أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

المكان، الموقع، الطبيعة..

في سينما أنجيلوبولوس

ترجمة وإعداد: أمين صالح

الموقع، من منظور المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، يساعد في استحضار الرحلة الداخلية، "الإحساس" بالقصة التي لا الأستوديو ولا الموقع البديل قادر على استدعائه. لذلك هو يفضّل التصوير في المواقع الخارجية، الحقيقية، ولا يحب العمل في الأستوديو.

من فيلمه الأول كان تحقيق الأفلام بالنسبة له بمثابة رحلة اكتشاف لـ "اليونان الأخرى"، اليونان التي لم يعرفها ولم يزرها من قبل. فراح يزور ويستكشف أغلب قرى وبلدات اليونان.

هو مسكون بماضي القرية اليونانية وحاضرها ومستقبلها المحتمل، وإذا علمنا بأن نصف سكان اليونان تقريبا يقطنون في مدينة واحدة هي العاصمة أثينا، فمن الممكن النظر الى اليونان باعتبارها بلدين مختلفين. أثينا في جهة، والمدن والقرى الأخرى في جهة ثانية. ومن المهم الإدراك بأن الفجوة بينهما كبيرة وتتسع مع كل عام، مع كل اختراق تكنولوجي، مع كل ما يظهر في الأفق من خلل أو مشكلة مدينية معاصرة: التلوث، الجريمة.. وما شابه.

هكذا أدار أنجيلوبولوس ظهره، بوعي، إلى المدينة (التي ولد فيها) والثقافة (التي تربّى عليها). ونظرا لأنه ليس من الشمال ولا من القرية، فإنه بهذا المعنى يكون دائماً ذلك اللا منتمي، الغريب، الأجنبي داخل بلده، الباحث عما لا يستطيع أن يجده في أثينا أو في الثقافة التي كان يعرفها.

لقد اهتم باليونان الأخرى، المهمَلة، المكبوحة، المنبوذة، المحجبة. إنها اليونان ذات المساحات الريفية الواسعة، فترات الصمت الطويلة، الأصداء الأسطورية، الروابط المفتقدة، المناظر الطبيعية الشتوية، يونان الهائمين، الجوالين، اللاجئين، الممثلين بلا خشبة مسرح ولا جمهور، طرق النقل السريع الوحيدة في الليل، القرى المحرومة من سكانها، المقاهي الرخيصة، غرف الفندق المتصدّع.. وليست يونان الملصقات السياحية أو المواقع الأثرية أو الأنماط الرومانسية.

لليونان حضور فيزيائي على شاشة أنجيلوبولوس. هناك الأحجار، الشوارع، الطرقات، الجدران، السطوح، السماوات، الأمطار، الضباب. هناك الشمال، الريف، القرى المهجورة. هناك غرف الفنادق الداكنة والساحات الخالية.. وقلة من المخرجين قادرون على نقل هذا الإحساس بالمكان كما يفعل هو.

في القرى المعزولة، النائية، المهمَلة والمنسية، يصور أفلامه.. على الرغم من صعوبة التصوير هناك. إنه يصور في الفجر أو في الغسق، وغالبا في الشتاء حيث كل شيء مغمور بالضباب، المطر، الثلج.. وهو لا يفعل ما يفعله المخرجون الآخرون عندما يلجأون إلى المونتاج في لصق لقطات لجزيرة هنا، وطريق سريع في مكان آخر، ومواقع أخرى بحيث تبدو اللقطات المتعاقبة كما لو أنها حادثة في موقع معيّن. هو يختار المواقع الحقيقية لأنه يريد، في المقام الأول، اكتشاف المكان. الموقع يصبح شريكا مساوياً للقصة والشخصيات.

قبل تصوير فيلمه "الممثلون الجوالون"، أمضى شهورا وهو يبحث عن المواقع النائية التي ظلت كما هي دون أي تغيير، والتي يمكن أن تتلاءم مع المراحل التاريخية المتعددة التي يقتضيها الفيلم. لقد زار تقريبا كل قرية وبلدة في اليونان، والتقط أكثر من ألفي صورة فوتوغرافية، ثم قام برحلتين حول اليونان مع مصوره السينمائي أرفانيتيس.

إن حس أنجيلوبولوس بالتاريخ يتضمن الرغبة العارمة في إعطاء مصداقية للموقع الذي يصوّر فيه المشهد، لقد أصرّ على تصوير أغلب مشاهد فيلمه "الإسكندر الأكبر" في الشتاء، في قرية نائية، وقد استغرق بحثه عن هذه القرية عاماً كاملا.

إذا كانت هوليوود تجترح المعجزات في محاولة إقناعنا بمصداقية المواقع، حيث تحوّل سهولاً إسبانية إلى سهوب روسية مغطاة بالثلوج (كما في فيلم "دكتور زيفاجو")، فإن أنجيلوبولوس يرفض مثل هذا التلاعب والتحايل، وينظر الى الموقع بوصفه شخصية وحبكة.

في ما يتعلق بـ "تحديقة يوليسيس"، فقد كان أنجيلوبولوس يرغب في تصوير مشاهد سراييفو في المدينة نفسها، رغم أن الحرب كانت دائرة آنذاك. وقد سعى لمدة عامين كي يحصل على ترخيص بالتصوير هناك لكن دون جدوى، وذلك خوفا على حياته وحياة العاملين معه.

المظهر البصري لأفلامه نجده في المناظر الطبيعية، في المواقع القاحلة المنتشرة في شمال اليونان حيث السماء الملبدة بالغيوم، المطر، الطقس البارد، الضباب. للطبيعة حضور بارز، وكل عنصر يصبح شخصية هامة.

أنجيلوبولوس غالبا ما يوظف الأنهار والبحيرات والبحر المفتوح كوسائل انفصال، تعزل الشخصيات عن بعضها، وأيضا كوسائل تطهير وتجدد روحي.

في توكيده على المواقع الخارجية ثمة نزوع استحواذي يتمثل في بلوغ حالة من الكمال. مثل هذه المواقع، بالنسبة له، مجرد نقطة انطلاق.

*  *  *  *

يقول أنجيلوبولوس:

* إن اختيار الموقع المناسب ذو أهمية كبيرة بالنسبة لي. وأنا دائما أصور في المواقع الخارجية، لكنني أجري التعديلات والتغييرات عليها بحيث تتلاءم مع احتياجاتي. الشيء الوحيد الذي لا يتغير هو الإحساس بالمشهد، لكنني أستطيع أن أعالجه بطرق متعددة.

* دائما أختار بنفسي المواقع الملائمة، حتى لو يعني هذا السفر عبر اليونان كلها. في فيلمي "الممثلون الجوالون" كان الأمر، بطريقة ما، أسهل لأن القصة نفسها تستمر في الانتقال من موقع إلى آخر. في "الصيادون" كل شيء يحدث في مكان واحد، فندق، والذي يجعل الاختيار أكثر صعوبة. ما إن وجدت الموقع، حتى مضيت في الحال وكتبت سيناريو التصوير، تاركاً هامشاً للارتجال.

* لا أعرف سبب إصراري على تصوير أفلامي في شمال اليونان. إني أفضّل المناخ الممطر، السديمي. باريس، مثلا، لا أحبها كثيرا عندما يكون الجو صحوا ومشمسا. أحبها عندما تمطر السماء. لقد بدأ ميلي إلى مثل هذه الأجواء منذ اليوم الأول الذي باشرت فيه تحقيق الأفلام.

غير المطر والعراء، أو المنظر الطبيعي الأجرد، لدي ولع بالأحجار، البيوت الحجرية. لابد أنني أحاول تقديم صورة متوارية تحت الوعي، لكن أية صورة؟.. لا أدري.  

* يسألني اليونانيون، المرة تلو الأخرى: أين تقع هذه المناظر الطبيعية التي أصورها؟ في أي مدينة يونانية توجد هذه المواقع؟

في الحقيقة، هذه المناظر التي تراها في أفلامي هي غير موجودة، مع أن بعض المناطق حقيقية. لقد تجولت كثيرا عبر اليونان، وفي هذه الرحلات اكتشفت عناصر سحرتني: منزل، شارع، تل، قرية. كنت أجمع كل هذه العناصر المستقلة معا وأركّبها في ما يشبه الكولاج. أحيانا تتناغم الألوان معا، وأحيانا الأشكال. بطريقة ما، أقوم بخلق الصور مثلما يفعل الرسام. هكذا أسلّط رؤيتي على الكانفاس.

* المناظر الطبيعية في أفلامي ليست، بالضرورة، صورا حقيقية لليونان، بل هي صور لليونان كما أراها.

* إنه اكتشاف لليونان الأخرى التي لم أكن أعرفها. لقد التقيت بالمكان الباطني، ما يمكن أن يُسمى "يونان الداخل".. والذي كان مجهولا بالنسبة لي ولأغلب أفراد جيلي.. أولئك الذين ولدوا ونشأوا في المدينة، وتجاهلوا –بل واستخفوا بـ - هذا الواقع الآخر. كان ذلك اكتشافا حقيقيا بالنسبة لي.

* أثينا والحياة في هذه المدينة، حيث يعيش فيها أربعون في المائة من سكان اليونان، هي صورة مشوهة من الحياة اليونانية. صورة مثيرة للاهتمام لكنها ليست حقيقية. صعب جدا اختراق الإحساس بالحياة اليومية في أثينا ورؤية ما يوجد خلفها. إذا كنت ترى أثينا فقط، فسيكون لديك منظر خادع ومضلل لليونان. لهذا السبب أنا أعمل في اليونان الأخرى. أريد أن أتيقّن من قدرتي على فتح هذا الواقع الأثيني عنوةً.

من جهة أخرى، يقيناً سيكون أمراً ذا شأن، وجديرا بالاهتمام، أن تفعل لأثينا ما فعله جيمس جويس لمدينة دبلن في روايته "يوليسيس".. لكن هذا ليس مشروعي. أعتقد أنني لا أحاول فعل ذلك لأنها طفولتي الخاصة ولا أريد أن أدمرها.   

* أعتقد أن شيئا استثنائيا وغير اعتيادي يحدث في الموقع، في المكان الحقيقي. وأنا لا أعني هنا فقط المقدرة على تصوير الديكور أو المنظر الطبيعي. الأكثر من ذلك هو أنني عندما أكون في الموقع فإني أهيئ الفيلم فيما كل حواسي الخمس تعمل. أصير أكثر إدراكاً، بالتالي أشعر أني أعيش التجارب التي أريد أن أصورها.

* غالبا أنت، كمخرج، تكون في الموقع الصحيح لكن روح ذلك الموقع تكون غائبة، مفتقدة.

* القرية عالم كامل في صورة مصغرة. للقرى اليونانية القديمة روح وحياة. إنها حافلة بالعمل واللعب والأعياد. لكن بدأ سكان هذه القرى في التناقص مع بداية القرن (العشرين). وعندما اندلعت الحرب العالمية، وبعدها الحرب الأهلية في اليونان، تعرّضت القرية اليونانية إلى التدمير الكلي كواقع وكمفهوم. هاتان الكارثتان أدتا إلى تغيير أسلوب الحياة في القرى.

القرى بالطبع كانت ستتغيّر لا محالة، لكن ليس على هذا النحو العنيف جدا. كان يمكن للتغيرات أو التحولات أن تحدث تدريجياً وبطريقة أكثر لطفاً واعتدالاً. إن أحد نتائج تلك الحربين هو هجرة أكثر من 500 ألف قروي، في الخمسينيات، إلى ألمانيا وأمريكا واستراليا وبلدان أخرى بحثاً عن العمل. ذلك كان يعني تحولاً كبيراً في حياة القرية. الرجال رحلوا فجأة وبقيت النساء. ومع كل هذه التحولات بدأت "روح" القرى في الانطفاء والموت.

ليست لدي أمنيات وآمال وحلول بهذا الشأن، أنا مهتم بذلك الشيء الجميل الذي مات هنا. إنه أشبه بموت علاقة حب قوية.. تريد أن تتذكرها، أن تفكر فيها، وأن تستنطقها.

ما الذي أرغب في حدوثه؟ ببساطة أريد أن تصبح حياتنا هنا أكثر إنسانية. لقد فقدنا الكثير في أثينا. لم يعد هناك غير الجريمة والتلوّث والزحام، حتى فقدت المدينة هويتها، فقدنا الكثير. ونحن بحاجة إلى العودة إلى تلك الأماكن لنجد الكثير مما لا يزال أصيلاً وصادقا ومهماً لحياتنا.

* أشعر بالحاجة إلى تحويل المنظر الطبيعي إلى منظر باطني، داخلي، والذي أراه في مخيلتي. هناك منازل أعدت صباغتها، بل وأحيانا كنت أنقلها إلى موقع آخر. إني أبني جسوراً لم تكن موجودة من قبل.. بل إننا نبني مساحة مجاورة للطريق العام.

كل أفلامي هي اجتهادات، أشياء مدروسة مبنية على الواقع. ليس منظرا حقيقيا ذاك الذي أحاول أن أعرضه، بل المنظر أو الموقع الذي أراه في أحلامي.

التصوير في الأستوديو يحول دون الانتقال من الموقع الخارجي إلى الداخلي.. لفعل ذلك، يجب أن تنتقل بالقطع، عن طريق المونتاج، غير أني أحتاج أن أتحرك من الداخل إلى الخارج ضمن اللقطة نفسها.  

* أعتقد أن بإمكاننا، في الأستوديو، أن نحرّك الجدران ونشعر براحة أكثر في تحريك الكاميرا.. لكن عندئذ لا يكون لدي أي إحساس مفاجئ بالارتياب أو الخوف عند هدم جدار حقيقي عندما تقتضي الضرورة. على أية حال، أشك بإمكانية أن أشعر بالطمأنينة في الأستوديو.

(المادة معدّة ومترجمة من مصادر متنوعة ومختلفة)

الوطن البحرينية في

15.06.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004