أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

قراءة في السينما الهندية (4 ـ 4)

مظاهر التحايل

بقلم: أمين صالح

المطر الذي يبرر الخلوة:

من أجل التحايل على الرقابة بشأن منع القبلة والمحظورات الأخرى المتعلقة بالجنس، يلجأ السينمائيون إلى أساليب مختلفة في تصوير الأوضاع أو الحالات الجنسية، دون إظهار صريح للعري، ودون خوف من مقص الرقيب.

هذا نجده في مظاهر شتى: أثناء عناق البطل والبطلة، تدحرجهما على أرض معشوشبة، مشاهد الرقص والغناء في مختلف المواقع، تعرّض ملابس البطلة للبلل بفعل المطر أو الوقوع في نهر أو بركة، محاولات البطل المستميتة في تقبيل البطلة وصدها الرقيق له، تغطية الوجوه المتلاصقة بباقة من الأزهار للإيحاء بالقبلة، تقبيل أطراف أخرى من الجسم، مشاهد الاغتصاب وما تحتويه من تعارك وتمزيق للملابس.. في كل هذه المشاهد تشعر بالحضور المهيمن للرقيب والأعراف والتقاليد.

الجنس غير صريح وغير مكشوف، إنما يتم عرضه عن طريق الإيحاء والتلميح. الكليشيه أو التقليد المفضل في هذه الحالة أن يتم الفعل دون رغبة مسبقة أو تخطيط معد له سلفا. إنه يحدث لسبب خارج عن إرادة الطرفين، أو بسبب تغيّر مفاجئ في الطقس (هطول المطر مثلا).. عندئذ نرى الحبيبين يلجآن إلى كوخ مهجور ثم  يحدث الفعل الذي سوف يصعقهما في ما بعد. أثناء ذلك تنتقل الكاميرا إلى المدفأة أو النافذة لتصور سماءً تبرق، وشلالا يتدفق، ونهرا يفيض، وزهورا تتفتح.

المظهر الآخر للجنس نجده في الحوار المزدوج المعنى، حيث يدور الكلام حول شيء ما لكنه يعبّر في الوقت ذاته عن إيحاءات جنسية تبدو صريحة ومكشوفة أحيانا.

الخيانة الزوجية:

في سينما تدعو إلى الارتباط الزوجي والتماسك العائلي، وتدافع عن الأخلاق والفضيلة، فإن الخيانة الزوجية تصبح فعلا أثيما يستحق العقاب. وهي في الغالب تتفادى طرح الخيانة والطلاق لئلا تصاب العائلة بشرخ عميق.. إذ من الضروري إظهار مدى مقاومتها وصمودها. فالمرأة التي تتعرض لشتى أنواع الإذلال والاضطهاد نراها تتحمّل كافة الضغوطات والمشاكل بصبر أسطوري، وتقاوم الإغواءات والسقوط في الخطيئة حتى لو دفعت حياتها ثمنا لذلك. أما المرأة التي ترضخ للإغواء وتتمادى فهي شريرة بطبيعتها، لذلك يتعين عليها أن تعود إلى رشدها أو تنال العقاب بشكل سريع وحاسم.

حتى البطل لا يحق له أن يرتكب الخطيئة. مباح له أن يرقص ويغني ويلهو مع من يشاء من الفتيات، لكن ينبغي أن يحدث هذا ببراءة مطلقة وأن يحب امرأة واحدة فقط (هي البطلة) وإلا أصبح شريرا في نظر الجمهور الذي سوف لن يتعاطف معه.

حركة في الفراغ:

تفتقر معظم الأفلام الهندية إلى التحليل الاجتماعي أو السياسي للموضوعات التي تتناولها. الشخصيات تبدو عائمة في فراغ اجتماعي وثقافي، كأنها منبثقة من لا مكان أو من موقع خارج الوسط المادي.

هذه الأفلام لا تتطرق إلى قضايا جوهرية ومصيرية. وعندما تعرض للفساد في بعض أجهزة ومؤسسات النظام – كالشرطة أو المناصب الوزارية - فإنها تظهر ذلك في صورة باهتة وسطحية، دونما عمق أو تحليل، أو وفق رؤية محددة، إنما لغاية إثارية حيث البطل الفرداني يواجه الفساد وحده بالعنف الدموي.

غالبية الأفلام تدور في نطاق ضيق من القصور البورجوازية، متجاهلة قطاعات واسعة من الطبقات الفقيرة. وإذا دعت الضرورة لتصوير ذلك، فمن وجهة نظر عاطفية بحتة وعبر حكايات سطحية وساذجة لا علاقة لها بالواقع الحقيقي الزاخر بالتناقضات المريعة. وهي تحاول جاهدة تذويب الفوارق الطبقية ظاهريا، لكنها جوهريا تعمل على تكريسها.

الملاحظ أن سينما ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت ذات منحى اجتماعي نقدي (أفلام راج كابور، محبوب، بيمال روي) تتناول بجدية وبوعي قضايا الأرض، وصراع الفلاحين ضد الإقطاع، والنضال من أجل بناء مجتمع جديد.. بينما الأفلام المعاصرة تتحاشى تناول قضايا مهمة وبنظرة جدية، وتركز على البطل الفرد الغاضب، الخارق، الوحيد، الذي يستخدم العنف للانتقام أو لتحقيق العدالة.

العنف يجد مبررا لوجوده ولتمجيده في آن عندما يتعلق الأمر بإنقاذ العائلة أو شرف الحبيبة أو الدفاع عن المظلومين أو استعادة الحق.. هنا يحقق العنف حضوره ويثير التعاطف إلى جانبه. فالبطل الذي يصرع خصومه (عصابات الأشرار) يصرع في الوقت نفسه خصوم أو أعداء المتفرج. ولا يخلو فيلم الآن من المعارك المصورة في أماكن متعددة، بطريقة غير واقعية وغير منطقية.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي – وهي تعد المراحل الذهبية في تاريخ السينما الهندية - كانت الأفلام تعبّر عن مرحلة ما بعد الاستقلال، مرحلة بناء المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. كان أبطال الشاشة من المزارعين والعمال.

عدد من المخرجين، الذين شعروا بأن التحرر والاستقلال لم يجلب للأمة ما كان مرجواً، وما ناضل جيلهم من أجله، تناولوا في أفلامهم النضال ضد الفقر، والظلم الاجتماعي، ونظام الطبقات، واضطهاد المرأة.. هذه القضايا التي ظلت قائمة بأشكال متعددة.

في تلك الفترة (بداية الخمسينيات تحديدا) برز عدد من المخرجين الذين تأثر بعضهم بالواقعية الإيطالية الجديدة: ساتياجيت راي (في البنغال)، راج كابور (الذي كان كاتب أفلامه شيوعيا يدعى ك. عباس، والذي اتجه بدوره إلى الإخراج وحقق أفلاما هامة)، بيمال روي، محبوب خان (مخرج الفيلم الشهير    mother India ،جورو دوت (الممثل المخرج، شاعر السينما الهندية، الذي انتحر وهو في التاسعة والثلاثين من عمره).

في السبعينيات، برزت أفلام اتجاه ما يسمى "السينما الفنية"، المضادة للسينما التجارية السائدة، والتي تناولت قضايا النظام الإقطاعي، الظلم الاجتماعي، الفوارق الطبقية، استغلال المرأة.. إلخ.. مبتعدة في الوقت نفسه عن النجوم والأغاني وتقاليد السينما الرائجة. مثل هذه الأفلام اكتسحت المهرجانات العالمية، واضعة السينما الهندية الجادة على الخارطة العالمية. لكن، ضمن السوق المحلية، ظلت هذه الأفلام بعيدة عن انتباه واهتمام الجمهور العريض الذي يفضّل الاتجاه الآخر.. بالتالي لم تجد هذه الأفلام الدعم المادي والمعنوي.

أصداء و محاكاة:

الأفلام الهندية، في أغلب مشاهدها، عبارة عن ترجمة حرفية أو صورة منسوخة من عدد من الأفلام الأجنبية، الأمريكية خصوصا، الناجحة جماهيريا.

الفيلم الواحد يمتلئ بأصداء وتضمينات من أفلام أخرى، ويبدو الفيلم أشبه بالكولاجات الملصقة ببعضها والتي تحتوي كل منها على قصة مستقلة ومنفصلة عن الأخرى.

هذه الأفلام لا تحاكي الأعمال الأجنبية فحسب، إنما تحاكي نفسها أيضا. فكل فيلم ناجح جماهيريا يفضي إلى سلسلة من الأفلام المتشابهة، والتي هي عبارة عن تنويعات حول نفس الفكرة، أو الحبكة، أو الشخصيات. كما لو أن الفيلم نفسه يعاد صنعه المرة تلو الأخرى حتى ينجح عمل آخر، من نوعية مختلفة ظاهريا، لتظهر من جديد سلسلة أخرى.

العنصر الأهم:

منذ بداياتها والسينما الهندية تزخر بالأغاني.. فيلم "شيرين فرهاد"، على سبيل المثال، احتوى على 42 أغنية، ووصل عدد الأغاني في أحد الأفلام إلى 59 أغنية.

الأغنية عنصر مهم جدا، وفي كثير من الأحيان تضمن نجاح الفيلم. وفي تاريخ السينما الهندية كله لم تنتج سوى أفلام قليلة جدا تخلو من الأغاني والرقص (أعني هنا السينما التجارية وليس تلك التي يطلق عليها السينما الفنية art movies) وهذه المحاولات فشلت في جذب الجمهور، وأدرك السينمائيون أن التحرر من الأغنية والرقص ليس عملا سهلا بل مغامرة غير مأمونة العواقب.

الأغنية، على يد مخرج بارع، يمكن أن تكون وسيلة لتقدم مسار القصة، ولتوضيح مشاعر وأحاسيس غير منطوقة. لكن في أغلب الأفلام الهندية، الأغنية لا صلة لها بالقصة دائما، ولا علاقة لها بالأحداث، ولا حتى بالشخصيات. إنها تقتحم الأحداث لتقطع السرد وتعطل الزمن.  وهي محشورة في مواقف وحالات غير متوقعة تماما، مع ذلك فهي مقبولة عند المتفرج، لا تثير اعتراضا أو استياء. إنها تحدث في أي وقت وفي أي مكان، في الصحو والحلم والتخيل، دون أي مبرر أو ضرورة فنية. أحيانا تستغل الأغنية من أجل تمرير لقطات مثيرة جنسيا والتي عادة لا يسمح بها الرقيب إذا جاءت ضمن السياق السردي للفيلم.

الأغاني والرقصات منفذة بمهارة وجاذبية، بتصوير بارع ومونتاج حيوي. الاستعراضات ثرية بصريا، وهي تعتمد على تابلوهات راقصة وألحان شعبية، أو استعراضات  تصور في الملاهي الليلية وأماكن الديسكو.

وما يؤكد أهمية الأغنية والاستعراضات، الأجور العالية التي يحصل عليها نجوم الغناء ومؤلفو الموسيقى الذين لا يتجاوزهم في الأهمية قليلا إلا النجوم. إن نجاح الفيلم يعتمد غالبا على النجم والمخرج ومؤلف الموسيقى، بينما تأتي القصة والسيناريو كعناصر ثانوية.

من جهة أخرى، الأغاني تستخدم دعائيا للترويج للفيلم، ومبيعات الأغاني تغطي جزءا مهما من الميزانية، حتى لو أخفق الفيلم تجاريا. علاوة على ذلك، فإن شركات إنتاج الأغاني، التي تموّل بعض الأفلام، تصرّ على وجود عدد كبير من الأغاني في الفيلم الواحد.

و بعد:

على الرغم من كل شيء، تستمر الأفلام الهندية في غزو الأسواق الخارجية، منتزعة المستهلكين من أرض صلبة إلى واقع آخر تتجسد فيه الأحلام والرغبات.. لكن على المستوى الأدنى من الوعي.

الوطن البحرينية في

18.05.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004