أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

أنجيلوبولوس والسيناريو (1-2)

بين المرآة والارتجال

ترجمة وإعداد: أمين صالح

أنجيلوبولوس من المخرجين الذين يكتبون سيناريوهات كل أو أغلب أفلامهم، هؤلاء الذين لديهم رؤية خاصة للحياة والفن، ويصوغون عوالم خاصة بهم تتجلى فيها تجاربهم وفلسفتهم وأفكارهم وتخيلاتهم.

في ما يتصل بتجربة أنجيلوبولوس.. كيف يكتب؟ ما هي العلاقة بين السيناريو المكتوب والعملية الفعلية للتصوير؟ هل تتنامى الصور أثناء تصوير الفيلم، وكيف تتم هذه العملية؟

هل يكتب تفاصيل اللقطات الطويلة المديدة بدقة بحيث يأتي إلى الموقع ليصورها كما كتبها، أم يلجأ إلى الارتجال منفتحاً على ما توحيه المواقع من جهة، وما يبدعه الممثل والعناصر الفنية الأخرى من جهة ثانية؟

الملاحظ أن أنجيلوبولوس، في أفلامه الأخيرة، تعاون مع كاتب السيناريو الإيطالي تونينو جويرا، فكيف كانت طبيعة تجربة الكتابة المشتركة بينهما فكريا وعمليا؟

سيناريوهات أنجيلوبولوس ليست معدّة عن أصل أدبي أو مسرحي أو أي شكل آخر، إنها نابعة من الرؤى الذاتية الخالصة. إن تعارض أنجيلوبولوس مع السرد الهوليوودي الكلاسيكي لا يكمن في طريقة صنع الفيلم فحسب، بل أيضا في كتابة السيناريو، والتي تختلف كلياً عن شكل وبنية وأعراف السيناريو التقليدي.

هو بالأحرى، مثل العديد من المخرجين الأوروبيين - ومن ضمنهم إنجمار بيرجمان - يسرد ببساطة قصته مضيفاً إليها الحوار. إنه لا يقدّم السيناريو بوصفه تدويناً لما يظهر على الشاشة وإنما كعمل قائم بذاته والذي يمكن تذوّقه لتضميناته الثقافية والسياسية والفكرية. يقول أنجيلوبولوس:

"السيناريو يعمل كمحفّز أو محرّض لكي تطفو الأشياء على السطح".

إن معدّل صفحات أي سيناريو في هوليوود يقارب 120 صفحة على افتراض أن الصفحة تعادل تقريبا الدقيقة الواحدة من الزمن السينمائي. السيناريو الأصلي الذي كتبه أنجيلوبولوس لفيلم "تحديقة يوليسيس"، على سبيل المثال، يبلغ 69 صفحة علماً بأن مدة الفيلم حوالي ثلاث ساعات، مع ملاحظة أن عدداً من المشاهد الواردة في السيناريو لم تصور. عند أنجيلوبولوس، الصفحة لا تعادل الدقيقة الواحدة بل أربع أو خمس دقائق تقريبا.

*   *   *   *

يقول أنجيلوبولوس:

* إني أبدأ السيناريو بكتابة المشاهد، لكن دون إتباع الخط المباشر من البداية إلى النهاية. الصورة سوف تخطر في البال وأنا أبني المشهد من حولها، وهي يمكن أن توجد في نهاية الفيلم، وأخرى قد توجد في المنتصف، وهكذا دونما ترتيب. لا أستطيع التفكير بطريقة أخرى في تصوّر الفيلم.. لابد أن أبدأ بالصور.

* طريقتي في كتابة السيناريو تبدو غير مألوفة تماما، أو ربما غريبة. إني أكتب السيناريو بنفسي وبعدئذ أتحدث عنه مع آخرين، أو أتحدث عنه قبل الكتابة، أي إني أشرح ما أريد أن أفعله والآخرون يسألون ويستجوبون، ثم أشرع في الكتابة.

* في أغلب الأوقات، لا تكون سيناريوهاتي مكتوبة من قِبل كتّاب سيناريو، فهؤلاء يعملون كمحفّزين من أجل أن تبرز الأشياء على السطح. عندما يعترضون على مشهد مقترح، فسوف تجد نفسك مجبراً على تأمل المشهد والتفكير فيه مليّا.

* أحيانا، يكون فيلمي مرآة دقيقة تعكس السيناريو كما هو، وفي أحيان أخرى، يتخذ السيناريو شكل ملاحظات وتعليقات موجزة، عندئذ تكون عملية التصوير معتمدة كثيراً على الارتجال. في بعض الحالات، ثمة ديناميكية تتيح لك أن توظف الارتجالات، بينما في حالات أخرى، يتكوّن لديك إحساس بأن عليك أن تتبع السيناريو المكتوب بدقة. هذا يتوقف كلياً على المادة التي يتعيّن عليك أن تشتغل عليها ولا تعتمد إطلاقا على الظروف المحيطة بصنع الفيلم. على سبيل المثال، فيلمي "منظر في السديم" هو نسخة دقيقة للسيناريو بينما "الممثلون الجوالون" انطلق من الملاحظات والتعليقات الموجزة. وإذا كان "رحلة إلى كيثيرا" بعيداً جدا عن السيناريو الأصلي فإن "مربي النحل" قريب جدا من السيناريو.

كما قلت، إني أكتب السيناريو وأتناقش بشأنه مع أفراد مختلفين قد يعملون على إظهار نواحي الضعف أو يقومون بدور المحفّز. هذا الحوار مع الآخرين هو أساسي في كتابة السيناريو.. إنها عملية كشف مستمرة والتي لا تحدث إلا أثناء تبادل الحديث معهم.

فيلمي الأول "إعادة بناء" كان قائماً تماما، وبنسبة مئة بالمئة، على السيناريو. عملي التالي "أيام 36" أيضا كان قريباً جدا من السيناريو.

إني أتأثر بالموقع، بالمنظر الطبيعي، بما يحدث مع الممثلين. وأميل أن يكون لدي السيناريو كأساس ثم أبني عليه، ومنه تتفرّع الأحداث والشخوص.

مشهد الباص في فيلم "الأبد ويوم آخر" لم يكن مكتوباً في السيناريو بالطريقة التي صور فيها المشهد. في الأصل، كان المشهد يحتوي على الكاتب والصبي، وكان واقعياً تقريبا، بحيث يمكن أن يحرّك مشاعر الجمهور: شخصان في باص خال يعبر شوارع المدينة تحت المطر. لكن، بطريقة ما، كان لدي إحساس بأن هذا ليس كافياً. لهذا السبب استغرق التصوير وقتا طويلا. فيما كنا نصور، كنت أجري التعديلات شيئا فشيئا. أخيراً، قررت تنفيذ المشهد مرتين، مرّة وفق ما جاء في السيناريو، والمرّة الثانية رمينا النص جانباً وشرعنا في الارتجال.. وفي المونتاج استخدمنا ما ارتجلناه.

مشهد الحفلة في "الممثلون الجوالون"، حيث نرى رجلين يرقصان التانغو معاً.. في الأصل كان المشهد يحتوي على جمل قليلة من الحوار. لكن ما إن بدأنا التدرب على المشهد حتى قررت أن أغيّر ذلك. الحدث يدور في 1946، آنذاك كان الرجال يرتدون بدلات مخططة أو مقلّمة، وقبعات مستديرة سوداء. في لحظة معينة، أثناء استراحة من البروفة، لاحظت رجلين، كلاهما يرتديان قبعات مستديرة وسوداء، واقفين متجاورين. عازف البيانو كان يعزف بضع نغمات من التانغو. أحدهما اقترب من الآخر وشرعا في الرقص معاً. هذا لم يكن متوقعا على الإطلاق. لم أكتبه، لم أفكر فيه، لكن هكذا صار المشهد وكان مناسبا.

أحيانا يحدث هذا النوع من الارتجال في الموقع، وأحيانا أنت تعرف ما الذي ستفعله قبل بضعة أيام.. بالنسبة لمشهد الاغتصاب في "منظر في السديم"، كان الأمر كذلك. لم يكن ذلك مكتوبا في السيناريو، لكنه مرسوم في ذهني قبل بضعة أيام من تصويره.

بالنسبة لمشهد الزفاف في "خطوة اللقلق المعلقة"، مع العروس في جانب من النهر والعريس في الجانب الآخر، عندما كتبت السيناريو، المشهد كان مختلفا لكنني شعرت بشيء مفقود هنا. يوماً ما، كنت في نيويورك، في الباص الذاهب إلى برونكس عبر هارلم. في الموقف، رأيت ولداً صغيراً، أسود البشرة، يرتجل بعض الحركات الراقصة على جانب من الشارع. على الجانب الآخر، كان هناك ولد آخر، أسود البشرة أيضا، يجيبه بحركات راقصة خاصة. لا شيء غير مألوف هنا، لكنني فوراً رأيت النهر بينهما، في المنتصف.

هناك أمر آخر، في العام 1958 قرأت عن جزيرة قرب كريت، وهي صغيرة جدا، وفي الشتاء تكون مهجورة ومعزولة تماما. خلال أشهر الشتاء الطويلة، كان الرعاة الذين يعيشون هناك يستخدمون لغة إشارة للاتصال بالقسيس الكريتي، الذي كان يخصص لهم ساعات معينة، وذلك في حالة وفاة واحد منهم، على سبيل المثال، فيعلمونه بالإشارة، وهو بدوره يقيم القدّاس في كريت، بينما يدفنون الجثة في الجزيرة الصغيرة.

من هذين المصدرين من الإلهام نتج مشهد الزفاف، كما ظهر في الفيلم.

مشهد الاحتفال بالسنة الجديدة، في فيلم "تحديقة يوليسيس"، كان مكتوبا بنفس الطريقة التي صورت بها تقريبا. كنت أعلم أنه سيكون في لقطة واحدة لكنني شعرت، عند كتابته، أن هناك شيئا مفقوداً.. وفيما كنا نتدرب، أضفت بعض اللمسات هنا وهناك في الإضاءة.

بالنسبة لمركب النقل مع تمثال لينين، والذي يمثّل نهاية مرحلة أو عهد، كنت قد هيأت المشهد سلفاً، لكن فكرة أن أجعل القرويين يشاهدون التمثال، وهو يطفو في نهر الدانوب، ويقومون برسم إشارة الصليب فيما التمثال يمر أمامهم طافياً، فهذا شيء كنت قد شاهدت ما يماثله في كونستانزا، ميناء في رومانيا على البحر الأسود، حيث كانت الرافعة تنقل منحوتة ضخمة، تمثّل رأس لينين، إلى مركب لنقل البضائع، آنذاك مرّ قارب صيد بداخله رجل وامرأة، لما شاهدا ذلك وقفا مصدومين، مصعوقين، كما لو أن لينين قد عاد تواً إلى الحياة. المرأة غطت عينيّ الرجل، وعلى نحو غريزي رسمت إشارة الصليب.

هناك مشاهد تعتقد أنها حاسمة عندما تكون مكتوبة في السيناريو، لكنها إطلاقاً لا تبدو كذلك عندما تأتي لتصورها، بينما هناك مشاهد أخرى قد لا تكون متحمساً لها، لكن تصبح في ما بعد لحظات أساسية في الفيلم.  

الوطن البحرينية في

23.11.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004