زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 76

فيلم جائزة لجنة التحكيم (نظرة ما)

 Un Certain Regard ـ Jury Prize

Hounds (Les Meutes)

"عصابات" للمغربي كمال لزرق..

هَوَامّ كازابلانكا

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 

لا تخوم دراميّة لباكورة المغربي كمال لزرق "عصابات" (94 د)، لأنَّ القهر المجتمعيّ بلا قرار أو منتهى. بشر مهمَّشون، يمارسون جرائم صغيرة، يعيشون حياتهم وفقاً لترتيب مصادفات، وتخطيط صفقات، وإبرام مهمات قذرة. الحكاية بسيطة، أب وابنه وميتة غير مخطط لها. كائنان مكلَّفان خطف شخص فاز بقمار "معركة كلاب" على غريم لن يقبل الهزيمة، لينتهي جثة هامدة بين أيديهما. الحلُّ في التَّخلص منها بأيَّ ثمن، وأن تدفن في أيّ مكان لا يثير الرّيبة، أو يقود السلطات إليها.

الخطّ الدرامي العام، المغرق بإرَّتجاليته كتابة وتمثيلاً، مطروق بيد أنَّ الخيارات المرئيَّة لدى المخرج لزرق تحوُّل رؤيته القاتمة في ما يخص محيط بطلين مهمومين بعثراتهما غير المتوقّعة، الى تورية لسَقَر مغربي، تشتعل نيرانه في كل زاوية زقاق أو باحة بيت فقير أو فضاءات عارية عند تخوم كازابلانكا. يلعب الحيّز دوراً حاسماً في "الميزانسين" المغلف بظلمة ليل عدائيّ وقاتم وألوان كابية وظلال وحشيَّة، مسقطاً نذره وشتائمه وتحاملاته السياسيّة والأخلاقيّة وقيم العيب الأسريّ المغيَّبة، على حظوظ شخصيَّات بائسة، وسلطة شبه مُزَاحة عن الشاشة، وعداوات مستحكمة.

هناك مطاردات كثيرة لهذين الـ"كلبين" (إذا اعتمدنا صيغة العنوان الفرنسي)، إنَّما تتمّ على يد أعوان عصابات وليست قوات إنفاذ قانون. محنتهما مرتبطة بعالم سفلي لا يرحم خطأ، أو يغفر قراراً يقود الجميع الى هاوية. عليه، فإنَّ مشاهد "عصابات" يجد نفسه أسير اتجاهات تقود الرجلين الى مزيد من التَّعسّر. إنَّ حسن وعصام يهربان من فقرهما نحو وجهات لم يخطّطا لها، تزيد من تعقيد وضعهما، وتجعل من طوقهما أكثر إحكاماً حول عنقيهما. كُلّ مقصد يصلان اليه هو اختزال مسافة قصاصهما.

لذا، فإنَّ دلالات الأمكنة لدى المخرج لزرق، تتعقَّد برويَّة بصريَّة لافتة وديناميّة، تبدأ من باحة وشاحنة متهالكة تحت شمس ساطعة، حين يتمّ تكليفهما بمهمَّة من قبل رئيس زمرة مراهنات، وتنتهي بعراء مفتوح تحت ليل تكسره أضواء مصابيح أعمدة شوارع مهجورة، وهما تحت خيار عصي بين أب وابنه، على واحد منهما تحمُّل عاقبة سوء تدبيرهما وطالعهما. يسعى العجوز الى "إفلات" ولده من تصفية محتملة، فيما يصر الشاب على "أمانة" نطفته والبقاء الى جانب والده والاشتراك في ضرائهما، ذلك إنَّ كليهما بلا مستقبل في حالة انفراط ولائهما لبعض.

*****

يشدّد شريط لزرق (الدار البيضاء، 1984) على ذكوريَّته. كثرة الرجال فيه مثيرة للشُّبهات بيد أنَّ الفحولة الضارية تشاء التَّحكم بأزلامها كما العلَّات (أولاد من أمّهات شتَّى ورجل واحد)، تطيع حاكماً واحداً هو أقرب الى إبليس رث، محموم بجباية الدّم والمال الحرام. كُلّ شخصيَّة رجوليَّة في "عصابات" (94 د) مرسومة بأكثر الملامح غِلْظَة، تقول حواراتها بأصوات متحشرجة ومزدرية وقطعيَّة وبلا روح. يحمل وجه حسن (أداء لافت من الممثل الفطري عبد اللطيف مستوري) بأنفه المعوجّ وذقنه الواسع وعينيه الضَّيقتين تعابير ابتئاس عميق، كَوْن حياته لم تفلح في الفوز بـ"صيد" ثمين، يُنهي فآقته ويأسه الاجتماعيّ، فيما تصبح سحنة عصام (الممثل الفطري أيوب العيد) بوجهه المضغوط وعينيه الكبيرتين وجبهته النَّافرة عنواناً لفئة شبابيَّة ملتَّاثة في تحقيق مكسب سريع حتى لو تطلَّب الأمر سفك دَّم أو، في حالته، دفن جثة أو تقطيعها أو رميها من دون قراءة سورة الفاتحة كعقيدة وعادة إسلاميَّتين، يصرُّ الأب على إتمامها كفرض إيماني وتعهَّد دينيّ، ما يعني أنَّ ورع عصام غير أصيل، رغم إصراره على أنْ يكون شخصاً مستقيماً الى أقصى حدّ. هذه نقطة جوهرية في عقيدة فيلم كمال لزرق حيث إنَّ التَّقوى تتعاظم كقيمة لا شعوريَّة، تمتحن بقوَّة خوف كائن خاطىء من فكرة عقاب إلهيّ ولعناته عند ارتكاب زلَّة كبرى (الجريمة هنا) لا يمكن تبريرها أو القبول بها. عن هذا يقول لزرق إنَّ "بعض الناس في المغرب يمكن أن يقبلوا القيام بأشياء ليست أخلاقيَّة للغاية من أجل البقاء، لكن تبريرها بحجج الورع لا يزال شائعاً. حتى بين أكثر الناس تعليماً". مشيراً الى أنَّ جملاً مثل "الله موجود دايما"، "ليعيّنك الله"، "يلعنك الله"، "يرشدك الله" وغيرها متجذّرة بكثرة في حوارات الفيلم الشَّعبيّة، ما يضمن المفارقة وروح التَّهكم فيه، رغم أجوائه المعتمة (مقابلة ضمن الملف الصحافيّ للشريط).

*****

 
 

عصام شاب عالق بين رذائل يوميَّة من جهة، وواجب أُسريّ ومحاولات ذاتيّة لإثبات إنَّه شخص قادر على القيام برعاية والديه من جهة أخرى. تبدأ هذه المواجهة الداخلية وبشراسة حين يفشل في تأمين مبلغ كاف لشراء قطعة لحم الى أمه، فيأكل اليأس اندفاعاته، ويحرضه على نَّزق وغضب وفظاظة. في حين، ينال الإرهاق من روح حسن الخمسيني، ويجعله كائناً يخسر فرصه بسرعة قياسية، ومنها تلك الطَّامَّة بموت الرهينة داخل صندوق الشاحنة الصغيرة. جسد رجل ضخم يغدو معضلة مشتركة. عصام مشوَّش، وأبوه في حيرة. هنا يحوّل نصّ كمال لزرق، وبفطنة سينمائية، خلافاتهما وحساسياتهما تجاه بعضهما الى قاعدة تفاهم سريع التَّنازلات، هدفها تعديل مسار مصيرهما، وإيجاد الحلول حتى وأن كانت يائسة وخائبة. أذن أيّ سبيل آمن عليهما الاسترشاد به؟. يقبض الشاب على أخر نقطة من نزاهته، ويقترح ترك الجثة أمام مستشفى أو مركز شرطة، بمعنى التخلص منها بلا حرج أو دنس. في حين، يرتكب العجوز زلَّات متكرّرة مع إصراره على أخبار رئيس العصابة الذي يحدد مصير الشريط برمَّته، آمراً إياهما: "حيدلي (تخلص من) هذا الخرا من هنا"، ليشرع الثنائي في رحلة عصابية ومجنونة على مدى ليلة واحدة، تقربهما من بعضهما، وتمتحن آصرتهما الشَّبه المقطوعة. مشكلان عند فجر يوم جديد "عصابة" عائليَّة من طعم أخر. يحزم حسن أمره في إنقاذ فلذة كبده مهما كلَّفه الثمن، حتى لو أعترف كونه أباً نزقاً وفاشلاً وبلا مناقب وغير مؤهل على إجبار ابنه بشأن نواياه وطاعتها، أو الأخذ باقتراحاته واعتماد وجهات خاسرة سلفاً، بينما يتخلَّى عصام عن تردّده لصالح وعي أكثر عقلانيَّة رغم أميَّته، خلاصته فك الحصار عن نفسه ومستقبله وخياراته.

يقتبس لزرق، الذي كانت صدمته السينمائيّة الأولى مشاهدة فيلم "سوناتا الخريف" (1978)، روح ثنائيَّة جندريَّة (في نصّ المعلّم السويدي إنغمار برغمان جرت بين ابنة وأمها) تتناسل بلا كلل كمناكفات بين شخصيَّتين غير متكافئتين، تفصل بينهما فجوة تنال من قوّتهما العاطفية، وتكرّس اللا مودَّة بينهما، لكنَّ ما ينبغي عليهما هو ضبط رهبتهما ممَّا ستؤول إليه ليلتهما، و"النضال" من أجل تحييد ضررها، إنَّ كانت هناك أمال حقيقية في بقائهما حيَّين. من هنا، فما يبدو إنَّه حياديَّة دراميَّة بين ابن وأب، هو في الواقع تركيب نفسيّ يتعقَّد خلال رحلة طويلة، مصوَّرة غالبا بكاميرا محمولة، وبأشراف الموهوب أمين برادة (له "سيد لمجهول"(2019) لعلاء الدين الجم، و"بانيل وأدما" (2023) للسنغالية راماتا ـ تولاي سي)، يغوي مشاهده في مساءلة استعباد اجتماعيّ وبلاء وجوديّ. حسب المخرج لزرق، فإن هذا الخارج الظَّالم يصوغ نموذجاً فرديّاً خاصاً، ومثله مجتمع شبه بروليتاريّ، مسحوق، نافر، ومُنازع. هذا ليس بالضرورة كُلّ المغرب، أو التنميط الغرير لمواطنيته، إنَّما هو اجتزاء دقيق لهوامّ مجتمعيّ، يولّد عند تخوم مدن غير منصفة، ويتوالد بسرعة ليصبح علَّة إنسانيّة واقتصاديّة واعتباريّة.

إنَّ نظرة الثَّنائي لزرق/ برادة لهذه الفئة المنبوذة لم تتجسَّد في تصوير محيط نَخْر ومُعْدَم وحسب، لكنَّهما أثقلاها ومعها رمزية العزلة التي تسحق البطلين بتسلسل ليليّ مشحون بالذعر، واستخدما من أجله حلاً تشكيلياً بالغ التَّأثير، عماده أنوار مصابيح الشاحنة المنحوسة، سواء داخلها أو في مواجهة حسن وعصام، وتحيل وجهيهما المرهقين الى بورتريهات صفراء اللون، وهما جزعان في بحثهما عن منجد. لعلَّ أبلغ منجزهما المرئيّ في هذا الخصوص ما هندساه في مشهد البئر، حيث يقف البطلان وسط قفر، ساعيان الى حلّ لغز مضحك، قادهما قدر أعمى الى حفرة لا يتجاوز عمقها المتر!. وبدا واضحاً أنَّ قرار برادة في إضاءة المشهد أفقياً عبر نور السيارة عوضاً عن مسقط عمودي، مكَّنه من تعظيم مساحة الظُّلمة الطبيعيّة التي تحاصر كائنين لن يتمكَّنا من إيجاد مفر، سواء من كربتهما أو بدن ميت، وحسب قول الجهبذ البريطاني ألفرد هِتشكوك "أن من الصعب جعل الجثة تختفي"، فإنَّ حكايتهما وأمثالهم من هوامّ كازابلانكا لن تُدرك تخوم خاتمتها حتى يوم الدين!. هنا فقط، نعرف أنَّ المزحة في "عصابات" ذات طعم حُراق ولاسع.

سينماتك في ـ  17 يوليو 2023

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004