أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

في سينما مايكل هانيكه:

الطفولة في حالة توحّش

كتابة: فيليبا برادنوك

ترجمة: أمين صالح

في فيلم مايكل هانيكه "الشريط الأبيض" (الحائز على جائزة مهرجان كان الكبرى في 2009، والذي حاز على جوائز أكاديمية السينما الأوروبية كأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو، وجائزة نقاد شيكاغو كأفضل فيلم أجنبي، وجائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي) نرى مجموعة من الأطفال وهم في محور بعض الأحداث المقلقة التي تقع في قرية ألمانية هادئة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة.

عندما نستعيد ذهنياً أفلام (الألماني المقيم في سويسرا) مايكل هانيكه، نجد أن اللحظات أو المشاهد التي علقت في الذاكرة هي تلك التي تحتوي على عنف وقسوة: إيزابيل أوبير وهي تشوّه موضعاً حساساً من جسمها بموسى حلاقة في "مدرّسة البيانو". سوزان لوثر مكتشفة في "ألعاب مسلية" أن السيارة، التي أشارت إليها لتتوقف، يقودها الشابان المضطربان عقلياً واللذان عذّبا عائلتها. الانتحار المفاجئ العنيف للرجل الذي يتهمه بطل الفيلم بترويع وإرهاب العائلة في "المخفي".

هذه الصدمة والقلق من الأشياء التي تجعلنا نتوجس من مجابهة فيلم يحققه مايكل هانيكه، مع ذلك نحرص أخيراً على مشاهدته. في فيلمه الأخير "الشريط الأبيض"، نرى قرية ألمانية تعاني وتتعذّب من جراء أفعال عنيفة، من الجلي أن مرتكبيها مجموعة من أطفال القرية. ورغم أن مسؤوليتهم عن ذلك مشار إليها ضمنياً، وعبر الإيحاء فحسب، إلا أن الفيلم يُظهر بشكل بيّن وصريح أهمية الأطفال في أعمال هانيكه، وأدوارهم الأساسية، وموضعهم الغامض والملتبس فيها. الأطفال لهم حضور قوي في كل أفلامه، وغالباً ما يكونون هم مرتكبي العنف مثلما هم ضحايا للعنف.

في مقابلة له مع جريدة "نيو يوركر"، قال هانيكه: "بإمكانك أن تعرض كل نواقص وعيوب المجتمع من خلال أطفاله، لأنهم دوماً في الدرجة الأدنى.. إنهم أولئك الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، والذين مقدّر لهم أن يكونوا ضحايا".

في أفلام هانيكه، المجتمع فاتر، لا مبال، قاس، مقصّر في حق الأكثر ضعفاً، عاجز عن الأداء بطريقة سويّة. العديد من الأطفال الذين يقطنون أفلامه هم ضحايا، أحياناً ضحايا عنف مباشر وصريح، كما في حالة الابن في "ألعاب مسلية"، الذي يلقى مصرعه كطرف من لعبة مميتة مفروضة على العائلة من قِبل شابين غريبين.

لكن هناك أيضاً مظهر أعمق لحالة الطفل كضحية، نجدها في أفلام هانيكه، ليس كضحية لعنف مفاجئ، غير متوقع.. بل نجدها في عملية التوحش البطيئة التي يتعرض لها الصغار من قِبل البالغين ذوي النوايا الحسنة، الراضين عن أنفسهم. الظروف والتربية تجعل من هؤلاء الصغار وحوشاً.

في أول أفلام هانيكه "القارة السابعة" نجد عائلة نمساوية بورجوازية، مؤلفة من أب وأم وابنة صغيرة. إنها مستغرقة كلياً في شؤون عملها، روتينها اليومي، مكانتها في المجتمع. لكن في نهاية الفيلم، أفرادها يقتلون أنفسهم. وعلى نحو استعادي، يصبح جلياً أنهم خططوا بدقة تامة لانتحارهم. رسالة الانتحار، المقروءة بصوت (خارج الشاشة) مطمئن ورابط الجأش، تؤكد للمتلقي أن الابنة، البالغة من العمر خمس أو ست سنوات، كانت موافقة على المعاهدة المبرمة بينهم. لكن كيف بإمكان طفلة أن توافق على فعل كهذا أو حتى أن تفهم ما يعتزمه وينويه والداها؟ وكيف يمكن لها أن تعترض وهي لا تعرف أحداً غيرهما؟

هذا الاستغلال يستمر في فيلمه "71 Fragments of a Chronology of Chance" حيث ينوي زوجان تبني طفل لاجئ، طليق اللسان، موضع اهتمام الميديا والناس.. بدلاً من الصبيّة (آن)، التي فكرا في البداية في تبنيها، والتي تعاني من انجراح وصعوبة في التكيّف رغم محاولتها البطيئة في كسب ثقتهما. إن رفضهما للصغيرة، التي تتوق إلى العيش معهما على الرغم من إنطوائيتها، له تأثير على نفسيتها أقوى وأشد من فورة القتل التي يختتم بها الفيلم. إنها تظل تلك المخلوقة المحجوبة، المتوارية، المحرومة، غير المرغوبة.

من خلال هؤلاء الأطفال نكتشف عجز البالغين عن الإفلات من الاهتمامات الأنانية، حتى عندما يحسبون أنهم يتصرفون على نحو غير أناني. لكن أطفال هانيكه هم غالباً معقدين إلى حد بعيد وهم ليسوا ضحايا فحسب بل في أحوال كثيرة يرتكبون بأنفسهم أعمالاً عنيفة. في "فيديو بيني"، يقوم بيني المراهق بدعوة فتاة إلى شقة والديه ويقتلها بمسدس يُستخدم في قتل الحيوانات. العديد من النقاد نسبوا اعتداءه على الفتاة إلى حالة الاستلاب والاختلال وتحجر العاطفة لديه بفعل أشكال ميديا العنف (نشرات الأخبار، أفلام الرعب، الرسوم الهزلية) المتوفرة والمتاحة له على الدوام. لكن هناك أيضاً الإحساس المحدّد بنقطة التحوّل، الاختيار الذي يقوم به لحظة ضغطه على الزناد. الذين يعانون الدوار، نتيجة الخوف من الأماكن المرتفعة، يتحدثون عن خوفهم ليس من السقوط بل الرغبة في السقوط، كما لو أن السقوط يمارس عليهم جاذبية وراء ما هو عقلاني. إنه هذا الحد الفاصل، بين رجاحة العقل والفوضى، الذي يعبره الكثيرون في تلك اللحظة. الفيلم لا يدعنا نصنّف بيني، على نحو آمن، بوصفه شخصاً وحيداً أو مختلاً أو مسخاً. ما يفعله أمر مرعب، لكن ذاك الاختيار الذي يقوم به، بين الهاوية أو حاجز السلامة، يوجد بداخل كل واحد منا.

إذا كان بيني أقل شيطانية مما يعتبره الكثير من النقاد، فإن والديه هما الوحشان الحقيقيان. هما معنيين أكثر بما قد يتسببه الكشف عن جريمة ولدهما من اضطراب اجتماعي (إضافة إلى العواقب التي سوف تلحق بمستقبله الباهر) لذلك يباشران في تنفيذ خطة رهيبة للتخلص من جثة القتيلة. لكن بيني يعترف للشرطة بجريمته. إن في تستر والديه على جريمته كشف عن الإفلاس الأخلاقي.

هذا الرياء والرغبة الأبوية في المحافظة على الوضع الراهن يجد صداه في فيلم "الشريط الأبيض". أب يهدّد رجلاً أوحى بأن أطفاله هم وراء الجرائم المرتكبة في القرية، على الرغم من تشديده السلطوي بإفراط في بيته على طاعة الأولاد له وما يمارسه من عقاب.

البالغون في أفلام هانيكه يبدون محاصرين في مفاهيمهم عن أنفسهم وعن العالم، غير قادرين على الإفلات من طرائقهم الراسخة والمحصّنة في التفكير، وهي في الغالب تدفعهم إلى ممارسة الرياء بعمق. الصغار، مثل الكبار، لديهم القدرة على ممارسة الخير والشر، لكن الاختلاف هو في قابليتهم الكامنة للتغيير، للملاحظة، للمرونة. الأطفال لديهم القابلية للفهم والتقمص العاطفي.. الأشياء التي فقدها الكبار. لذا في "وقت الذئب" يكون بإمكان الابنة إقناع الغريب بالاقتراب منهم، بينما تعجز الأم عن إقناعه. وفي "الشريط الأبيض" يقوم الطفل بإعطاء الأب أثمن ما يملك في سبيل إسعاده وإثارة البهجة لديه. إنه ضرب من الهبة اللاأنانية، المحبة للغير، التي أبداً لا يفعلها البالغون في أفلام هانيكه.

قال هانيكه ذات مرة أنه يصوّر ما يخافه أكثر، وبلا شك أن غزو بيت العائلة، الذي يشكّل الحبكة الأساسية لبعض أفلامه (ألعاب مسلية، وقت الذئب، المخفي) يُعد من الكوابيس. إنه أيضاً تذكير بمخاوف الأطفال بشأن موت أو هجر الوالدين لهم. ويبدو أن هذه الأفلام تتعامل تقريباً مع هذا الفقد.. ماذا يحدث عندما تصبح كوابيس أطفالنا حقيقية، عندما الاستجابات الاعتيادية لمرحلة البلوغ لا تعود تعمل ولا يعود هناك شيء متروك للتعويل عليه؟

أي فيلم لهانيكه يعد تجربة مقلقة ومثيرة للتحدي، تجربة لا تجعلنا نستجوب أحداث الفيلم فحسب بل طبيعة الفيلم نفسه. كل أفلام هانيكه تولّد أسئلة تبقى غير محلولة، بلا أجوبة، وفي "الشريط الأبيض"، و"المخفي"، هذه تشكّل الأساس أو الجزء الأهم من الفيلم. اللقطات هي جزئية، المعلومات دوماً مكبوحة وغير عرضة للإفشاء، ويتعيّن علينا أن نخمّن ما يحدث حيث الأحداث الرئيسية تقع خارج الشاشة. في "شفرة مجهولة"، شخصية جولييت بينوش تتلقى ملاحظة من مجهول عن طفل يقيم في البيت المجاور، لكننا لا نعرف مضمون الرسالة, في ما بعد، هي تحضر جنازة، من المفترض أنها جنازة الطفل، لكن الفيلم لا يوضح سبب الوفاة أو كيفيته. نحن المتفرجون نشبه الأطفال في أفلام هانيكه، يقظين باستمرار، ودائماً نتحرى ما يحدث، لكن غير مسموح لنا أن نرى الصورة كاملةً.

يتعيّن علينا كذلك أن نستجوب تأويلنا للأفلام نفسها. فيلمه "المخفي" لا يوفّر أي مفتاح بصري للتمييز بين لقطات الفيديو داخل الفيلم عن الفيلم نفسه، لذا نحن لا نكون متأكدين أبداً من حقيقة ما نراه. جلسة الاختبار في "شفرة مجهولة" قد تصبح مشهداً مرعباً أو تظل مجرد جلسة اختبار. كل ما كنا نظن أننا نعرفه، يتقوّض، ومثل أطفال هانيكه، يتوجّب علينا أن نتكيّف ونجد طرائق جديدة لفهم هذا العالم السينمائي الجديد، بكل سماته وشكوكه الرهيبة.

المصدر: Close – Up Film, December 2009

الوطن البحرينية في

06.02.2012

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004