أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

أنجيلوبولوس: الأسلوب والتقنية (1-2)

إعادة ابتكار السينما

ترجمة وإعداد: أمين صالح

أنجيلوبولوس، شاعر السينما، بارع جدا في تكوين المشاهد والصور. لديه تلك العين النافذة جماليا والتي بها يرى المتحرك في الساكن، الغريب والمدهش في اليومي، الخارق في العادي.

هو حداثي في خلق سمات مميزة، أسلوب خاص يمكن تمييزه أو إدراكه مع كل فيلم جديد له.

إنه يساهم في "إعادة ابتكار" السينما مع كل فيلم يحققه، ذلك لأنه يرى في السينما وسطا جماليا وثقافيا معا. أفلامه تثير أسئلة سينمائية جوهرية وفعالة، بدءا من هذا السؤال: ما هي الصورة؟ وما الذي تعنيه الصورة أو تقترحه ؟ 

الصورة هي، ببساطة، موجودة هناك، تأسر وتثير الاهتمام بحكم وجودها الشخصي. تنفتح على قراءات متعددة، وتثير عددا من الانفعالات. إنه ينسّق ويناغم الشكل والمحتوى ليدعونا، بل وليجبرنا، على الذهاب وراء نطاق الصورة نفسها لتعيين المعنى.  

هو يعالج كل صورة بشفافية واستبصار شعري.. ومثل الشاعر، هو ينتقي صوره بحرص وعناية، لكنه يدعها تعبّر عن نفسها بطريقتها الخاصة.

في أفلامه نجد ذلك التوتر بين الصورة وقوتها الموحية، بين الأساس الواقعي والتأثير الذي يتخطى الواقعية. إن التوتر بين الواقع المادي للصورة والمظهر الروحاني، أو ذلك الذي يتخطى العالم المادي، هو الذي يساعدنا على وصف تأثير صور أنجيلوبولوس على المتفرج سواء في اللقطات المفردة أو في الفيلم ككل.

تقنيا، هو يميل إلى استخدام اللقطات العامة، حتى في المواقع الداخلية، حتى في اللحظات التي يفضّل أغلب المخرجين تصويرها في لقطات قريبة (تصوير انفعال ما أو ردّة فعل ما). وقلما يستخدم اللقطات المتوسطة. كما يفضّل تصوير مشاهده في لقطة واحدة مديدة ومستمرة one take قد تستغرق دقائق طويلة، وغالبا مع حركة كاميرا مصاحبة tracking بطيئة ومدروسة بدقة وإحكام.. في حين يفضّل أغلب المخرجين استخدام تنويعة من اللقطات المركّبة برشاقة وسلاسة عن طريق المونتاج.

الصورة المتواصلة، دون انقطاع، تتيح للمتفرج حرية اختبار، أو اكتشاف، واقعية الصورة فيما هي تتجلى تدريجياً في زمن حقيقي، وبالحد الأدنى من حركة الكاميرا.

في زمن السرعة المتزايدة للمونتاج في الأفلام والإعلانات التلفزيونية والفيديو كليب، أفلام أنجيلوبولوس ترغم المتفرج أن يعود إلى درجة الصفر ويرى الصورة المتحركة بأعين جديدة. وكما يقول الناقد وولفرام شوت: "إن وسطه الشعري هو الزمن. هذا يتيح للمتفرج أن يخلق صوره الخاصة مما هو معروض على الشاشة، بينما يظل واعيا نقديا للوسائل التقنية التي يوظفها المخرج: اللقطات العامة، اللقطات المديدة، اللقطات المتعاقبة، حركات البان  Pan البطيئة".

أعمال أنجيلوبولوس مضادة للسرد المتمركز على الحوار والذي تعتمده التقاليد الأمريكية وغيرها في القص السينمائي. الأفلام التقليدية، حتى تلك التي تعتمد على الحركة (action)، تعوّل كثيرا على الحوار، بينما أفلام أنجيلوبولوس تعتني بالصورة قبل كل شيء.

عندما يلجأ الى الحوار، فإن الحوار لا يفسر شيئا، وبدلا منه يحل الصمت في أغلب الأحيان. إن أنجيلوبولوس يستخدم الصمت، في كل أفلامه، ليأسر اللحظات ذات الكثافة العالية، الحافلة بالغموض أو الفرح أو الحزن أو الرغبة، والتي لا يمكن التعبير عنها باللغة المنطوقة، ويصعب تفسيرها في كلمات. إن جزءا مما يوحيه، من خلال مثل هذه المشاهد، هو أن الكلام يمكن أن يأخذنا بعيدا، بالتالي فنحن أمام لغة غير شفهية تتمثل في الأصوات والموسيقى، الإيماءات، التحديقات.. إنها اللغة البصرية. 

هو يفضّل المشهد الصامت على الحافل بالحوار، فالحوارات في أفلامه قليلة، شخصياته غالبا ما تكون ساكنة، و"القصة" التي يقدمها هي مختزلة ولا تتيح للمتفرج أن "يدخل" في الشخصية بالمعنى السيكولوجي كما الحال مع معظم الأفلام الدرامية التي تحاكي الاهتمامات الأرسطووية بشأن الدافع والصراع وحل العقدة.

الانحياز إلى السكون والثبات في أفلامه هو دعوة لاختبار واكتشاف الأشياء، وتأمل ما يقدمه من صور بطريقة جديدة وبرؤية مغايرة. سينماه هي سينما الفضاءات المفتوحة، سينما الإيماءات والتلميحات، سينما الواقع الكائن داخل وخارج الشاشة معا.

بصريا، يعتمد أنجيلوبولوس على تلك البلاغة المتحفظة، المتوانية، لكن المغوية.. والتي تقوم على حركات كاميرا مركبّة لكن رشيقة وسلسة، وعلى تكوينات نقية وجميلة، وعلى لوحات طقسية، ولقطات مديدة آسرة تعطل الاحساس بالزمن وتعمل على تمديد اللحظة، مستدعية بذلك حالة من التأمل. إن محاولته المقصودة في تمديد اللقطة وتركها دون إعاقة أو مقاطعة، دون قطع، تعني أنه يطلب من الجمهور ليس فقط متابعة ما يحدث بانتباه، بل أيضا أن يكون مدركا لعملية تجلي أو تفتّح اللحظة كما تحدث في الزمن والمكان.

عبر التركيز الكلّي على الصورة المديدة، والاستجابة إلى الموسيقى القوية، المتناغمة مع الصورة المعروضة، يشعر المتفرج بمتعة بالغة تمنحها له اللقطة نفسها، والتي تتيح له أن يحدّق ليس داخل الصورة فحسب بل من خلالها أيضاً.

في ضم اللقطات المتواصلة، المديدة، مع زمن غير كرونولوجي (غير متسلسل) هو يرغم المتفرج على أن يكون مشغولا على نحو فعال في عملية "قراءة" الصور التي تتدفق أمامه نظرا لأهميتها السردية ودلالتها التاريخية.

كما تقوم بلاغته البصرية على التناغم الأخاذ بين الصور والموسيقى، مع رؤية بانورامية يتداخل فيها الزمن والمكان والسرد والذاكرة والواقع الشخصي والتاريخ.

أفلامه في الغالب مغمورة بإضاءة متلألئة، فاترة، وألوان تتباين بحدّة مع المشاهد المتصلة بالذاكرة أو الحلم حيث الصور ذات تدرّج لوني معيّن.

في استخدام أنجيلوبولوس للقطات ذات البؤرة العميقة Deep Focus (أي تلك اللقطة التي فيها مقدمة وخلفية الصورة تكونان في البؤرة على نحو متزامن بحيث يستطيع الحدث الدائر في مستوى معيّن أن يعلّق على حدث في مستوى آخر) يبدو متأثرا بأورسون ويلز ، الذي لم يكن أول من استخدم هذه التقنية، لكنه الذي وظفها جماليا وفكريا، وتحرّى – أكثر من أي مخرج سابق – إمكانيات هذه التقنية في الكشف عن أبعاد الشخصية والقصة. أما أنجيلوبولوس فقد مضى إلى حد أبعد في تأطير كل لقطة بحيث أصبح "عمق المجال" شخصية ذات أهمية ودلالة بذاتها وفي حد ذاتها، خصوصا وأن مشاهده لا تحتوي إلا على القليل من الحوار، بالتالي فإن الجمال الخالص لمشهد الزفاف في فيلمه "خطوة اللقلق  المعلّقة"، على سبيل المثال، الذي فيه تكون العروس وأهلها على ضفة النهر، في مقدمة الكادر، وعريسها وأهله على الضفة المعاكسة، البعيدة، هذا الجمال يكون أكثر سطوعا، أكثر قوة، لأننا نرى كل شيء في بؤرة عميقة، حادة، على نحو متزامن.

أفلامه تتألف من لقطات قليلة، نظرا لأن كل لقطة تستغرق دقائق طويلة دون قطع. فيلمه "الممثلون الجوالون"، كمثال، يتألف من 80 لقطة، رغم أن مدة عرض الفيلم تستغرق أربع ساعات تقريبا. في حين يتألف الفيلم الأمريكي عادةً من 600 إلى 2000 لقطة منفردة في تسعين دقيقة.

وقد أبدى الممثل الأمريكي هارفي كايتل (الذي عمل معه في "تحديقة يوليسيس") دهشته من هذا الأسلوب، وعلّق على ذلك قائلا بأن الوقت الذي يستغرقه ثيو في تصوير لقطة واحدة تكفي لأن يحقق تارانتينو فيلما كاملا.

إن قطع الزمن الحقيقي إلى أجزاء زمنية قصيرة، وصولا مباشرة إلى ذروة كل مشهد، ومزيلا النفَس في بداية ونهاية كل لقطة، هذا القطع يشبه بعض الشيء اغتصاب الجمهور.

كاميرا أنجيلوبولوس توظف الحركات المديدة، المركّبة، الرائعة، والتي تستمر، راصدةً، من كل الزوايا الممكنة، الشخصية والمنظر الطبيعي الذي عاشت هي في كنفه، لكن دائما من مسافة معقولة، ونادرا ما ينغمس في شيء، حتى لو كان مماثلا على نحو ضئيل للّقطة القريبة.

حركة الكاميرا هنا تشارك بديناميكية عالية في فتح وشحن المكان في درجة سرعة تتيح للمتفرج أن يشكّل توقعاته. وفي جعل اللقطة تبدو حيّة على الدوام.

كل كادر يبدو أشبه بلوحة، من حيث اللون والحيّز والمنظور، والكاميرا تحت إدارته تنتحل البعد السيكولوجي لفرشاة رسام.

الوطن البحرينية في

14.09.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004