمدارس الثانوية ثم الدراسة بمعهد التمثيل.. وكان أن تركت المعهد لأتفرغ لعملى فى السينما ثم دراستى بالمدرسة.

وبدأت الصحف والمجلات تنشر صورى وأخباري.. وأصبح الجمهور يهتم بي.. وصرت أتلقى كل يوم عشرات رسائل الإعجاب.

أصبحت مشهورة.. فقد بدأت أسير فتلاحقنى العيون.. وأقف فتلتف حولى الشلل، وأدخل المحلات فتترك البائعات جميعا أماكنهن ليهرعن إلى ويعرضن خدماتهن عليّ.

وكنت، كأى صبية فى أيامها الحلوة، أبتهج كل الابتهاج من اهتمام الناس بي، ولم يقف هذا الاهتمام عند هذا الحد، بل امتد إلى البريد فبدأ الساعى يحمل إلىّ خطابات من أنحاء العالم، وكانت هذه الخطابات تتضمن الكثير من الطرائف وكانت هذه تثير اهتمامى فى بادئ الأمر ثم أصبحت مع الأيام شيئا مألوفا.. وقبل أن أنقل إلى القارئ جزءا من هذه الطرائف يجب أن أقول إننى عنيت منذ البداية بأمر خطابات المعجبين فكنا أنا ووالدى نمضى عدة ليال ساهرين فى الرد على هذه الخطابات، وأصبحت مضطرة أن ألتقط صورا فى كل شهر لأطبع منها آلاف النسخ وأرسلها إلى المعجبين والمعجبات موقعة بإمضائى، ومازلت إلى اليوم على اهتمامى هذا بكل ما يصلنى من خطابات، وأنا اليوم أستعين باثنين من الموظفين مهمتهما الأولى هى تولى الرد على هذه الخطابات وإطلاعى على الردود قبل إرسالها، وكثيرا ما أتولى الرد بنفسى على خطاب أراه يستحق ذلك.

ونعود الآن إلى خطابات المعجبين الأولي.

كان أغلب هذه الخطابات من طلبة المدارس الثانوية وطلبة الجامعة، وكانت كلها تحمل عروضا للزواج، وقد أحصيت عدد هذه الخطابات من هذا النوع التى تلقيتها خلال الأشهر الأولى فجدتها حوالى ثلاثة آلاف خطاب.. هذا تلميذ فى السنة الأولى الثانوية يعرض على إعلان الخطبة وإرجاء مراسم الزفاف إلى أن ينتهى من دراسته الجامعية، وآخر يعرض على الزواج فورا ويبدى استعداده لقطع الدراسة وافتتاح مؤسسة تجارية، وثالث يعرض على مهرا قدره عشرون جنيها ودراجة.

وكانت دراستى فى المدرسة ثم اندماجى فى الحياة الفنية وكثرة ما قرأته من كتب عن الحياة والحب والسعادة.. كان لكل هذا أثره الكبير فى تكوين شخصيتى الفنية.

ثم جاءت المرحلة التى تمر بها كل فتاة وكل شاب.. تلك المرحلة التى تتعارض فيها الآراء.. آراؤها الشخصية ورغبتها فى الانطلاق والتحرر من أية سيطرة، وآراء والديها اللذين يعارضان نزعاتها ونزواتها..

وكان أول صدام من هذا النوع شيئا طريفا حقا، فقد رغبت فى ارتداء الأحذية ذات «الكعب العالي» ولكن والدتى رأت أن هذا النوع من الأحذية لا يناسب سنى مطلقا، فكانت مناقشة حول هذا الموضوع انتهت بانتصارى ثم تعاقبت الاصطدامات بسبب الاختلاف فى الآراء والتفكير بعد ذلك بصور مختلفة.

وبالرغم من هذه الاصطدامات لم تكن تتعدى المناقشة الودية وانتصار رأى على رأي، إلا أن هذا لم يبعد عن ذهنى لحظة فكرة أننى فتاة مقيدة ليس لها أن تتصرف فى شئونها الخاصة، إلا بإذن من والدها..

ومن هنا بدأت فى نفسى الرغبة فى التحرر من أية سيطرة.. وامتلأ رأسى بأفكار كثيرة تؤدى إلى هذا التحدى وانتهت هذه الرغبة بقصة سيأتى ذكرها فى حينه..

وعدت ذات يوم من المدرسة لأجد والدى ووالدتى جالسين فى الصالون يتهامسان فى اهتمام كبير، وما كاد والدى يرانى حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة، ووالدى يبتسم دائما عندما يريد أن يعرض علىّ أمرا هاما يتصل بشئونى الشخصية.

وقد بادرته قائلة: «خير يا بابا».

فقال: «أريد أن أجلس معك قليلا لنتباحث أمرا يخصك شخصيًا»..

ودخلت غرفة الصالون، وبدأ والدى الحديث فقال: «لقد تقدم إلى مدرس شاب له دخل خارجى كبير إلى جانب مرتبه، وهو يرغب فى الزواج منك فما رأيك»؟

وقطبت جبينى حين سمعت النبأ.

واستطرد والدى يقول: «وقد اشترط شرطا واحد هو أن تعتزلى الفن».

وقلت لوالدي: «وماذا قلت له؟ ألم ترفض طلبه؟ ألم تقل له ليس عندى فتاة للزواج؟»

وقمت إلى غرفتى الخاصة وأغلقت بابها علىّ ولم أغادرها إلى صباح اليوم التالي..

وكان أن رفض والدى الخاطب الجديد.

وكنت أنا ووالدى فى تلك الأيام نتردد على «بيت الفن»، وقد كان ناديا أنشأه بعض الفنانين ليترددوا عليه هم وزملاؤهم..

وكان الأستاذ عز الدين ذو الفقار من بين المترددين على هذا النادي، وقد قامت بينه وبين والدى صداقة قوية وكان عز الدين يستعد لإخراج فيلم «أبوزيد الهلالي» لحساب المطرب محمد أمين وكان من المتفق عليه بين منتج الفيلم ومخرجه أن تقوم إلهام حسين بدور البطولة فى هذا الفيلم.

وفشلت الشركة فى الاتفاق مع إلهام حسين فبدأت تبحث عن بطلة جديدة تصلح للقيام بدور البطولة، وفوجئت بإسناد الدور إليّ..

وقمت بدور البطولة، فكان خطوة كبرى فى حياتى الفنية.. وبعد نجاحى فى هذا الفيلم رشحت لأدوار بطولة أخرى فأسندت إلىّ بطولة فيلم «العقاب» وبدأ اسمى يلمع كنجمة من نجوم الصف الأول.

وفى هذه الأثناء كنت قد انتهيت من فيلم «أبوزيد الهلالي» وكان الأستاذ عز الدين ذو الفقار مخرج الفيلم قد تقدم طالبا يدي، فوافق والدى على طلبه بشرط أن يؤجل كل الإجراءات إلى ما بعد انتهائى من دراستى الثانوية.

وافق والدى على خطوبتى للمخرج عزالدين ذوالفقار، ولكنه اشترط تأجيل إعلان الخطوبة والزفاف حتى أنتهى من دراستي، وراح عزالدين يتردد علينا فى البيت..

وفكر عزالدين بعد خطوبتنا فى تكوين شركة سينمائية، وعرض الأمر على والدى فوافق على المساهمة فيها وبدأ الاثنان يستعدان لتنفيذ المشروع.

وكنت أنا فى تلك الفترة من حياتى على أبواب السادسة عشرة وكان أغلب اهتمامى فى تلك الأيام منصبا على قراءة الروايات العاطفية، وقد جمعت من هذا اللون ما يكفى لتكوين مكتبة ضخمة تتضمن بين تراجم أشهر العشاق وأشهر الروايات الغرامية..

وكان من المعروف عنى أننى لا يمكننى أن أفتح كتابا جديدا وأترك مكانى قبل أن آتى على السطر الأخير منه، ورأى والدى إزاء هذا الاهتمام الكبير أن يصحبنى إلى طبيب للعيون ليعمل لى نظارة طبية خشية أن يتأثر بصرى من القراءة المستمرة..

كنت أقرأ خمس ساعات متواصلة كل يوم، وكثيرا ما كان عملى فى الاستديو يستغرق أوقات النهار وبعض ساعات الليل، فكنت أضطر إلى السهر بجوار أحد المصابيح الكهربائية أقرأ حتى ساعة متأخرة من الليل..

وافق والدي، كما سبق أن قلت على خطوبتى إلى عز الدين ذو الفقار، واتفقنا على تأجيل حفلة الزفاف إلى ما بعد انتهاء دراستي.

ورضى عزالدين بذلك بالتأجيل بعدما لمس مدى شغفى بالدراسة ورغبتى فى دخول الجامعة للحصول منها على الإجازة الدراسية.

ولكن الأقدار أرادت غير ما أردته لنفسى وغير ما اتفقنا جميعا عليه.. كنا نعمل فى فيلم «خلود» وهو الفيلم الذى ساهم فى إنتاجه أبى مع عز الدين، وخلال تصوير الفيلم اتفقت أنا وعز الدين على أن نكتب الكتاب ونختصر الطريق، وكانت مفاجأة للأسرة حين عدنا من عند المأذون زوجين.

 

البوابة نيوز المصرية في

07.06.2015

 
 

المذكرات الأصلية لفاتن حمامة ـ عصام زكريا

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004