أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

كيارستمي..

سينما لا تستنزف الطاقة

كتابة: ناسيا حميد

ترجمة: أمين صالح

·   وصفك البعض بـ ساتياجيت راي الجديد، من حيث اكتشاف الغرب لك بالطريقة التي حدثت مع راي في الستينيات. لكن بخلاف راي، بينما يريد النقاد مناقشة أفلامك، إلا أنهم لا يريدون أن ينظروا إلى مدى أبعد لرؤية الثقافة الفارسية من خلالها. هل تقدر أن تخبرني إلى أي مدى تتصل أفلامك بالثقافة الإيرانية؟

- بلا شك أفلامي لها جذور عميقة جداً في قلب الثقافة الفارسية.. وإلا فأين سيكون منبعها، ومن أين تستمد مصادرها؟ أنا أيضاً أفهم أن الغرب يجد هذا إشكالياً من الوجهة السياسية: أحداث السنوات الأخيرة أظهرت صورةً مخيفة جداً لإيران إلى حد أنهم يختارون تجاهل ما لا يميلون إليه، ويركّزون على ما يريدون فعله. لكنه صراعهم، بين فكرتين مختلفتين تماماً. من جهة، في التقائهم بالسينما الإيرانية، هم ينظرون إليها كثقافة صحية وإنسانية، وشعرية أيضاً بطريقة ما. من جهة أخرى، هم ينظرون إلى ذلك بوصفها ثقافة الإرهاب، كما تصورها الميديا الجماهيرية الغربية. التضارب بين هاتين النظرتين قد تسبب في رد الفعل هذا، والذي يجعل الناس غير راغبين في الاعتراف بخلفيتي الإيرانية. مع ذلك، في الوقت نفسه، هم يريدون أن يعرفوا من أين جاءت أعمالي. الحقيقة أن أحداً لا يستطيع أن ينكر الثقافة التي وُلد ضمنها.

·        كيف تربط أو تقيم علاقة بين الفيلم والسياسة؟

- أظن أن أي عمل فني هو عمل سياسي، لكنه ليس حزبياً. إنه لا يساند حزباً ويهاجم آخر، لا يفضّل نظاماً على آخر. نحن نفهم السينما السياسية على أنها تلك التي ينبغي أن تدعم دوماً أيديولوجيا سياسية معينة. لو نظرت إلى أفلامي من وجهة النظر هذه، فبالتأكيد سوف لن تعتبرها سياسية. لكن ليس هناك فيلم يقدر في الوقت نفسه أن يكون غير سياسي. رغم ذلك، عندما يتحدث المرء عن الكينونة هنا وفي الحاضر، فإنه بطريقة ما يعبّر عن علاقته بالأحداث السياسية اليومية في بلاده، أو في العالم. أظن أن تلك الأفلام التي تبدو غير سياسية، مثل الأفلام الشعرية، تكون أكثر سياسية من الأفلام المصنفة على أنها "سياسية".

·        هل عملت دوماً مع ممثلين غير محترفين؟

- نعم، دوماً. فيلمي الأول كان مع طفل في السابعة من عمره، لأنني لم أستطع العثور على ممثل محترف في السابعة في ذلك الحين، ومع كلب غير مدرّب. أنا نفسي كنت غير محترف. هذا أصبح منهج عملي. بالطبع للعمل مع ممثلين هواة حسنات ومساوئ، ويقتضي بالتأكيد طريقة خاصة في العمل. المرة الأولى التي عملت فيها مع ممثل محترف كان في "عبر أشجار الزيتون"، مع محمد علي كيشافرز، ومع أني كنت راضياً حقاً عن أدائه، إلا أني أستمتع أكثر في العمل مع الهواة، وأتعلم منهم الكثير. بما أنهم لم يألفوا العمل السينمائي بعد، فإنهم باستمرار يصححون لي الأفكار التي تكوّنت لدي سلفاً. حالما يعجزون عن إلقاء جملة من الحوار، والتي ربما تكون مكتوبة بشكل سئ، أو لا يتمكنون من تأدية مشهد ما، فإنهم بطريقة أو بأخرى ينقلون إليّ هذه الرسالة التي تقول بأن ثمة خللاً في عملي. بالتالي فإنهم، دون أن يعلموا ذلك، يصححون نصي وحواري. ثمة علاقة متطورة بيننا. الممثل الهاوي، بطريقة ما، هو نصف مخرج، نصف مونتير، نصف كاتب سيناريو.

·        من هو مخرجك المفضل؟

- في هذه اللحظة، لا أستطيع أن أعطيك اسماً. في البداية كنت متأثراً بالسينما الأمريكية، التي عرّفتني على شخصيات نائية عن الحياة اليومية: أفراد يحملون مسدسات، ورعاة بقر. في الواقع، السينما الإيرانية بدأت مع النمط الغربي. كان هناك سلسلة من النجوم البعيدين كثيراً عن حياتنا. بعد ذلك مارست السينما الإيطالية التأثير الأكبر فيّ: للمرة الأولى أشاهد أفراداً قريبين جداً من الأفراد الذين ألتقيهم في محيطي في إيران. السينما الأمريكية كانت تنظر إلينا بوصفها سينما الخيال، غريبة عن حياتنا اليومية. بينما عرضت علينا السينما الإيطالية، على نحو واضح ومباشر جداً، الناس وحياتهم المألوفة والاعتيادية. وفكرت، حتى جاري يمكن أن يكون بطلاً في هذه الأفلام، حتى أبي يمكن أن يكون في بؤرة الفيلم. لقد كان للواقعية الجديدة التأثير الأكبر علي، ولأني كنت يافعاً جداً آنذاك.

·        كم كان عمرك؟

- 15. كنت في العاشرة عندما شاهدت أول فيلم في حياتي.

·        أي فيلم كان؟

- لا أستطيع أن أتذكر. لكنني أتذكر الصورة الأولى التي شاهدتها: أسد مترو جولدوين ماير. الصورة أفزعتني. لقد سبق أن شاهدت أفلاماً، أعني الفيلم الفعلي نفسه، في أيدي الأطفال في الشارع، لكنني لم أعرف كيف تشتغل.

·        تعني أطر (frames) الفيلم..

- نعم، كان الأولاد يتبادلون هذه الأطر مثل الطوابع.. وبالنسبة لي، كان الفارق بينها والطوابع هو ضرورة أن ترفعها وتعرّضها للضوء كي ترى محتواها. الفيلم الأول الذي شاهدته كان ملوناً، يمثّل فيه داني كاي. أذكر أنه كان يعزف على البيانو بأنفه، لكنني لا أعرف عنوان الفيلم.

·   في بعض المراحل من ثلاثيتك (التي تدور في كوكر)، نرى الطاقم الفني يظهر أمام الكاميرا. هل أنت تستخدم هذا كوسيلة إبعاد (أو خلق مسافة) بريشتية؟

- نعم، لكنني لم أستمد ذلك من نظرية بريشت فقط. لقد توصلت إلى هذا من خلال التجربة. نحن غير قادرين أبداً على إعادة بناء الحقيقة كما هي في واقع حياتنا اليومية، ونحن دائماً نشهد الأشياء من مسافة بعيدة فيما نحن نحاول أن نرسمها أو نصورها بحيث تكون قريبة قدر ما نستطيع من الواقع. هكذا إذا كنا نخلق مسافة بين الجمهور والفيلم، أو حتى بين الفيلم ونفسه، فذلك لأنه يساعد في فهم الموضوع بشكل أفضل.

أنا أجد الإبعاد أو التغريب في "التعزية" (الشعائر التي تعرض  مقتل الحسين بن علي). مع أن الجمهور قريبون بعمق من الموضوع ويؤمنون به، إلا أنهم عندما يجلسون لمشاهدة العرض فإنهم ينسون كل ما كانوا يعرفونه من قبل ويصدقون، حتى من غير تغيير الديكور، زعْم الممثل بأنه انتقل الآن من مكة إلى المدينة، بمجرد قيامه بالتفاف حول بقعة ما (عادةً في الصحراء أو في قرية مغبرّة).

العديد من أفراد الجمهور يعتقدون أن أفلامي هي وثائقية، كما لو أنها حدثت هناك وتصادف وجود الكاميرا معنا لنصور ما يحدث. أعتقد لو يعرف الجمهور بأنهم يشاهدون أداءً، شيئاً مبنياً ومركّباً، فسوف يفهمون الفيلم أكثر مما يفعلون مع الفيلم الوثائقي.

مع أن الأشياء تحدث ببساطة تامة في "التعزية"، إلا أن الجمهور يكونون في غاية الاستغراق.. ومع أنهم يعلمون بأنهم يشهدون أداءً، إلا أنهم يعبّرون عن ردود فعل عاطفية متطرفة إزاء ذلك. في هذه السنة ذهبت إلى إحدى القرى القريبة من طهران للتفرج على "التعزية". في مشهد المعركة بين يزيد والإمام الحسين، فجأة يلتوي سيف الحسين المصنوع من معدن خفيف ورخيص، عندئذ يتحرك نحوه يزيد ويأخذ سيفه ويبدأ في تعديله وجعله مستقيماً، مستخدماً الحجارة في ذلك. بعدها يعيد إليه السيف ويستأنفان المعركة. في اللحظة التي من المفترض أن يقطع يزيد رأس الحسين، كان البعض يقدم الشاي، فيومئ يزيد للشخص الذي يوزع الشاي بأن يضع فنجانه على مقربة منه، فيما يباشر بقطع الرأس.

في الواقع، هذه الأشياء ساعدتني. لقد رأيت بوضوح أن لا شيء يمكن أن يؤثر في هذا المشهد. على سبيل المثال، الأسد، الذي يمثّله رجل عجوز، يشعر بالتعب، فينسحب ليستلقي ويرتاح في ظل صخرة ضخمة. ثم يبدأ في تدخين سيجارة. أسد مدخّن. ولم أرى أحداً يضحك على هذا الموقف.

هذا نقيض ما تفعله هوليوود اليوم، حيث تمارس عملية غسل لأدمغة الجمهور إلى حد أنها تجرّدهم من أي خيال، تسلب منهم القدرة على التخيّل وحرية الاختيار والطاقة الفكرية، وذلك من أجل أن تأسرهم وتفتنهم طوال الساعتين. في أفلامي هناك دائماً بعض الانقطاعات، كما في تدخّل الفنيين في الحدث الدائر أمام الكاميرا.. هذا يمنح الجمهور وقتاً لالتقاط الأنفاس والراحة قليلاً، ويحول دون استغراقهم عاطفياً في الحدث، ويذكّرهم بأن ما يشاهدونه مجرد فيلم. في "عبر أشجار الزيتون" حافظت دوماً على هذه المسافة بين واقع المشهد وواقع الموضوع.

·   أظن أن، مع "التعزية"، المتفرجين يستمرون في متابعة العرض على الرغم من المقاطعات لأنهم يعرفون القصة، بالتالي فإن التغريب أو الإبعاد هو أقل فعالية مما يحدث في السينما عند مشاهدة الفيلم للمرة الأولى..

- نعم، أنت تعنين أنه أكثر خطورة. نعم، أنا واع لهذا. لقد حققت "والحياة تستمر" بعد عام من حدوث الزلزال في 1991. بينما كان من المفترض أن يكون إعادة بناء لليوم الثالث بعد الزلزال، فقد أبدى الطاقم التقني تذمره من تصوير الفيلم في الخريف في حين أن الحدث الحقيقي وقع في الصيف. لكنني لم أكترث لذلك لأنني لم أكن أحاول القيام بعملية إعادة بناء بسيط ودقيق وأمين للحدث الأصلي. أنا لا أتحدث عن شيء محلي بل شيء عام، عالمي، عن الزلزال والموت، لذلك فالحدث مجرد مبرر. أنا لا أعطي أهمية للسينما الواقعية والسينما التسجيلية. المخرج ينتقي ما يعرضه، لذا في السينما تكون رسالة صانع الفيلم هي المهمة، وليس مدى اقتراب المشهد من الواقع، بالتالي يتعيّن علينا أن نذكّر الجمهور، قدر الإمكان وبدون تخريب الفيلم، بأننا نعيد بناء الواقع.

لو صوّرت الفيلم في اليوم الثالث من وقوع الزلزال لصار العمل تسجيلياً وسوف لن يصور غير الموت والدمار. غير أني احتجت إلى عام كامل كي أجد ما أريده قبل أن أعود وأعيد بناء كل شيء. عندما ابتعدت عن الحدث، ظننت أنني سأعود إلى الموقع لأرى الموت، لكنني وجدت الحياة. لم يعد للموت قيمة حقيقية هناك.

لقد شاهدنا الذين بقوا على قيد الحياة، لا أولئك الذين فقدوا حياتهم. انعكاس الحياة كان أقوى بكثير من انعكاس الموت. تلك هي الرؤية التي توصلت إليها من طريق الابتعاد وترك مسافة زمنية بين يوم الزلزال ويوم التصوير، وبهذه الطريقة تفادينا التماهي العاطفي عند الجمهور.

·        ما هي السينما المثالية في نظرك؟ ولماذا تحقق أفلاماً؟

- أحقق أفلاماً لأنني أحقق أفلاماً. ولا أستطيع أن أقرر السينما المثالية بالنسبة لي. السينما لم تعد وسطاً لرواية القصص. تلك المرحلة قد انقضت. إنها ليست رواية بالصور، ليست للتلاعب بمشاعر الجمهور، ليست تعليمية أو ترفيهية، كما أنها لا تطلق مشاعر الإثم عند الجمهور.

السينما، في شكلها الأفضل، هي تلك التي تطرح الأسئلة. يجب أن يكون صانع الفيلم قادراً على إشراك الجمهور في الموضوع. الكثيرون يعتقدون أن صانع الفيلم لديه أجوبة، لكن هذه ليست وظيفته. لقد كان على الأنبياء، وعلى السياسيين في عصرنا، حل المشاكل وتخليص الكائن الإنساني. بإمكان صانع الفيلم أن يطرح الأسئلة فقط، وعلى الجمهور أن يبحث عن الأجوبة في ذهنه لإكمال الجزء الناقص من العمل. هكذا نجد العديد من الترجمات والتأويلات المختلفة للفيلم نفسه بقدر عدد أفراد الجمهور.

في رأيي، السينما وكل الفنون يتعيّن عليها أن تكون قادرة على رجّ أذهان جمهورها من أجل أن ترفض القيم القديمة وتستقبل بمرونة القيم الجديدة. إن مسؤولية الفنان في المجتمع اليوم أن يهيئ الناس لاستقبال القيم الجديدة.. وهذا ما يستطيع الفيلم أن يفعله بسهولة.  إذا خرجت من صالة السينما ونسيت ما قد شاهدته للتو، فمن الأفضل أن تقضي هاتين الساعتين في النوم، فالنوم على الأقل يوفر لك شيئاً من الطاقة. أغلب الأفلام، هذه الأيام، تستنزف طاقة الفرد. 

 

المصدر:  Sight and Sound, February  1997

الوطن البحرينية في

05.02.2011

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004