أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

عباس كيارستمي..

الفيلم في حالة استقصاء

ترجمة: أمين صالح

التمييز بين مخرج موهوب ومخرج عظيم تحدده الرؤية. السينمائي الإيراني عباس كيارستمي هو واحد من قلة من المخرجين العظام العاملين اليوم في المجال السينمائي.

عندما تكون هناك ثغرة واسعة بين الطموح الفني لصانعي الفيلم الذين يؤمنون بالسينما بوصفها فناً، والحاجات الأساسية للسوق، فإن كيارستمي يبرهن أن ثمة إمكانية لا تزال للحلم والأمل في احتمالات الوسط.

أفلام كيارستمي، التي تعد من أهم نماذج السينما الإيرانية في مرحلة ما بعد الثورة، هي قائمة على أساس جماليات الواقعية الجديدة: العمل على نحو طبيعي، غير متكلّف، مع ممثلين هواة، خصوصاً الأطفال. التصوير في مواقع خارجية وضمن مناظر طبيعية.

أعماله الاختراقية: الفرض المنزلي، Close-Up.. كلاهما صورا في 1989، كانا عبارة عن تأملات استبطانية في طبيعة الهوية الذاتية، الإبداع، الحرية، التعبير الشخصي. مع ثلاثية كوكر، صار فن المنظر الطبيعي هو المؤثر البصري الأبرز.

مع فيلمه الحائز على جائزة مهرجان كان "طعم الكرز"، الذي هو عبارة عن مجاز سياسي لاذع، يبدو كيارستمي فجأة أكثر تعقيداً ومشاكسة، متحاشياً مسائل التشخيص في سبر التذويب الأخلاقي والشخصي لرجل من الطبقة الوسطى يرغب في قتل نفسه.

مع فيلمه الاستثنائي "الريح سوف تحملنا"، كيارستمي يدعو جمهوره لاختبار العمل تماماً كما تفعل شخصياته الغامضة. الفيلم هو استقصاء.. استنطاق فلسفي لطبيعة الإنسان، الوجود، والحضارة.

القصة تتعلق بمهندس وزميلين له، لا نراهما أبداً، ينتقلون بالسيارة إلى قرية نائية في كردستان الإيرانية لأسباب تظل غير معلومة. قصة المهندس مضادة لحيوات الأفراد الذين يصادفهم: الصبي الذي يصير دليله، العامل الذي يناقش الأدوار المقتصرة على النساء، المرأة الحبلى التي يستأجرون منها المسكن، شيوخ وعجائز القرية.

يسهل تعيين بنية الفيلم من قِبل أولئك الذين تآلفوا مع أعمال كيارستمي. إنه عن الشخص الخارجي الذي يهبط في أرض بعيدة، ثقافة غريبة، والذي يصبح شاهداً على عادات ومعتقدات وأفعال الأهالي مع شعائرهم اليومية. القرية - التي هي متاهة من الكهوف، الطرق، الجبال – تتحوّل إلى مسرح فيه القصص المتداخلة والمتشابكة تتصل وتتفاعل.

براعة كيارستمي الفائقة تكمن في تناوله للحظات أو مشاهد أو صور، والتي تبدو مألوفة أو معروضة سابقاً، وتحويلها إلى شيء شاعري، مشبّع، غامض، وجميل جداً. إنه يعرض جزءاً من العالم لا نعرف عنه إلا القليل جداً، ومع نهاية هذا العمل السامي، هو يضيء هذا الجزء ويجعله ساطعاً.

المقابلة التالية أجريت مع كيارستمي أثناء حضوره مهرجان ثيسالونيكي باليونان، كجزء من حوار جماعي شمل عدداً من الكتّاب والصحفيين. الأسئلة معدّلة بحيث تكون واضحة وموجزة. أما ردود كيارستمي فهي مترجمة من اللغة الفارسية.

*  *  *

·     هل يمكنك أن تتحدث عن طبيعة الشعر، الذي هو حاسم في تشكيل وتنظيم هذا الفيلم؟ إحدى قصائد فروغ فروخزاد، وهي من أكثر شعراء إيران أهمية، هي مصدر عنوان الفيلم..

- أثناء التصوير، اكتشفت إلى أي حد الشعر قريب من موضوعي، وقد أضفت ذلك إلى السيناريو. أظن أن هذا النص، بطريقة ما، هو نصي السينمائي. إن نصي قريب حقاً من كل ما كتبته فروخزاد من شعر. الفيلم يبدأ بقصيدة لعمر الخيام والتي، على نحو رمزي، تحمل معنى للموت في حياتنا.. يوماً ما سوف تسقط الشجرة. هذا هو سبب اختياري لهذه القصيدة.

·         هل يمكن لنا أن نناقش الطبيعة المجازية للفيلم؟

- لا أرغب في الحديث كثيراً عن الرموز والمجازات في فيلمي، لأنني لو شرحتها فإنها عندئذ لن تعود مجازات ورموزاً، لذا لندعها كما هي.. محض مجازات ورموز.

·         ماذا عن الاختلاف في الأجواء والمزاج والأسلوب بين أعمالك والأفلام الغربية.. هوليوود خصوصاً..

- بسبب هذا النوع من السينما الذي يستهويني، نحن لا نستمتع بالأفلام ذات الجاذبية المعتادة في صورة تفجرات. لهذا النوع من السينما ما يكون مثيراً للاهتمام وفاتناً هو الخط القصصي. بعدم سرد كل شيء مباشرة وفي الحال. ذلك هو الخط الوحيد الذي يستطيع أن يأسر الجمهور من البداية إلى النهاية، ويكشف المعلومات شيئاً فشيئاً. حتى الدوران، إذا كانت هناك معلومة خاطئة أو صحيحة، يأتي هنا ليحقق الاتصال. ثمة منطق وراء ذلك.

·         هل ثمة علاقة بين أعمالك والسينما الصامتة؟

- لأنها مبنية على الواقع، الحياة الواقعية يمكن أن تختبر الحياة الصامتة للأفلام. حتى إذا أنت لا تجد أي فرصة لأن تكون في الطبيعة، فإن بوسعنا أن نخلق هذه الصلة. الصمت والطبيعة عنصران هامان من أجل رؤية هذا العمل على نحو مختلف، من أجل فهمه على نحو مختلف. لسوء الحظ، الأفلام التجارية الأمريكية قد جعلت كل الجمهور، في مختلف أنحاء العالم، يعتادون على الصوت، الانفجارات، اللقطات القريبة. ذلك جزء من السينما لكن، حسب ظني، ليس جزءاً من الحياة. أنا لا أزعم أن أفلامي هي سينمائية، إنما هي شريحة من الحياة.

·     في فيلمك، ثمة دعابة متكررة بشأن محاولات المهندس العثور على موقع ملائم لتلقي إشارة الهاتف الجوّال. هل من تعليق لك على هذا؟

- الهواتف الجوّالة هي غريبة ومدهشة جداً بالنسبة لي. أذكر أنني، قبل سبع سنوات، كنت ألاحق، في ذهول، شخصاً يتكلم عبر هاتفه الجوّال.. بدا ذلك غريباً بالنسبة لي. لكن في هذه الأيام أصبح الهاتف اعتيادياً وشائعاً. ومن المدهش أن تجد هذا منتشراً في مدينة أو مجتمع غير متحضر وغير عصري تكنولوجياً.

·     هل يمكنك أن تتحدث عن دور السيارة في أفلامك؟ في أغلب أعمالك، المشاهد الحوارية الرئيسية بين الشخصيات تحدث أثناء قيادة السيارة. هذه المشاهد أيضاً تشير إلى وسيلة شكلية أساسية، في اللقطات المتعاقبة التقليدية، التي تتقاطع في ما بينها، أنت تقوم على نحو نموذجي بإلغاء أي قطع متعارض. الحوار دوماً يوجد خارج الشاشة.

- السبب الأول هو إنني أقضي الكثير من الوقت في السيارة. هناك أتأمل أفكاري، أفكر في القصص والخطط، مسوداتي، لذا من الطبيعي أن أعبّر عن هذا في أفلامي. سيارتي هي، في الواقع، منزلي المتحرك الخصوصي. أنا أصر على الانتقال أو الحركة – رغم أني أحب الكادر (الإطار) الثابت – لأن ذلك يساعدني في رؤية الكادر المتحرك أيضاً.

السبب الثاني هو السفر، الرحلة، الانتقال من نقطة إلى أخرى. في ثقافتنا، الرحلة لا تعني بالضرورة الانتقال من مكان إلى آخر. قد تكون رحلة طبيعية.. أيّ تغيّر للأفكار يمكن أن يشكّل رحلة ما. الشعراء يسمونها "سفر بلا ساقين ولا يدين".

ثمة منطق وراء كل هذا. في "طعم الكرز"، بوسعك أن ترى خصوصية تامة لشخصين في هذا المكان. إنهما لا ينظران إلى بعضهما البعض مباشرةً. أنت رأيت كليهما ولم ترهما. أنا على الدوام أصطحب معي بالسيارة كل من يقف في الشارع ويطلب توصيلة، وهذا ليس فقط لمساعدتهم بل لأنني أحب أن أرى واختبر أنواعاً مختلفة من الاتصال.

·         المعروف عنك أنك عملت كثيراً مع الأطفال..

- لو نظرت إلى أفلامي السابقة، فإنها تشير إلى تجاربي السابقة مع الأطفال. لقد شاهدت الكثير من الدراسات عن الأطفال خلال السنوات التي اشتغلتها. الأطفال يبدون مثل الشخصيات الأسطورية التي سبق أن كانت موجودة في أدبنا وفي ثقافتنا، لكنك لم ترها أبداً.

لقد اكتشفت مواصفات جديدة في الأطفال. إنهم يتعلمون حب الحياة. وشخصياً كانت لدي تجارب مع أبنائي والتي ساعدتني كثيراً. الأطفال ليسوا مثل البالغين. بمجرد استيقاظهم من النوم، يقومون بفعل شيء ما. إنهم نشطون، فعالون، يعملون فحسب، وبإمكان العالم أن يرى ابتسامتهم. الكبار لا يصحون من نومهم إلا في وقت متأخر جداً، ولا ينشطون إلا بعد شرب القهوة. لدى الأطفال لهفة وتوق إلى الحياة أكثر من الكبار. ولقاءاتهم غير المتوقعة أفضل بكثير. إنهم يتقبلون حيواتهم بدون أي رد فعل خاص.

أحب الأطفال لأنهم يتعاركون في ما بينهم، لكن بلا أي نوع من الغضب وبلا ضغينة. أحبهم لأنهم يبنون ويهدمون ولا يخشون من إعادة بناء ما هدموه. أحبهم لأنهم مهذبون ويتصرفون على نحو حسن، بلا أي عون. أحب الأطفال لأنهم يبكون بسهولة ولا يتحفظون في إظهار عواطفهم.

(أجرى الحوار: باتريك ماكجافن، ونشر في Indie Wire، يناير 2000)

الوطن البحرينية في

16.05.2009

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004