أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

جودار في "موسيقانا"

استجواب العنف

أمين صالح

يقدّم جان لوك جودار فيلمه "موسيقانا" Our Music وبالفرنسية Notre musique، والذي هو عبارة عن تأمل شعري في القضايا السياسية والثقافية المعاصرة، بمزيج من حس الدعابة  والغنائية، من دون أن يكفّ عن إذهال المتفرج ورجّ ما استقر عليه من مفاهيم وما اعتاد عليه من أنماط سردية وأشكال راسخة.

لهذا الفيلم يستخدم جودار بنية تتسع لعناصر التاريخ والأسطورة والدراما السينمائية. إنه هنا لا يربك متفرجه بالانتقالات المفاجئة والاستطرادات والانزياحات المربكة لصور تتباين وتتعارض، كما اعتاد أن يفعل في أعماله السابقة، لكنه أيضاً لا يتنازل عن الشكل التجريبي الذي يعبر التخوم بين القصصي والوثائقي.

الفيلم يطرح العديد من القضايا المعاصرة، من بينها المصالحة بين دول البلقان بعد الحروب الدامية، الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والبحث عن تفاهم متبادل بين الطرفين، إلى جانب اهتماماته المعتادة في العلاقة بين النص والصورة والصوت، وذلك ضمن هيكل سردي تأملي، وبناء منقسم إلى ثلاثة أجزاء متميزة، مستمد من رحلة الشاعر الإيطالي دانتي آليغييري، في القرن الرابع عشر، عبر ثلاث ممالك: الجحيم، المطْهر، الفردوس.. وذلك في قصيدته الملحمية "الكوميديا الإلهية".

وفي حين كان دانتي يتخيّل سلسلة من الوقائع أو الأحداث الروحية، فإن جودار ينظر إليها كثلاث حالات تتعايش معاً.

في المملكة الأولى، الجحيم،  نرى عبر مونتاج كثيف، متسارع، يستمر حوالي عشر دقائق، صور العنف (لقطات من حروب حقيقية – الحربين العالميتين، معسكرات النازيين، فيتنام، الشرق الأوسط - ولقطات أخرى من أفلام سينمائية حربية) الذي مارسه الجنس البشري في تاريخه وعبر العصور، وتأثير هذا العنف. 

يرافق هذه اللقطات صوت فتاة صغيرة تقول: "وهكذا في عصر الحكاية الخرافية، يأتي رجال مدججون بالأسلحة لإبادة الآخرين". عندئذ نرى النازيين يحلون محل الفرسان القدامى. 

إنه عبارة عن تجميع مونتاجي لمقتطفات سينمائية وأفلام وثائقية وأشرطة إخبارية. من هذه المواد يريد جودار أن يؤكد حتمية الصراع طوال التاريخ، والعنف المتأصل في الأجيال المتعاقبة، إلى جانب إظهار مدى قدرة العنف، أو الحروب، على تغيير الإنسان (المشارك والضحية الناجية معاً) تغييراً جذرياً وتحويله إلى نقيض ما كانه.

وجودار هنا يقتبس من الفرنسي بارون دي مونتسكيو، أحد فلاسفة القرن الثامن عشر، هذا القول: "بعد الطوفان العظيم، يخرج الرجال من الأرض زاحفين ويبدأون في إبادة بعضهم البعض"

هذا الجزء مبني، كما يقول جودار، على أساس الموسيقى التي استخدمها. ويضيف: "بدأت هذا الجزء بتوليف (مونتاج) ثلاث أو أربع مقطوعات موسيقية، ثم أخذت أبحث عن صور تنسجم مع الأفكار التي أردت أن أعبّر عنها. أولاً، كانت هناك دوماً معارك في كل مكان، حيث يقتل البشر بعضهم البعض. ثانياً، تأتي صور الآلات في الحرب. ثالثاً، صور الضحايا. رابعاً، صور سراييفو أثناء الحرب".

في المملكة الثانية، المطهر، وهو الجزء الذي يحتل مساحة كبيرة وهامة من الفيلم، والمصوّر في سراييفو ما بعد الحرب، يتم التحقيق في النزوع البشري إلى الحروب المدمرة، والصراعات السياسية بين الشعوب، وتأثيرات الحروب، في الماضي والحاضر، من جرائم النازية إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الراهن، عبر مناقشة جادة وعميقة في السياسة والتاريخ مع رجال الصحافة والأدب والأكاديميين.

عن إختيار سراييفو، قال جودار: "كان لدي شعور بأن سراييفو هي المكان الأمثل لتصوير الفيلم الذي أردت أن أصوره. سراييفو هي التوضيح الأمثل للمطهر". وهو يرى في سراييفو "المكان الذي تبدو فيه المصالحة ممكنة".. على حد تعبير إحدى الشخصيات.

في هذا الجزء  نجد مزيجاً من الشخصيات الحقيقية والخيالية، كما نصغي إلى التاريخ وهو يحكي من خلال الشهادات الفردية والمقابلات والأحاديث والمحاضرات والحكايات. إننا نرصد سكان سراييفو، التي شهدت اللقاءات الأدبية الأوروبية، كجزء من تجديد المدينة، وهو الحدث الذي ينظمه سنوياً، منذ العام 2000، مركز أندريه مالرو الثقافي في سراييفو، والذي شارك فيه جودار في العام 2002.

إننا نتابع السكان وهم يمارسون حياتهم اليومية، ويلتقون بعدد من الزوار: الكاتب الإسباني خوان جويتيسولو (الذي انتقد الاتحاد الأوروبي على فشله في التدخل لإيقاف الحرب البوسنية)، الفيلسوف الفرنسي جان بول كورنيه، الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الكاتب والنحات الفرنسي بيير بيرغونيو، المعماري الفرنسي جيل بيكو (وهو الذي أعاد بناء جسر موستار الشهير، المبني في القرن 16 بعد تدميره في 1993) وجودار نفسه الذي يلقي محاضرة (إعادة تمثيل للمحاضرة التي ألقاها في المكان نفسه العام 2002) عن مبدأ المونتاج الذي ينتج الشعر، وعن النص والصورة، وعن المفهوم العام للواقع والمخيلة، أمام جمهور من طلبة السينما.

وفي هذا الجزء أيضاً نتابع رحلة جماعية إلى أنحاء سراييفو وإلى موستار.

هنا يستشهد جودار بما قاله مالرو: "أولئك الذين لديهم نوازع إنسانية، لا يشعلون الثورات بل يفتحون المكتبات". 

أما عن الشخصيات الخيالية، فنجد صحفية اسرائيلية شابة تسعى للتعويض عن الماضي بإجراء مقابلة مع السفير الفرنسي في سراييفو، الذي كان أحد رفاق والدها، لكنه يتجاهل طلبها، رافضاً الحديث عما عاناه اليهود الفرنسيين في معسكرات الاعتقال النازية. عندئذ هي تطمح  في تنظيم لقاء يتحقق فيه الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتكون فيه المصالحة ممكنة بين الأطراف المتنازعة، وذلك انطلاقاً من مقابلة تجريها مع الشاعر محمود درويش، على أن تنشر المقابلة في الصحف الإسرائيلية.

الحوار بينهما يثير إشكالية يتعذر حلها، ومن جهة أخرى يثير أسئلة مهمة حول الترجمة. الصحفية الإسرائيلية تتحدث العبرية، ودرويش يجيب بالعربية. يقول جودار: "درويش يفهمها لأنه يتحدث العربية ويفهم العبرية، لكنها لا تفهم، لأنها لا تتحدث العربية.. غير أنها ممثلة جيدة".

هنا جودار يتحسر، ويبدي ندمه، لأنه اضطر إلى ترجمة حواراتهما أسفل الشاشة لكي يفهم الجمهور ما يقال: "لدينا هنا حالة متناقضة: شخصان لا يتحدثان اللغة ذاتها، أو يتحدثان اللغة ذاتها، أو يفهم أحدهما الآخر، أو لا يفهم أحدهما الآخر.. بما أن وراء درويش يمكننا أن نرى فلسطين، ووراء ساره يمكننا أن نرى اسرائيل. إنه تناقض معقد بالنسبة للمتفرج الذي لا يتكلم اللغتين لكن بفضل الترجمة هو قادر أن يتابع المحادثة باطمئنان. وربما، بعد انتهاء المشهد، سوف يتحدث عن اسرائيل وفلسطين، بينما لو لم تكن هناك ترجمة لاعترف قائلاً: لا أعرف ماذا يقولان ولا عمّ يتحدثان." 

من الشخصيات الخيالية أيضاً طالبة سينما يهودية، تنحدر من أصول روسية - فرنسية، تحمل نظرة تشاؤمية، وتفكر في الانتحار. في صالة سينما بالقدس تتخذ من الجمهور رهائن وتهدّد بتفجير نفسها. ثم تمنح الجمهور مهلة لمدة خمس دقائق لمغادرة الصالة. وتعلن أنها ستموت سعيدة إذا انضم إليها مواطن اسرائيلي واحد ليموت معها من أجل السلام، لكن لا أحد يقبل بعرضها. أخيرا هي تلقى حتفها بالرصاص وعندما يفتشون حقيبتها يكتشفون بأنها تحتوي على كتب ولا يعثرون على أي قنبلة.

الحوارات التي تلقيها هذه المجموعة المتنوعة والمتباينة من الشخصيات تتضمن مزيجاً من الإشارات التاريخية، والاقتباسات من الأدب والفلسفة والدين والسياسة، وكتابات درويش وجويتيسولو ومارلو. 

يعلّق جودار على اختيار محمود درويش قائلاً (مجلة Sight and Sound، عدد يونيو 2005): "درويش مهم لأن اسرائيل مهمة.. كما يقول درويش نفسه، عندما يتحدث مبرراً سبب شهرة الفلسطينين بحقيقة أن السبب يكمن في أن الاسرائيليين هم الأعداء، هم في بؤرة الاهتمام وليس الفلسطينيين.. هم من جلب الهزيمة والشهرة معاً للفلسطينيين".

قوة هذا الجزء تكمن في تصويره الوثائقي للمدينة التي دمرتها الحرب. الفيلم يتحرى إعادة بناء سراييفو وموستار في أعقاب حرب البوسنة كمجاز لمصالحة أو تسوية محتملة بين الأطراف المتناحرة في مختلف البقاع. الفيلم هنا يتخيّل مستقبلاً أقل كارثية من الماضي أو الحاضر، كما يؤكد استحالة إعادة بناء الماضي.

في المملكة الثالثة، الفردوس، الذي يقارب جزء "الجحيم" في مدة العرض، نكون أمام التقفيلة، أو المقطع الختامي، الأشبه بحلم، للفيلم.. 

الطالبة الفرنسية اليائسة، التي لقيت حتفها في الصالة، تتجول عبر حديقة عدن على ضفاف بحيرة جميلة، حيث الكاميرا تتحرك بخفّة، والإضاءة الطبيعية منتشرة، والمياه تتدفق، وأوراق الشجر تلتمع تحت أشعة الشمس، والشباب يقرأون الكتب ويلعبون. ثمة هدوء وسكون، حالة سلام وطمأنينة.. لكن جودار لا يجعلنا نستمتع بالمشهد طويلاً، إذ سرعان ما يُظهر لنا المكان وهو مطوق بسياج، وتحرسه قوات المارينز الأمريكية.. لنجد أنفسنا أمام مسحة تهكمية صارخة.

هكذا، كما هو الحال دائماً مع جودار، هو لا يعطينا أية أجوبة سهلة، ويدعونا لاكتشاف المعاني والعلاقات الخاصة بنا، ونستجوب بفعالية الصور التي يقدمها لنا.

جودار يفترض وجود صلات أو مصاهرات بين الشرق الأوسط وسراييفو وتجريد السكان الأصليين في أمريكا من أراضيهم وحقوقهم من قِبل المستوطنين الأوروبيين. ويعتقد جودار أن الحقيقة تتكشف من خلال إبراز التعارضات أو الأضداد. جودار هنا يدعو إلى الحب والانفتاح والحوار والتفاهم والإبداع لكي تتجنب البشرية الطريق المؤدي إلى البربرية.

الفيلم لا يقدم حلولاً بل يطرح الكثير من الأسئلة. وهو يكشف عن مصاهرة موضوعاتية وأسلوبية قوية مع نتاجات جودار الملفتة في التسعينيات.. تلك التي حققها بالتعاون مع آن- ماري مايفييه، وهي مخرجة، مصورة، كاتبة.

وإذا كان جودار، في أعماله السابقة، غالباً ما يمزج التقنية الطليعية أو الحداثية مع السرد المألوف، إلا أنه هنا يقسم بحدّة الخاصيتين، السرد والتقنية، بحيث يجعل العمل يبدو متماسكاً أكثر.

في حوار مع مايكل ويت، نشر في مجلة Sight and Sound، عدد يونيو 2005، تحدث جودار عن فيلمه "موسيقانا"، وقال:

"السيناريو مبني على تجربتي الخاصة أثناء مشاركتي في اللقاءات الأدبية الأوروبية. كان بالإمكان توثيق الفعالية في ذلك الحين باستخدام كاميرا فيديو لتصوير الأفراد المشاركين، إلى جانب تصوير محاضرتي أمام جمع من الطلبة، والذي أعدت خلقه في الفيلم، لكن دون أن يخامرني شعور بأنه سيكون مماثلاً تماماً لما حدث في الواقع. الأفراد الذين صوروا الفيلم شعروا بأن هناك شيئاً ما بشأن سراييفو والذي مسّني بعمق. إنه ليس مجرد فيلم حققناه عن منطقة الحرب.. كما فعل مايكل وينتربوتوم في فيلمه (أهلاً بكم في سراييفو)، على سبيل المثال، حيث بدا أنه لم يشاهد شيئاً في سراييفو، أو أن كل ما رآه، كان يعرفه سلفاً".

"ثمة رغبة في البدء من جديد بعد نهاية فكرة معينة عن أوروربا، وهذا ينسجم مع حياتي، أو مع مساري الثقافي. هل هناك نقطة بدء محتملة، والتي ربما تتيح لنا أن نبدأ من جديد؟.. في ما يتصل بالسينما، لم يتم العثور على هذه النقطة، والمرء يتساءل إن كان هذا ممكناً بما أننا غير قادرين أو مؤهلين، كما يبدو، على الكلام أو صنع الفيلم على نحو مختلف".

"فيلمي يتسم بالخفة والمرح قياساً إلى أفلامي الأخرى. أولئك الذين اعتبروه تشاؤمياً هم مخطئون. على العكس، هو بالأحرى بهيج وتفاؤلي.. لكننا عشنا لمدة سنة على تلك التفاؤلية، وهي الآن مستنفده".

"عندما ذهبنا إلى سراييفو وجدنا خطوط الترام كما لو تجعلنا نسمع نوعاً معيناً من الموسيقى، لذلك أطلقت عليه (موسيقانا): موسيقاهم، موسيقانا، موسيقى كل شخص. هي التي تجعلنا نحيا، أو تجعلنا نأمل. بوسع المرء أن يقول (فلسفتنا) أو (حياتنا)، لكن (موسيقانا) ألطف ولها تأثير مختلف. ثم هناك أيضاً مسألة أي مظهر من موسيقانا تم تدميره في سراييفو؟ وما الذي تبقى من موسيقانا التي كانت هناك؟"

جودار، البالغ 74 عاماً آنذاك، شارك في مؤتمر صحفي في مهرجان كان العام 2004 بعد عرض فيلمه "موسيقانا"، حيث ناقش فيلمه والقضايا التي طرحها، ومما جاء في المؤتمر نقتطف التالي:

يقول جودار: "أنا منحاز الآن إلى النسخ المدبلجة، لأن الترجمة subtitle تجعلك تعتقد بأنك تشاهد الفيلم بلغتك الخاصة. إذا كنت تشاهد فيلماً في أسفله ترجمة، فأنت هنا تقرأ الفيلم، لكنك لا تشاهده. ربما تشاهد 6 في المئة من الفيلم".

"العولمة شكل من أشكال الديكتاتورية (التوتاليتارية).. التلفزيون كذلك، سواء أكان في أمريكا أو في فلسطين".

رداً على هذا السؤال: هل الأفراد الذين يظهرون في فيلمك "موسيقانا" حقيقيون، يؤدون شخصياتهم الحقيقية، أم شخصيات خيالية؟

يقول جودار: "أنا لا أحاول أن أخلق اختلافاً بين الممثلين وممثلي الجانب الوثائقي. هم أنفسهم، لكنهم يقرأون كلمات مكتوبة في النص. مع ذلك، ينبغي أن يكون هناك شيء نابع من حياتهم الخاصة أيضاً. هم ليسوا ممثلين، هم أشخاص تم اختيارهم للمشاركة".

ورداً على سؤال: لماذا قررت أن تصور فيلماً في سراييفو؟

قال جودار: "إنها قصة طويلة، شخصية وغير شخصية في آن. أنا مع الحدود لكنني ضد ضباط الجمارك. بطبيعتي، أنا لست شجاعاً، لكنني أحب أن أرى أشياء معينة، أشخاصاً مرضى وجرحى. ربما ورثت ذلك من أبي، الطبيب. أحببت أن أذهب إلى هناك عندما انتهت الحرب، عندما فقد الآخرون الاهتمام.. هنا يبدأ المطهر. إنه مجاز للحياة. حاولت أن أذهب إلى سراييفو في فيلم آخر (موزارت إلى الأبد)، لكنني لم أنجح في ذلك. تلقيت دعوة مرّة أو مرتين للمشاركة في لقاءات أدبية. في الواقع أنا لم أختر سراييفو، هي التي اختارتني. وكما قال تولستوي: أنا لم أختر أنّا كارينينا، هي التي اختارتني".

عين على السينما ـ  10 فبراير 2015

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004