زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 76

فيلم جائزة النقاد الدوليين، (نظرة ما)

The Settlers (Los Colonos)

"المستوطنون" للتشيلي فيليبه غالفيث... أثمان الدَّم والأكاذيب

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 

"المشكلة هي أنَّ السكان الأصليين، يأكلون القطعان. افتحوا طريقاً آمناً وسريعاً إلى المحيط الأطلسي لأغنام بلدي. وقوموا بما يلزم لتنظيف الدَّرب". شخصية الأرستقراطي التشيلي خوزيه مينيندز (الملقَّب بـ"ملك الذهب الأبيض")، يلمح ـ في مفتتح الشريط ـ الى زمرته بتنفيذ إبادة هنود سيلكنام. 

لا أخيار في باكورة التشيلي فيليبه غالفيث "المستوطنون"، الحائز على جائزة الفيديرالية الدولية للنقاد السينمائيين "فيبريسي"، ضمن عروض خانة "نظرة ما" في الدورة الـ 76 (16 ـ 27 مايو 2023) لمهرجان كانّ السينمائي، إنَّما وفرة دماء وقتل وتصفيات حاقدة واستحواذ مقنَّن وبطيء.

فيلم ضروريّ لأنَّه ينظم الى سينما لا تزال تتمسّك بشجاعتها في التَّنديد بكولونياليات، وإن بارت قبل قرون، لكنّها تنهض اليوم من رمادها بأشكال ودعاوى ومكائد حداثيَّة. أشاعت آنذاك الموت عبر سخرة تعاقديَّة لمرتزقة، حملوا سيوفهم وراياتهم وصلبانهم لفتح عالم جديد/ قديم واستعماره واسترقاق بشره. رجال (وحتما نساء) شقُّوا طرقهم بغِلّ عنصريّ للاستحواذ على غنائم أرض وخيرات وممتلكات، مستمتعين بـ"صيد" أعراق يرونها "ناقصة الإنسانيَّة"، ويستوجب محوها. هذه عقيدة شريط غالفيث وشريانه الحكائيّ الذي يقتصر على شخصيات ثلاث، تقوم برحلة طويلة الى عمق أرخبيل "تييرا ديل فويغو" النائي في جنوب تشيلي، يسميه المحليّون "نهاية العالم"، بتكليف من أرستقراطي ثريّ (الممثل ألفريدو كاسترو) من أجل فتح طريق تجاري، يُسهل وصول ماشيته من قلب مراعيه الشَّاسعة الى موانيء المحيط الأطلسي ، بيد أنَّ مهمَّتهم السريَّة هي محقّ جميع السكان الأصليين، ونزع  ملكيتهم لتضاريسها.

عسكري إسكتلنديّ من نُذُول الجيش الإمبراطوريّ، يتفاخر ببزَّته المميّزة كدليل على خدماته للتَّاج وولائه، وأميركي من تكساس مهذار يتعامل مع محيطه كراعي بقر جلف وأحمق ونزق، وشاب كتوم بعينين تحملان كمَّاً هائلاً من الندم، وطَّلَّة كائن بلا هويَّة أو قناعة، كونه من أنسال خلاسيّة مختلطة. الأول، قائد البعثة. الثاني، حربتها ولاقم بنادقها برصاصات الهمود، أما الأخير فهو دليلها وكاشف شعاب "أرض بكر"، تتحوَّل لاحقا الى مقابر جماعيَّة، والمرشد الى مسارات هَمَجها وقراهم وموؤلهم، وفوق كلّ المهمَّات هو عين القتلة، وشمَّام روائح أبناء جلدته، والماهر في الرماية وقنصهم.

ببصيرة شعريَّة شديدة التَّأني، ومشهديات أثيريَّة خاطفة الجمال، وعوالم بيئيَّة غارقة بتنوّعها وألوانها وصمتها وغموضها، وأرواح ملعونة لثلاثة أشخاص، تنال نزعات دّم من إنسانيّتهم، و"كلبية بشريّة" تقصد منايا يسيرة، وبروح "الويسترن" كجنر سينمائي، موضب على فصول تحمل عناوين كئيبة مثل "نصف الدَّم"، "نهايات الأرض"، "الخنزير الأحمر"، وأولها "ملك الذَّهب الأبيض"، وموغل بعنف وشراسات وذمم ميّتة ساعية الى ضفر بأيّ ثمن، يستدعي غالفيث تاريخاً قومياًّ حديثاً ذا مرجعية أيديولوجية، تعود الى الاستعمار الإسباني في القرن السادس عشر، يتنكر بعناد وصفاقة الى حقبة مظلمة في تاريخ البلاد، حيث تعرضت أقوام سيلكنام الى إبادة واسعة النطاق على يد أجلاف مَنْ بدأ يسمون أنفسهم بالتشيليين. صراع يراه المخرج الشاب (سنتياغو، 1983) لا يزال حيّاً الى اليوم ليس كذكرى، بل إنَّ الكشف الملتزم لمتونه والجهات المتورّطة بإجتثاثاته، يثبت إنها مازالت تتحكم بمقاليد القوَّة، ممعنة على إنكار جرائمها، وهي: عرق أبيض ورجال أعمال ومؤسسة حاكمة وكنيسة.

لن يصوّر شريطه الوقائع كتهمة أزليَّة وحسب، إنَّما وسَّع من سجاله لنزعات موت "تلوّث" كيانات بشريَّة، أو حالات ذهنيَّة كما يحسبهم غالفيث، الى حد الهوس بتكليفات مقدَّسة لتنظيف أرض ميعاد. حدث هذا في العام 1901، وما زال يحدث الأن. يتناسل المرتزقة بكثرة، مشكّلين عصبة رجوليَّة بيضاء لا تثق ببعضها، وتتبادل أفكارها من منطلق احترازيّ، يحصَّنهما من غدر متبادل أو خيانة رفيق درب. تتشكَّل الحوارات بين ماكلينان ممثل العالم القديم (مارك ستانلي)، وبيل ممثل العالم الجديد (بنجَمن ويستفول) متناً كلاميَّاً لتحيّز عرقيّ فاضح. تخطيطاتهما، في واقعها، توكيد لنصر لن يحيد عن مساره، ويجب أن يتمَّ مهما كلف الأمر. هما سليلا مغامرون لا يهابون وحشة طريق، فالتَّكليف الرَّباني عبر شخصية الكاهن الممثل لجماعة الإرسالية الساليزية، وهو شريك سلبيّ وفي الغالب شبه صامت، يمدهما برؤى ذاتية للعدم والموت، ذلك أنَّ وجودهما مرتهن بالنَّصر وإتمام العهد.

لئن تصبح هاتان الشخصيَّتان واضحتي المعالم كوحشين بشريَّين، يضع المخرج غالفيث الشاب سيكوندو (كاميلو أرانثيبيا) طرفاً ملتاثاً بـ"نصف الدَّم" الذي يجري في عروقه من أم تعود أصولها الى قبائل مابوتشي وأب إسباني (ربَّما يكون مغتصبها). هذا "البغل الصغير" (وهي ترجمة الإسباني المحكي لنعت "الخلاسي") يُبيّت قصاصه، ويتحيَّن فرصه بصمت فريد، وكأنَّه إستجابة دراميّة لبرّيَّة قصيَّة، لا تسمع فيها سوى أصوات الريح وعصفها ونداءات حيواناتها، وهي تترقَّب خطف أرواح هائمة وفقاً لناموس ألهي أبديّ. شاب يغلي بسبب معصيته لنطفته وهُجنته. يتشارك مع سفَّاحين درب جلجلة مديد، يقودهم الى أرض نار ستتوهَّج بضياء طلقات بنادقهم المتوجهة نحو أجساد همج، قبل قطع أذانهم جميعاً، كي تسهل حقَّ "تبييض" المقاطعات من رجسهم.

كائن مجبر على التَّواطؤ في جرائم أمبرياليّين، قبل أنْ يصبح رمزاً لمحنة مزدوجة: أوَّلها، إنَّ جسارته فيها تبقى متردّدة، فالسَّبيل الوحيد لإنتقامه هو إرتكاب غيلة ضد رفاق/ أعداء، يصوّرها الإيطالي سيمونيَ ديركانجيلو، المعروف عالميا بمنجزه الرائع في "حكاية السلطعون الملكي" (2021)، بمرئية بيضاء ناصعة ذات نفس إسطوريّ، ووفقاً للنسبة الأكاديمية (1:33:1)، هي موجات ضباب هائلة، يظهر سيكوندو من بين طيَّاتها الهلاميَّة مصوباً فوهة سلاحه الى ظهر الأميركي خلال ساعات الإبادة. أنَّها فرصة ثأره التي قد تحقّق له بعثاً جديداً، وتبارك تطهير  ضميره، غير أنَّ قراره المخالف لتوقع المشاهد يثبت أنَّ بطانته أسودَّت، وأنَّ نواياه كسدت.

 
 

في هذا المقطع الجارح، الذي يُذكر بنظيره في شريط "أبيض على أبيض" (2019) للإسباني التشيلي ثيو كورت، حيث يتوه المصوّر الفوتوغرافيّ المهووس بين الجثث موثَّقاً المجازر بحق الشعب الأصلي ذاته, يجعلنا الثنائي غالفيث/  ديركانجيلو نلمح الرجال الثلاثة كقنَّاصة، تحرسهم الغداة الباردة وسحبها. بيل يشمّ رائحة ضحاياه، وماكلينان يصيخ السّمع لضجة فرارهم، فيما تغشَّى دموع النّدامة بصر سيكوندو ليطلق رصاصاته في الهواء... هكذا يتلافى إكراهات مستوطنين بيض على الإعدام، ويتبرَّأ من إزهاق أرواح أهله. حسب غالفيث وشريكته في كتابة النصّ أنتونيا جيراردي، فمناورته لن تجعل منه، هو البالغ من العمر عشرين عاماً، بريئاً لأنَّ ما وطنه في نفسه هو البقاء حيَّاً بأيّ ثمن، بدلاً من إعلان إنحيازه الى مروءته وإنسانيَّته.

من جهة أخرى، يعي سيكوندو، وهو اسم ازدرائيّ، أنَّ ليس أمامه ـ كتابع ـ سوى الإذعان للأوامر أو الموت، عليه فهو كائن شبحيّ. يرى ولا يتكلَّم. ينفَّذ ولا يشكو. ينتظر ولا يزوغ. شاهد كُتِب عليه أن يكون شريكاً في التَّعميد الدَّمويّ للجنس المنحط. أيضا، فالشاب بصمته، يبدو عاجزاً عن الإشارة الى وعي ما أو ثقافة شعبيَّة توارثهما، وعاجز عن التعبير عن خياره لهويَّة واحدة من الاثنتين اللتين تسريان في شرايينه. محنته جليَّة في أنَّ القطب المطلق لن يسمح له بضمان أمان عيشه. هو محظوظ في البقاء حيَّاً فقط لأنَّه ماهر في الرماية ولا شيء آخر.

من هنا، فخطاب "المستوطنون" (97 د) يصبح مقسَّماً بين كتلتين ذكوريتين. القتلة باعتبارهما وصفاً لهيمنة ساديَّة، في مقابل خلاسي لا يملك حقاً في جدال أو إعتراض أوأستقباح. حين يستبدّ بهما التَّجبّر، يرغمانه على مضاجعة امرأة تحتضر، فهما جزء صغير من عدوانيَّة شاملة في منطقة حتى الرياح المجنونة فيها لا تتوقَّف عن عنفها. ينتهي هذا المقطع بفضاء مفتوح وألوان ناصعة ومشرقة لرجال على ظهور الخيل، وهم ماضون في تنفيذ الوصية، كما هي شخصيات رواية "القرمزي الدموي" (1985) (أو كما ترجمت عربياً "خيط الدّم") للأميركي الراحل كورماك مكارثي. "يقفز" نصّ غالفيث/ جيراردي الى حقبة متأخرة، تكون مشهدياتها المتقابلة داخلية وجامدة حيث يتحرك مينيندز داخل قصره البرجوازيّ المنيف كقوَّة غاشمة، بنت ثروتها وأمجادها على همجيّة وموت، فيما نرى "البغل الصغير" سيكوندور مع زوجته داخل كوخ بائس ومظلم ومتقشف يقع في جزيرة تشيلو النائية. إنَّ المصيرين المتناقضين يضفيان مسحة سوداء وساخرة لمعاني المسؤوليّة والسلطة والتَّبعية.

*****

ما جرى في جرائم بداية القرن العشرين التشيلي، أصبح لاحقا هدفاً حكوميَّا للاستغفال والنسيان المتعمَّدين، يقول غالفيث: "قصة الفيلم ليست جزءاً من التاريخ الرسمي لتشيلي. كما أنَّها غير مدرجة في المناهج الدراسيَّة. لم أكن أعرف شيئا عن الإبادة الجماعيَّة لهنود سيلكنام. لقد اكتشفتها من خلال قراءة مقال، نشر قبل خمسة عشر عاماً، ذكر هذا الواقع الخفيّ لها. في المدرسة، ينتهي تاريخ تشيلي في العام 1973، ولا نتحدث عن الديكتاتورية التي تلت ذلك. التاريخ الرسمي للديكتاتورية لم يكتب بعد".

إذن تمَّ محو وقائع هولوكوست باتاغونيا من الذاكرة القوميَّة طواعية، وبسمسرة سياسيَّة مشبوهة، لأنَّ الشعب المنكوب أعتبر رسمياً مجتمعاً منقرضاً. يصرّ غالفيث عن حق، أنَّ الأمر لن يختفي من واجهة الاتّهام التَّاريخي، لذا يعمد بفطنة محسوبة في المقطع الأخير من شريطه الى عملية استقصاء وتنقيب عبر عرض لقاءات وشهادات ومواجهات مع وجوه أساسيَّة، خصوصا من عائلة مينيندز التي ما زال أحفادها يملكون بأساً سياسياً واقتصادياً في تشيلي والأرجنتين.

في هذا الفصل الهام، يتحوَّل "المستوطنون" الى مساءلة إجباريَّة وعصريَّة ليقين التاريخ، مستمدَّة  بياناتها من أحداث موثّقة، وأيضا روايات أدبية وقصص شعبية ولوحات تشكيلية وأفلام أرشيفية، مجادلاً فيها عمَّنْ يملك السّطوة في إفلات الجناة من قصاصهم؟. وهل أنَّ الصَّواب السياسي ودعواته في تأمين تعايش اجتماعي سلمي، يبرر إغلاق ملفّ دمويّ بهذا الحجم؟. يولف صاحب "رابتور" (2018) في ختام فيلمه مقطعاً ديناميكيّاً من صور تاريخيّة مصبوغة بلون أحمر، كإشارة الى عنف من نوع أخر، تمثله شخصية فيكونا (مارسيلو ألونسو) الذي يملك كاميرا وله القدرة على إعادة كتابة التاريخ، إلا إنَّه يصرّ على القول: "لا يهمني ما حدث للهنود، أنا بحاجة الى صورهم!"، مختصراً فاجعة كبرى وتراكماتها لروح أمَّة ملطَّخة بدماء ونحر عنصري ولا ندم، سائراً على نهج مواطنه المعلم باتريسيو غوسمَن، ومعه جواهر السينما اللاتينية، في تفكيك الإستعمار وعاره وفاشياته المتناسلة تباعاً.

سينماتك في ـ  15 أغسطس 2023

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004