أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

الوجه والقناع

تأملات في التمثيل

بقلم: أمين صالح

ماهى الحاجة العميقة التى يشعرها المرء للتمثيل ؟ ما هو الباعث الذى يدفعه لان ينتحل هوية اخرى وشخصية اخرى، لان يغير شكله الخارجى ويرتدى هيئة كائن متخيل ؟"

ربما يشعر بشخصيات لا تحصى، متباينة ومتناقضة فى السلوك والتفكير- والعواطف والمظهر، تتعايش فى داخله وتتأجج راغبة فى الانبعاث والبروز على السطح وممارسة كينونتها الخاصة، هذه الشخصيات كلها تشكلها حقيقة المرء ذاته... بدونها قد لايشعر أنه قادر على تحقيق وجوده.

ربما يلبى التمثيل الحاجة الى الدفء والحماية والامتلاء،الكثير من الممثلين يشعرون بالفراغ بعد انتهائهم من التمثيل,ذلك لان أعماقهم تصبح خاوية او مستنزفة، من جهة اخرى،لابد ان الممثل يتملكه خوف من العزلة لكى يتوق الى الأضواء الساطعة ويرغب فى ان يكون محور الاهتمام والرعاية، الظلام رفيق العزلة... من هنا تأتى الحاجة الملحة لان يكون مرئيا،فالحجب ينفى وجوده انه شكل من اشكال الدفاع عن النفس,لكن الاضواء تعنى ايضا الشهرة والثراء والنجاح: مجالات مغوية وذات اشعاع خاص. الممثل فى حالة بحف دائم عن الأخر انه يسعى الى ذات جديدة كى يكونها ليغيرها فيما بعد، هويته الخاصة تصبح مشوشة انه يصبح كل شخص ولا احد. انتحال هويات اخرى: ألا يعنى فى بعض جوانبه ان الممثل لايحب ذاته,او على الاقل يشعر بأنه غير راض وغير قانع بحياته الطبيعية،وما ارتداء الاقنعة إلا وسيلة لاخفاء النقائض والشوائب ونقاط الضعف؟

يقول الممثل "هنري فوندا": حين اصبحت ممثلا، اكتشفت ان التمثيل ممتع وعلاجى، التمثيل كان قناعا لشاب خجول مثلى، عندما امثل اتخلص من الخجل واكون شخصا أخر.

بينما ترى الممثلة الفرنسية ايزابيل هوبير فى التمثيل نوعا من العلاج النفسى، وطريقة لتحرير الذات من هموم معينة.

وربما يكمن الباعث للتمثيل فى ارضاء او اشباع الميول النرجسية عند الممثل او الممثلة، ان يكون فى البؤرة مرئيا ومرغوبا فيه, وان يثير الاعجاب الاشباع النرجسى يستلزم نزوعا استعراضيا التمثيل لايتحقق إلا عبر المواجهة مع الجمهور، بشكل مباشر كما فى المسرح او غير مباشر كما فى السينما وإلا لأكتفى الممثل بالتمثيل امام مجموعة صغيرة من الأقارب والاصدقاء أو أمام نفسه عبر المرآة، انه بحاجة الى استجابات ردود فعل, اعجاب, تقدير، تعاطف, حب.

ما ذكرناه قد لايفسر، بشكل شامل, حاجة المرء لان يمثل,فحتما هناك دوافع وبواعث اخرى.لاتقل اهمية ويقتضى الامر تحليلا سيكولوجيا عميقا، واستقصاء شموليا.لتقديم صورة اوضح عن هذه الحاجة او الرغبة.

-2-

عديدة هى مصادر الممثل. التجربة الحاتية، الخبرة الثقافية، الخيال, الذاكرة، الرصد والملاحظة، كل ممثل يحتاج الى هذه المصادر، او يبحث عن مصدره الخاص, لان ذلك يعزز طريقته فى الاداء ويثرى تجربته ويساهم فى تطوير امكانياته وادواته التعبيرية.يقول روبرت دى نيرو يتعين على الممثلين ان يعرضوا انفسهم لما يحيط بهم, ان يخلقوا نوعا من الاتصال,ويحتفظوا بأذهانهم مفتوحة لتلقى كل ما يحدث فى هذا المحيط عاجلا أم أجلا، سوف تنسل فكرة الى رأسك, شعور، مفتاح, او ربما حادثة، هذه الامور ستفيد الممثل فيما بعد، ويستطيع ان يربطها بالمشهد عند التنفيذ. الممثل لايستطيع ان يعزل نفسه عن المحيط, انه يتأثر ويتفاعل مع ما يراه وما يحدث وما يزخر به الواقع من نماذج وعادات وسلوكيات, وردود الفعل التى عادة تكون عفوية وسريعة عند الفرد، لكنها عند الممثل تصبح مدروسة وخاضعة للتحليل وذلك بالتركيز عليها وتمديدها ومنحها خاصية استثنائية.

الممثل لايكف عن تأمل الآخرين, دراستهم تحليلهم,ومحاكاة حركاتهم واصواتهم اذا اقتضى الامر ذلك "دوستين هوفمان "يستمد مصادره غالبا من مراقبة الآخرين فى اماكن تواجدهم وهو يرصد فى المقام الاول, ايقاعهم الخاص.

لكل فرد ايقاعه المميز، ليس هناك تشابه بين ايقاعين, على الممثل ان يجد اولا الايقاع الخاص للشخصية التى يخلقها وافضل وسيلة هى متابعة الشخص عبر الشارع, التقاط طريقة مشيته, محاكاتها فيما تفعل ذلك لاحظ ما يحدث لك بالتركيز على ايقاعهم الشخصى ستجد انك قد اصبحت شخصا مختلفا.

الذاكرة من المصادر الاساسية وكل ممثل يمتلك مخزونا يستخرج منه ما يحتاجه, انه يرصد الأخر بإمعان ثم يحتفظ بهذه الكينونة الاخرى فى ذاكرته.

وعندما تسنح الفرصة لاستثمارها او الاستفادة منها فانه يستحضرها ويسبرها محللا كل مظاهرها وافعالها وحركاتها،شيئا فشيئا تأخذ الشخصية فى الامتلاء.

ملاحظة الأخر ليست غايتها المحاكاة فقط, وانما هى وسيلة لحث وتحفيز المخيلة.

المحاكاة تحقق التصوير المقنع لسمات الشخصية وتؤكد على ما هو خارجى وليس ما هو باطنى، فالممثل لايستطيع ان يعبر عن مشاعره وعواطفه عن طريق محاكاة مشاعر وعواطف شخص أخر، ذلك لانها جزء من ذاته من تكوينه وطبيعته.

الدراسة مهمة للعمل لان بإمكانها ان تفهم التقنيات الضرورية وان تطلق الامكانية الخلاقة بداخله, ان كانت موجودة، لكنها لاتمنحه الموهبة، الدراسة لاتعلمه كيف يشعروكيف يستخدم مخيلته وكيف يسبر لأشعور , انها اشياء يمكن اكتسابها من الحياة، من التجربة، من التفاعل مع العناصر المحيطة.

-3-

لكل ممثل طريقته فى التحضير للدور واعداد نفسه لتجسيد الشخصية ثمة ممثلون لايكتفون بقبول الدور المرسوم كما هو فى النص بل يحللون الشخصية ويحاولون اكتشاف منبعها،خلفيتها, ثقا فتها, اسلوب حيا تها، رغبا تها, مخاوفها, دوافعها,ماضيها، حياتها العائلية، نوعية الملابس التى ترتديها، الاشياء التى تقتنيها، الاماكن التى ترتادها، حركاتها المميزة، طريقتها فى الكلام, وجهة نظرها فى امور عديدة... حتى وان لم يكن هذا متضمنا فى النص او انه مطروح عبر ايحاءات واشارات عرضية، انهم يقومون بإجراء بحوث فى طبيعة وسلوك وعلاقات الشخصية.

عندما يتطلب الدور ان يؤدى الممثل شخصية تاريخية مثلا، فيتعين عليه ان يتعرف على تلك المرحلة من خلال القراءة،ويمتلك معلومات عامة عن البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، ان يدرس العادات والطباع والملابس, ان يحلل الصراعات والعلاقات السائدة آنذاك, وفى كل الاحوال,لابد ان يثرى المعرفة بتشغيل المخيلة، فالمعرفة وحدها لاتكفى.

-4-

التحول خاصية اساسية للتمثيل, انه انسلاخ عن الذات وتقمص للأخر "الشخصية" ممثل ما يتقمص الشخصية بكل سماتها وخصائصها ومميزاتها بحيث يمحو ذاتيته تقريبا، اى لا يكشف ذاته انما يجسد الشخصية او يختفى ويتوارى داخلها، وممثل آخر يلتحم بالشخصية فى مستوى سيكولوجى عميق غير اننا نعى حضوره, ونشعر بأن هذا الحضور يضاعف ويحدد فهمنا للشخصية.

الممثل يسعى الى التماهى والتطابق مع الدور، حتى وان كان متعارضا مع ذاته الحقيقة، انه يكيف ذاته ويلج الدور ليقطن فى الشخصية، واثناء ذلك يقوم بتحويل نفسه ليس جسمانيا، كمظهر وانتحال حركى وصوتى، فحسب, بل ايضا ذهنيا وروحيا، بحيث يبدو مختلفا تماما.

عند ممثل من نوع روبرت دى نيرو، يبلغ التحول مداه... خارجيا "جسمانيا وداخليا,"روحيا اذ يمتزج بالشخصية حتى يصبح هو الشخصية وهو يمتلك طريقة فريدة فى الاعداد والتحضير والغوص فى اعماق الشخصية والنتائج التى يتوصل اليها غالبا ما تكون مدهشة ومثيرة وصادقة.

لكن التحول ليس عملية سهلة وسر يعة، فالممثل لايملك اداة سحرية يمكن بواسطتها تغيير الشخصيات متى وكيف يشاء،ويكشف الممثل الايطالي "فتوريو جاسمان " عن شىء أخر؟ التحول او تقمص ذوات اخرى، ليس حالة طبيعية بالنسبة للممثل ولهذا السبب لاينبغى للممثل ان يملك روحا، بل يجب ان يكون قادرا على انتحال هويات مختلفة، ان امتلاكه افكارا ومشاعر ثابتة ودائمة قد تعوق عملية الانتحال.

التحول ؟ وما يقتضيه من انسلاخ وتقمص, ألا يثير بالضرورة تساؤلا بهذه المهمة دون ان يترك ذلك أثرا فى سلوكه ودون ان يحرك شيئا فى نفسيته ؟

من المؤكد ان الممثل يملك القدرة على الانفعال عن شخصية،ايضا يتأثر بها اذا كانت معايشته للدور عميقة واستحواذية،عندئذ قد يتعرض لحالة من الازدواجية الواعية بسبب هيمنة الشخصية  واستبداديتها، فى فيلم "صانعة الدنتيلا" ادت الفرنسية ايزابيل هوبير دور الفتاة الخجولة الساذجة، الهشة، المتوحدة مع ذاتها، وقد ادى انغمارها فى الدور وبلوغها درجة عالية من التعايش, الى احداث تأثير كبير على شخصيتها الحقيقية، لفترة شهر او شهرين, بعد انتهاء الفيلم كنت غير قادرة على التمييز بين الواقع والخيال, وهذا الشعور ارعبنى لكن بعد ان شاهدت الفيلم بدأت اتحرر، وصرت ادرك بأنه مجرد فيلم.

أما الممثل الألمانى "كلاوس كنسكى" فيقول: فى نهاية كل يوم, عند تصوير عمل ما، احس بالشىء ذاته, انهاك تام,استنزاف... ذلك لاننى اصبح, طوال فترة تصوير الفيلم, ذلك الشخص الذى يتعين على ان اجسده.

اننى اتحول الى تلك الشخصية ذاتها، المستبدة، التى تنبض بالحياة فى داخلي, سواء عندما اواجه الكاميرا او ابتعد عنها، انك فى هذه الحالة تفقد القدرةعلى ممارسة الاشياء التى كنت تمارسها بشكل طبيعى فى حياتك العادية، تكون اشبه بالمشلول, عاجزا عن فعل اى شىء أخر، لقد وهبت نفسك لذلك الكائن الذى تمثله والذى احتل عقلك وجسدك.

-5-

هناك ممثلون يجسدون الشخصية بطريقة مباشرة وغير معقدة، ومع ذلك نحس بالصدق فى ادائهم, ويظهرون قدرة عالية على فهم الشخصية وتوصلها ببراعة واقناع, وأخرون يعايشون الادوار لكن دون القيام بتحريات او عملية استقصاء سيكولوجى بشان الشخصيات, بل يعتمدون على الخبرة والحدس والغريزة.

يقول "كلاوس كينسكى": انا لا اقوم بتحضير للدور، حتى اننى لا التزم بالحوار الكثير، فما افعله نابع من مدى انسجامى مع المخرج, فيما يرى ممثل أخر، مثل الفرنسى "لينو فينتورا"،عدم حاجته الى التحضير وان ما يحدد اختياره هو تماثله مع الشخصية.

من احدى مهمات المخرج الرئيسية فى علاقته وتعامله مع الممثل, ان يسبر ويستخرج تلك الطاقة الإبداعية الكامنة فى الممثل والتى بها يجسد الشخصية على نحو متكامل, ويعبر عن مختلف انفعالتها ومشاعرها وتناقضاتها بصورة مقنعة ومثيرة للاعجاب. بعض المخرجين يهملون هذا الجانب, معتمدين فى اختيارهم للممثل على موهبته, مع اعطاء الاولوية للشكل الجسمانى واحيانا لشعبيته النسبية، وبعد ذلك يكتفون بما يقدمه هذا الممثل, او بما يضيفه ضمن حدود ضيقة، فى تأديته للدور، انطلاقا من توجيهات المخرج, وذلك دون ان يولوا عملية السير والاستنباط لذات الممثل واستنطاق دواخله, ذلك الاهتمام الضرورى.

بالتأكيد، العملية تقتضى وعيا فنيا ومعرفة ثقافية وسيكولوجية ومقدرة استثنائية لدى المخرج, فالشخصيات التى يتعين على الممثل ان يجسدها ينبغى معرفة خلفيتها الاجتماعية والتاريخية ودوافعها، والمحركات او المكونات التى تجعلها تفكر او تشعر او تتصرفى بطريقة معينة، لكن من جانب أخر، يجب على الممثل ان يتحمل مسؤوليته فيما يتصل بعملية السبر، فمقابل تجاهل المخرج, على الممثل ان يبادر من تلقاء نفسه, ودون ان يملى عليه احد ذلك, الى الكشف عن مخزون الذاكرة وفحص تجربته الحياتية والثقافية لعله يجد تماثلات مع الشخصية، او حالات ومواقف تثرى وتعمق الشخصية، وذلك بعد دراستها من جميع جوانبها وعبر مختلف المستويات.

يتعين على الممثل ان يدع الشخصية تتعايش مع ذاته, ان تكون جزءا منه من كيانه, لا ان تكون غريبة وشاذة ومستقلة، الممثل لايستطيع ان يكون صادقا ومقنعا فى دوره ان شعر بنفور او كراهية للشخصية التى يؤديها، وحتى لو اتخذ موقفا محايدا ازاءها، فإن خللا ما سيظهر جليا للعيان, لابد ان يحب الشخصية ايا كانت, ولابد ان يشعر بأنها تمثل جانبا منه الظاهري او الخفى، ربما لايشعر الممثل بارتياح, او لنقل بتماثل, مع شخصية شريرة - على سبيل المثال - لكن هناك حتما جوانب مشتركة بين ذاته, وهذه الشخصية ربما ليس فى السلوك, لكن فى حركة ما، فكرة ما، طموح ما، اتصال حميمى بشىء ما.

اعماق الممثل كون مأهول بالشخصيات, بالوجوه والاقنعة، وعلى الممثل او المخرج او كليهما معا ان يكتشفا الوسيلة التى بها يمكن اطلاق  راحها.. اطلاق الطاقة الإبداعية الكامنة.

عندما يختار المخرج ممثلا فإنه يجد فيه خاصية معينة ملائمة للدور، ولان اوصافه تتطابق مع الشخصية المجردة المرسومة على الورق او فى الذهن, والتى عادة تاخذ شكلا بصريا محددا ليس جسمانيا فقط بل ايضا كأصوات وحركات.

وظيفة الممثل ومكانته تتباين من مخرج الى أخر، فالبعض ينظر اليه كأداة خلاقة ومستقلة، الممثل كائن بشرى خلاق وما على حدسك إلا ان يكتشف كيف يطلق سراح القدرة الخلاقة فى الممثل او الممثلة، "انجمار برجمان " المخرج هنا يهتم فى المقام الاول بتكوين علاقة حميمة مع الممثلين وبتأسيس مناخ ابداعى معهم, وهو يكتفى بتقديم بعض الحوافز والايحاء ات والاقتراحات اليهم, وهذا ما يؤكده المخرج الايطالي "بيلوكيو" فى قوله: انا لا احب ان افسر الشخصيات او  ان اوفر منطقا للاشياء، عندما يمتلك الممثلون علاقة عميقة ومباشرة مع ادوارهم فانهم لايحتاجو ن الى تفسيرات, التوجيهات العامة سوف تكون كافية.

بعض المخرجين ينظرون الى الممثل كوسيط محايد، وناقل امين, لرؤية المخرج.

والبعض يبحث عن الاداء المؤسلب, اى انه يطبع اداء ممثليه بأسلوب معين وفق رؤيته وحساسيته, فالاداء لايبدو طبيعيا انما يجسد افكارا.

والبعضى يرى الممثل محضىآلة تابعة وخاضعة تنفذ التعليمات, والبعض يهتم بإحداث التطابق بين الممثل والمتفرج,لذا يختار نجوما ذوى شعبية.

الممثل بشكل عام يفضل التعامل مع المخرج الذى يمنحه درجة كبيرة من الحرية لاستكشاف  الشخصية ولخلق حالة من المباشرة والحميمة, انه يطلب من المخرج ان يكون منفتحا،مرنا، حساسا، ومتفهما، ان يصغى الى الممثلين والى اقتراحاتهم,وان يوافق على اجراء تعديلات حين لايؤمن الممثل بما يقوله او لايقتنع بما يفعله, اغلب الممثلين يرغبون فى التعامل معه ككائنات حساسة، تحتاج الحب والثقة والامان والاحترام اكثر من النصائح والتعليمات والتوجيهات.

تقول الممثلة الفرنسية "جين مورو" "على المخرج ان يخلق احساسا بالامان لذات الممثل الحقيقية لحياته الداخلية ذلك لان الممثل انسان خائف دوما، حساس وسريع التأثر، ويتعين على الآخرين ان يسا ندوه ويساعدوه بكل الطرق. الممكنة، يجب ان يشعر بنفسه مرغوبا ومحبوبا.

عادة يتعامل المخرج مع كل ممثل او ممثلة، على نحو مختلف,ذلك لان حساسية واستجابة كل منهما مختلفت, وفى سعى المخرج الى جعل ممثله يكشف ذاته او يستخرج منها الاشياء الكامنة والتى ربما لايدركها ولايعيها فإنه يلجأ الى وسائل عديدة ومتباينة، كأن يصغى اليه ويخاطبه بحب, او يثيره ويستفزه, او يكون عنيفا معه, او يحقق اتصالا معه عن طريق الحدس والتخاطر... هذا الاتصال الناشئى من علاقة وطيدة وفهم مشترك.

-6-

يسهل التمييز بين نوعين من الممثلين: الممثل الخلاق والممثل الدمية.

الاختلاف بينهما لايكمن فى الطاقة التعبيرية عند كل منهما،بل ايضا فى درجة الحساسية تجاه الشخصية خاصة، والتمثيل عامة، كذلك القدرة على الابتكار، الاعتماد على المخيلة وتوظيفها بشكل دائم, السعى المستمر لتطوير الادوات والامكانيات.

"روبرت دى نيرو"، كنموذج للممثل الخلاق الذى لايستقر عند سطح الاشياء بل يغوص فى اعماق الشخصية مستثمرا جسده ومخيلته وذاكرته لاخفاء خاصية ابداعية مدهشة على الدور، يتحدث عن ادائه فى احد مشاهد فيلم "سائق التاكسي "والذى يقتضى منه - اى المشهد - ألا يعرف كيف يتصرف او كيف يظهر رد فعله فيقول: لقد توصلت الى فكرة ان اجعل ترافيز الشخصية يتحرك مثل سرطان بحر.. انه خارج سيارته التى تشكل الصدفة التى تحميه, انه خارج محيطه لقد استعرت او تخيلت صورة السرطان وهو يتحرك بارتباك وعلى نحو اخرق الى جانببه والى الوراء، هذا لايعنى انك تحاكى السرطان بل تستفيد من الصورة او الفكرة بحيث تخرج منها بتصور خاص.

هذا يكشف مدى اهمية الخيال الى جانب الفهم العميق لمستويات الشخصية انه لايحاول توصيل الطبيعة المادية للشخصية  فقط انما الطبيعة الروحية ايضا.

انه لا يسطح الشخصية بل يعمقها ويؤكد على تعددية ابعادها... ومن هنا ينبع التنوع المدهش والصدق فى تجسيد الشخصيات.

مثال أخر للحساسية وتوظيف المخيلة والذاكرة عن الممثل الخلاق نجده فى حديث الممثل "رود ستايجر" عن احد مشاهد فيلم,"المسترهن " اذا بقول حب السيناريو كان يتعين على ان انظر الى جثة الشاب ثم ارفع رأسى واميل الى الوراء مطلقا صرخة مدوية، وبينما الكاميرا تصور، فتحت فمى لاصرخ غير اننى تذكرت فجأة لوحة جيرينيكا لبيكاسو: المرأة ذات اللسان الحاد... بالرغم من انها مجرد لوحة، إلا اننى فى حياتى لم اسمع صرخة اكثر دويا منها، لذلك فقد صرخت دون ان اصدر صوتا، واعتقد انها من اللحظات القليلة التى اقتربت فيها من المستوى الاعلى للتمثيل: التمثيل الشعري للحياة عند اقصى درجة للألم.

الممثل الخلاق يشعر برغبة فى تحقيق اتصال مباشر وحقيقى مع الجمهور، وهذا الاتصال يتأسس فى المقام الاول على قدرة الممثل على ادهاش ومفاجأة الجمهور وهذه الخاصية لاتتحقق إلا اذا استطاع الممثل ان يدهش ويفاجئ نفسه اولا.

الممثل الخلاق لايحجم عن الادوار الصعبة والمركبة والعنيفة، حتى وان اقتضت جهدا وعناية ووقتا، انه يوجد لنفسه لغة خاصة به, تتشكل مفرداتها من الحركة والايماءة والنبرة وهو لايعتمد فقط على التقنية، التى هى معرفة مكتسبة من الخبرة ولكن بدرجة اكبر على الحدس والغريزة الارتجال عنصر ضروري لكنه تلقائى ومدروس فى أن.

أما الممثل الدمية فإنه حبيس تخوم رؤية ومخيلة المؤلف او المخرج فهو خادم مطيع للدور وينفذ الاوامر وبالنسبة للعمل ككل يمكن اعتباره قطعة ديكور يحركهما صانع العمل وفق مشيئته او تصوراته, ان وجوده كممثل تفرضه شروط ومعايير ليست فنية غالبا، وانما انتاجية.. أى تجارية.. كأن يكون نجما محبوبا جماهيرا لوسامته وجاذبيته او ان يكون رياضيا او مطربا.

الممثل الدمية عندما يتم ترشيحه لدور ما، فإنه يقبله كما هو، ويؤديه كما هو، انه لايحلل ولايفسر بالتالي هو لايساهم فى تحديد الشخصية ونموها.

انها تظل ناقصة النمو وخاوية وهذا يرجع الى عدم امتلاكه القدرة على سبر اعماق الشخصية ومحدودية الادوات التى يستخدمها فى بناء الشخصية، انفعالاته ومشاعره غير منسقة،اعماقه محجبة، عواطفه وافكاره مطموسة, ذاته لاتمتزج بالشخصية ولايقوم بتحويل نفسه من الداخل.

الممثل الدمية ينظر الى التمثيل كحرفة لا كفن ينجز دوره دون ان يعبأ بمحتوى العمل, يهتم بصورته ومظهره  اكثر من اهتمامه بقيمة العمل, يقول الممثل "هنري فوندا".

بعض الممثلين يتوقفون عن الاصغاء الى بعضهم البعض انهم يؤدون بآلية لايتفاعلون بل يلقون حواراتهم المكتوبة فقط,احيانا ارى ممثلا يتكلم فيما الأخر ينظر اليه دون ان يصغى،وهو على الارجح يفكر اين سيذهب للعشاء بعد انتهاء العرض.

وجه الممثل الدمية ثابت ومتكرر لايختلف ولايتحول اما جسده المفترض ان يكون شبيها بآلة موسيقية، فهو معطل ولايجيد العزف عليه, لاتعنيه الدوافع والمحركات لانه لايلج الشخصية، يؤديها ولايعيشها، لايكشف الحياة الداخلية للشخصية بل يطفو على السطح... انه اذن اقل اهتماما بالنواحى السيكولوجية واكثر تركيزا على المظاهر الخارجية والاستجابات المباشرة وكلما كان الدور نمطيا واحادى البعد، ازداد اقترابا منه وقبولا له.

تقنياته واضحة ومكشوفة يلجأ الى المبالغة فى الانفعال والاصطناع فى اظهار ردود افعاله, ليس بسبب وعيه الفقير بماهية ومعنى التمثيل فحسب, وانما ايضا لانه لايؤسس علاقة خاصة وحميمة بالدور وبالاشياء التى تتصل بالدور،انه يزيف الانفعالات والمشاعر معتمدا بشكل اساسى على المحاكاة وعندما يحاكى المشاعر والعواطف فإنه يخفق ويصبح تمثيله فاضحا.

-7-

الممثل يعى غالبا دوره فى المسرح كعنصر بارز ورئيسى وعليه يقع العبء الاكبر فى التحكم فى المشهد وفى شد انتباه الجمهور، ويعى ايضا العنصر الاساسى والمتحكم المباشر فى العملية الابداعية اجمالا وهو الوحيد الذى يقرر مدى جودة الاداء او ضعفه, لذا يتعين على الممثل ان يثق به, ويبذل كل جهده وطاقته من اجل ألا يخيب توقعاته, لهذا السبب, فى السينما يضع اغلب الممثلين انفسهم تحت تصرف المخرج,خاصة اذا كان مبدعا وبارعا فى ادارة وتحريك ممثليه واستنباط اداء استثناش منهم.

شخصية الممثل على خشبة المسرح ذات حضور مادى وتحمل عادة طابع الاستمرارية فى علاقتها بالزمان والمكان,كما انها على اتصال اجتماعى مباشر.

بينما فى السينما هى ذات حضور وهمى, تجريدى تقريبا، ولاتملك حسب الاستمرارية انها جزء من سلسلة من الصور.

الممثل المسرحى يتميز بامتلاكه احدى المقومات الحيوية والثمينة التى يحتاجها الممثل... يعنى الجمهور، العلاقة هنا اكثر مباشرية وحميمية، بامكان الممثل ان يراقب ويتلقى ردود - فعل المتفرج, وعلى ضوء هذه الاستجابات يقوم باجراءات معينة: تعديل الاداء، تغيير الحوار، تصحيح الاخطاء، لكن هذه العلاقة بالجمهور قد تصبح مرهقة ومخيفة اذا خضع الممثل لمطالب ورغبات الجمهور الذى وجهات نظره متباينة ومتعارضة وكذلك حالاته وأمزجته واذواقه.

التمثيل السينمائى اكثر صعوبة ومشقة فهو يفتقر الى الاتصال المباشر بالجمهور ويفتقر الى التدريبات "البروفات " حيث تفرض ظروف الانتاج احيانا التقليل من البروفات او عدم اللجوء اليها، اضافة الى طبيعة العمل التى تعتمد على اسلوب اللقطات وليس التصوير المستمر والمتصل, التمثيل السينمائى يقتضى حساسية بالغة وتركيزا اكبر وتحكما ادق فى الايقاع, ويتعين على الممثل ان يشعر بالتناسق بينه وبين الكاميرا، وان يعرف زواياها وحجم اللقطة، وان يدرك كيف يستثمر ويطور الامكانيات التى تقدمها علاقته بالكاميرا.

لكل مجال "السينما او المسرح " خاصياته وشروطه ومزاياه وما يحققه من متعة بالنسبة للممثل وفى حالة الانتقال من مجال او وسط "كالمسرح " الى أخر كالسينما نجد بأن الممثل الحقيقى، الذى يعى الفروقات لايعانى من صعوبة ومشقة فى التكيف والانسجام والتوازن, بينما يخفق الممثل الذى يفتقد الى الخبرة والذى لايعى اختلاف الوسطين فى الادوات والتقنيات والايقاعات واللغة.

-8-

عندما ابتكر المخرج الامريكى "جريفث " اللقطة القريبة فى العام 1908، فإنه لم يعمق المظهر الدرامى والتاثير السيكولوجى للمشهد فحسب, بل ايضا ساهم فى خلق مستوى جديد من العلاقة الحميمية بين المتفرج والممثل او الممثلة،وضاعف من تأثير الوهم, فالوجه المضخم على نحو غير عادى والمرئى عن قرب شديد، كان وما يزال يثير لدى المتفرج مشاعر من الفضول والرغبة فى الالتصاق بهذا الوجه "او اختراقه" ومحاولة معرفة كل شيء عنه... ليس على الشاشة "حيث هو حاضر فى الفيلم " انما خارج الشاشة بدرجة اكبر.

المتفرج لا يرى على الشاشة حقيقة الممثل - الممثلة بل يرى انعكاساته, ظلاله, الاقنعة العديدة المتغيرة من فيلم الى آخر،الوجوه التى يلبسها الممثل, وفق ادواره المتغيرة تجعل الوجه الحقيقى مموها، مخفيا، مجهولا، وبالغ الغموض, يصبح لغزا يحاول الآخر عبثا ان يحله وعندما يصبح هذا الممثل نجما، اى يزداد اقتراب المتفرج منه الى حد التطابق والتقمص "عبر محاكاة مشيته وطريقة كلامه وملابسه وتسريحة شعره... الخ " فإن شهوة المتفرج الى معرفة كل شىء عن هذا النجم فى حياته الواقعية تزداد الى حد الهوس, انه يرغب فى معرفة كل شىء عنه حتى التفاصيل الصغيرة: ماذا في كل, ماذا يحب او يكره, اين يسهر، وكيف يعيش حياته اليومية والخاصة، وهذا يفسر رواج المجلات الفنية والنسائية، التى تهتم كثيرا بالجوانب الحياتية والعائلية والعلاقات الخاصة للنجوم, فهى تغذى هذا الجوع, او هذه الشهوة للمعرفة التى لاتتوقف عند حد،، ولاتصل ابدا الى حالة اكتفاء او اشباع, نظرا لاحساس المتفرج ان ثمة العديد من الجوانب لاتزال مخفية ولم يكشف النقاب عنها، وان النجم - حتى فى حياته اليومية - يلعب مختلف الادوار، وينتحل مختلف الهويات كما على الشاشة.

ان جاذبية النجم وشعبيته تتأسس على القيم التى يمثلها والرموز التى يجسدها والامكانيات التى يستثمرها فى تغذية تخيلات واحلام المتفرج وهو - النجم - يحقق هذه الخاصيات ليس بواسطة الطاقة الذاتية والحضور الشخصى ولكن بدرجة اكبر بواسطة ألية الدعاية وصحافة الاثارة التى تضفى خاصيات اضافية لاتكون عادة متوافرة فى النجم, والتى تركز على النواحى الاثارية... كالعلاقات الغرامية مثلا، او تروج لشائعات لاتنتهى مستفيدة من واقع انه كلما ازدادت المعلومات قلت المعرفة، ومن ثم ازداد الحرص على متابعة كل ما يحيط بالنجم.

النجم - قبل بقية المشاهير - مجرد صورة متخيلة فى ذهن الآخر "المتفرج ". انه اختراع قابل للتأويل, وهذه القابلية تمنحه معنى متجددا فى كل مرة، وهو يصبح شكلا ميثولوجيا لايعود ينتمى الى الواقع اليومى بل يقطن واقع الشاشة، او واقع الحلم انه يصير كائنا سماويا، اثيريا، منتخبا ليجسد رغباتنا وهواجسنا وشهواتنا ومخاوفنا، وليثير - بالتالي – اعجابنا وحسدنا فى آن.

ان احتشاد الناس لرؤية المشاهير من الممثلين والممثلات, والالتفاف حولهم عند خروجهم او نزولهم الى الحياة اليومية لقضاء حاجياتهم او ممارسة حياتهم الطبيعية، والتطلع اليهم فى دهشة وفضول بأفواه فاغرة، يؤكد تلك النظرة التى ترى فيهم اشكالا ميثولوجية.. انها الدهشة من حقيقة ان هؤلاء قد غادروا واقع الحلم "الشاشة" ليهبطوا الى واقعنا وعدم تصديق امكانية حدوث ذلك فمن المفترض او المسلم به, ان يكونوا هناك ومجيئهم الى هنا يثير شيئا من الريبة والارتباك, لهذا يتهافت المحيطون بهم لملامستهم, ومصافحتهم, والتحديق فيهم,والحصول على تواقيعهم من اجل التأكد بأنهم مخلوقات حقيقية،وأرضية.

-9-

الممثل الثانوى هو الشخص الذى لايكون فى لب الدراما وفى قلب الاحداث حضوره عابر ومساحته محدودة، حركاته وافعاله ليست اساسية او حاسمة فى مسار الدراما حتى وان كانت مؤثرة بعض الشىء، قد يضىء ويكشف ويرصد ويشهد ويفعل, لكنه ليس فى البؤرة، والاضاءة مسلطة دوما على شخص أخر يسمونه "البطل".

انه يدخل عندما تحتاجه الحبكة او السرد والاحتياج اليه قليل, لذا يتكلم ويفعل ثم يغيب, قد يحضر ثانية وقد يختفى الى الابد، احيانا يكون وجوده باهتا وغير ملفت او مؤثر،واحيانا يكون قويا ومهيمنا بحيث انه ينمو ويزدهر فى ذاكرتنا ويظل عالقا هناك, يراودنا بين أن وأخر.

الممثل الثانوى عادة محروم من الجاذبية والوسامة والسحر والخاصيات الاخرى التى تميز النجم, لايمكن ان يكون موضع اعجاب لذاته ولشخصيته, ووسائل الاعلام لاتهتم به كثيرا، انه مجهول تقريبا، مهمل, لا احد يشير اليه بإصبعه, لا احد يعرفه, لا احد يتريث امامه ليتأمل صورته,يقف دائما فى الظل, فى الهامش, بلا اسم ولا وجه, وهو مرئى،لكن ليس تحت الضوء، الاضاءة مركزة على الأخر، "النجم ".

ولانه ليس مطالبا بان يمتلك مواصفات النجم وجاذبيته فلا باس من ان يكون سمينا او قبيحا او كهلا، انه يتماثل مع الانسان العادى، الذى تراه فى حياتنا اليومية، ولايقترب ابدا من تخوم الكائن الخارق الذى تتضافر كل العناصر والأليات لتصويره فى مظهر النجم الاسمى واحاطته بالمظاهر المثيولوجية، ولانه يعرف ذلك ويدرك انه لايستطيع ان ينافس النجم, فانه يصبح اكثر اتصالا وارتباطا بفن التمثيل من النجم, يتشبث بموهبته ويوظف طاقته الى اقصى حد، وهو يعرف كيف ينجز مسته, العاجلة العابرة، على احسن وجه.

انه بلا حصانة ولاحماية يمكن استبداله فى اية لحظة وفى اى ظرف لذلك يشعر بالحاجة لان يعمل باستمرار، لان يفرض وجوده باستمرار هذا الوضع المقلق والمضطرب, فى غياب الضمان والسند، يجعله يشعر بالعزلة والخيبة والخذلان,يشعر بان احدا لايقدر قيمته ولايمنحه ما يستحقه من اهتمام,وانه مهما فعل او تالق فلن ينال غير لفتة سريعة او ثناء وجيز. وهذا بدوره يجعله يشعر بالحسد والغيرة من ذلك الذى يقف فى مركز الاشياء تحت الاضواء مباشرة، والذى يستقطب الانظار والاهتمام, شعوره هذا نابع من ادراكه بقيمته,بموهبته, بأحقيته, اذا كان قادرا على ان يكون ذا حضور طاغ فى اى مشهد أو فى اى تكوين, فما الذى يحول دون اعطائه مساحة اكبر؟ انه لا يربب ان يظل قانعا بدوره, بوضعه, لايريد ان يبقى فى الظل... مهملا ومهمشا، بل يرغب فى ان يصبح معروفا، ان يصبح بطلا، ان يكون فى البؤرة.

-اننا نفهم الغضب والاستياء والوجع الذى يحس به الممثل الثانوى، احاسيس مماثلة لتلك التى يحسها اى فرد منا عندما يشعر بانه مجهول ومهمش ومهمل وثانوى فى الحياة اليومية. النضال من اجل الوصول الى بقعة الضوء، محاولة لاثبات الوجود، لاعطاء الذات اهمية وقيمة ومعنى ليست الغاية هنا تحقيق مكسب مادى او مجد او شهرة، بل التحرر من قفص المجهولية والخفاء والتغييب لكن برغم كل شىء فثمة براهين تؤكد ان الدور مهما صغر حجمه او مساحته, فانه قادر ان يكون فاعلا ومؤثرا وملفتا اكثر ربما من الدور الرئيسى اذا قام بادائه ممثل بارع قادر على ادهاشنا.

-10-

فى العمل الدرامى نجد الشخصية النمطية الاحادية البعد ذات الملامح الواضحة والغايات المحددة والمشاعر الصادقة،حيث من السهل التنبؤ بسلوكها وافعالها واخطارها، انها الاتحتوى فى داخلها التناقضات والتعارضات الموجودة فى اى كائن بشرى، انها تمثل الخير المطلق او الشر المطلق, لاتتغير لاتتحول... بالتالي لاتفاجىء، شخصية كهذه غالبا ما تكون مسطحة، بلا عمق, وغير مثيرة للاهتمام.

فى المقابل هناك الشخصية المركبة... المتعددة الابعاد، التى تتعدى التصنيف والنمطية والنمذجة، ملامحها متغيرة، دوافعها غير واضحة، مشاعرها متحولة ولايمكن التنبؤ بما ستفعله او تقوله, انها لاتعرف, او لاتستطيع ان تفسر، مشاعرها ومخاوفها وما يحكم علاقاتها بالاخرين وبالاشياء المحيطة،مشاعرها، بالاخرى، محجبة، وعيها بالذات مشكوك فيه,اهدافها ليست دقيقة بل مغلقة بالسديم.

اعماقها متعددة الطبقات, انفعالاتها تتباين حسب المواقف والحالات المختلفة التى تجد نفسها مقحمة فيها، انها تتحرك لكن دون ان تعرف وجهتها وغايتها، والى اين ستصل وفى اى محطة سترتاح.

ولان هذه الشخصية لاتستقر فى موقع معين, ولاترتاح فى نمط سهل من السلوك او حالة ثابتة من التعبير، ولاتخضع لتقييم عاطفى محدد، فان المتفرج يقف امامه عاجزا عن الفهم او ابداء حكم ما، ويجد نفسه مرغما على التخلي عن اليقين والتسليم بما يراه, فهو ازاء شخصية متناقضة، مشوشة، انفصامية تقريبا، انها قوية وضعيفة، وديعة وشرسة، صريحة وكتومة، حساسة وفظة، انها تشبه المتفرج فى حياته اليومية،ذلك لانها نتاج واقع مركب, غير منظم, غير مستقر، وبالغ الغموض.

الشخصية المركبة بعكس النمطية، لا تمتلك أجوبة بواعثها ودوافعها مبهمة، تصرفاتها تبدو لنا، وحتى للشخصية ذاتها،غير مبررة او غير واضحة الدوافع, لاتعرف ماذا ستفعل فى اللحظة التالية ولاتستطيع ان تحمل معضلاتها وتعقيداتها.

العمل الدرامى يقهر توقعات المتفرج وتنبؤاته بشأن الشخصيات وعلاقاتها.

المتفرج عادة مغرم باصدار الاحكام ولان الاحكام غالبا ما تكون متسرعة وغير دقيقة وخاطئة، فإن على الفناني ان يخربها ويخلق حالة من الالتباس والشك, ان يفقد المتفرج توازنه واطمئنانه, وان يجعله يعيش الحالات نفسها التى تعيشها الشخصية.

الشخصية المركبة ليست ايجابية بالمعنى الايديولوجى انها ضد البطل الايجابى الذى يعرف كل شىء، يسم كل شىء والذى هومزيف وغير بشري الشخصية المركبة لاتلبى حاجة المتفرج الى من يحل مشاكله ويقهر اعداءه ويحقق احلامه, بل تجسد الكامن والمكبوت, الاشياء التى لايرغب المتفرج فى مواجهتها او الكشف عنها. 

*نشرت المادة في مجلة "نزوى" العمانية

العدد الثالث ـ يونيو 1995

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004