أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

قراءة في السينما الهندية (2ـ 4)

نذور للخارق

بقلم: أمين صالح

عبادة النجم:

الأفلام الهندية تأخذ جمهورها في رحلة عبر دهاليز الحلم، لكنها رحلة سياحية حيث الأغاني والرقص والمناظر الطبيعية الخلابة المنتقاة بعناية، سواء في مناطق سياحية في الهند أو في بلدان أوروبية. يرافق الجمهور في رحلتهم الوهمية "نجوم" لهم صفات وعواطف سماوية.

نظام النجوم قوي، راسخ، مزدهر في السينما الهندية منذ بداياتها تقريبا. وجود النجم ضمان لنجاح الفيلم. إنه العنصر الأهم. سينما المخرج لا وجود لها، باستثناء ساتياجيت راي ومرينال سين وآخرين قلة يمثلون السينما المختلفة، المغايرة، التي لا تصل إلى الجمهور العريض.

المخرج موظف، حرفي، ليس صاحب رؤية خاصة وأسلوب خاص. حتى أنه لا يتحكم ولا يضبط كل مظاهر صنع الفيلم.. أما الحوار فيخضع لإعادة الكتابة من قبل النجوم ليتناسب مع صورتهم الجماهيرية. كل هذا لا يدع للمخرج الأصلي سوى مساحة صغيرة للعمل.

كل عناصر الفيلم، من قصة وتصوير ومونتاج واستعراضات، موظفة لخدمة النجم الذي يمثل في عدة أفلام، يصل عددها أحيانا إلى عشرة، في وقت واحد.

لعبادة النجم جذر ديني واجتماعي في الذهنية الهندية. المواطن العادي يكنّ احتراما عميقا، يصل إلى حد التقديس، للزعيم أو الكاهن أو المعلم أو أي كائن قادر أن يقوم بأفعال يعجز غيره عن القيام بها، والذي يلجأ إليه الآخرون طلبا للعون أو المشورة أو تقديم حلول لمشاكلهم.

إنه أمر عادي ومألوف أن يبني المعجبون معابد خاصة لممثليهم المفضلين، وأن ينظروا إليهم ككائنات سماوية. عندما أصيب النجم أميتاب باشان، أثناء تصوير أحد أفلامه، إصابة بليغة أدخل على أثرها المستشفى، توقفت أنفاس الأمة كلها. الشعب، بكل طوائفه وطبقاته، صلى من أجل شفاء نجمهم، بل وقدم الكثيرون النذور، ومارسوا أعمال التكفير، في سبيل شفائه العاجل.

عبادة النجم هي التي تحافظ على بقاء بعض الممثلين لسنوات طويلة وهم يؤدون دور البطل الشاب حتى وإن تجاوزوا الخمسين. إنه بمنزلة المقدّس، الخارق، السامي، الخالد. في حين نجد أن الممثلات أقل خلودا، أقل بقاء في دائرة النجومية، فاللواتي كن بالأمس يقمن بدور حبيبات البطل أصبحن اليوم يقمن بدور أم البطل (نفسه).

النجم يعتبر نجوميته عرشا ملكيا. إنه يهيئ أولاده وربما أحفاده لوراثة العرش، فينشئ أبناءه سينمائيا، ينتج ويخرج أفلاما يضطلعون بالبطولة فيها ليتكرسوا نجوما مثله.. والنماذج لا حصر لها.

الكائن الخارق:

النجم نموذج، مثال، لما يتوق إليه المتفرج، لما يريد أو يحب أن يكونه. إنه يجسد كل ما لا يستطيع المتفرج أن يفعله. يمثـّل البديل أو الذات الأخرى الأكثر تفوقا وسموا وبطولية.

عندما قدم النجم "أميتاب بتشان" شخصية الشاب الغاضب في سلسلة من الأفلام، منح الجمهور صورة كانت مطلوبة بإلحاح، ذلك لأن آلافـاً من الشبان يرغبون في التعبير عن غضبهم لكنهم لا يجدون القنوات التي من خلالها يمكن التعبير عن هذه الحالة.

النجم قادر في الفيلم الواحد أن يفعل كل شيء: يرقص على مختلف الإيقاعات، الشعبية والغربية. يغني (وإن كان يستعير أصوات مغنين محترفين). رومانسي جدا، يذوب حنانا ورقة في تعامله مع المرأة التي يحب. محارب صلب، بإمكانه أن يصرع عشرة رجال أشدّاء حتى لو كان هزيل البنية. مرح إلى حد التهريج.

النجم كائن خارق. يسمو فوق البشر. بطولته ليست موضع شك، فهو لا يخاف من شيء، ويقتحم مكامن الخطر كالذاهب في نزهة. تتوفر فيه كل الصفات الخيّرة والنبيلة. الظروف أو التربية أحيانا تدفعه إلى سلوك طريق الشر لكنه ينال عقابا خفيفا ليعود سريعا كي يحارب من أجل الدفاع عن قيم الخير والحق والعدل.

النجم تتوفر لديه خاصيات ومواصفات لا يمكن أن تتوفر في كائن بشري: الجاذبية، الحكمة، المعرفة، الشجاعة، الرشاقة، الرهافة، القدرة الخارقة، وغير ذلك من المواصفات التي تستحق الإعجاب والحب، والتي تؤهل النجم لأن يكون نموذجا يحتذى به. علما بأن المتفرج يدرك جيدا أن مثل هذه الخاصيات ليست حقيقية، ولا يمتلك الممثل - النجم بعضاً منها في حياته اليومية. المتفرج يعرف مثلا بأن الصوت الذي يغني به النجم صوت مستعار، وأن المساحيق (المكياج) تغطي وجهه، وأن هناك ممثلا بديلا يقوم بالحركات العنيفة في المعارك والمطاردات نيابة عنه.. لكنه الوهم، الوهم الذي يتشبّث به المتفرج ولا يقبل أن يتحطم، فأي تحطيم للوهم هو كسر للمرآة التي من خلالها ينظر إلى ذاته الأخرى، ذاته المتخيلة، ذاته التي يرغب في أن ينتحلها، يكونها، ذات يوم.

كليّ الوجود:

البطل متوحد مع ذاته، يعيش بمفرده، لكنه يوجد في كل مكان ويظهر في أي وقت. مع ذلك هو غالبا ما ينتهي بالاستقرار في كنف عائلة صغيرة (مع حبيبته التي يتزوجها أخيرا) أو بعد العثور على أفراد عائلته الذين افترق عنهم صغيراً لأسباب خارجة عن إرادته.

هو نرجسي، معتد بنفسه، متغطرس، ماكر، يمقت من يحتال عليه أو يستغله أو يتلاعب به. في الغالب يكون عاطلا عن العمل بمشيئته، لأنه – كبطل - لا يمكن أن يكون خاضعا وممتثلا لقانون أو روتين أو نظام. وهو لا يواجه مشاكل اجتماعية واقتصادية. إنه يكسب رزقه من حيث لا ندري. أحيانا يحظى بإعجاب وتقدير الجمهور عندما يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء.

عندما يحب فمن النظرة الأولى. إنه يستخدم كل الأساليب، حتى التذلل والقيام بأفعال صبيانية، من أجل كسب رضا و إعجاب حبيبته البطلة، المتعجرفة في أغلب الأحيان، التي تستمر بلا كلل في التمنع وصده ومجابهة محاولاته المستميتة بالعبوس والتأفف والتذمر. لكن المتفرج يدرك، بحكم التكرار والتماثل، أنها سوف تستسلم لا محالة، فهو قدرها، بدونه لا وجود لها. والجليد يذوب بينهما حين يستفرد بها عدد من الأشرار، الطالعين من لا مكان، مثل بذور شيطانية، يريدون اغتصابها. عندئذ يخرج البطل على نحو فجائي كما لو من باطن الأرض، أو يهبط من أعلى كالملاك الحارس، ليكون المنقذ الخارق الذي يصون شرفها وينجيها من الهلاك.

في الأفلام القديمة، كان للبطل ظل. إنه الصديق الذي لابد أن يكون خفيف الظل، الذي يتعيّن عليه أن يخفف من حدة التوترات والضغوطات التي يتعرّض لها البطل وذلك بالمرح والفكاهة والحركات التهريجية.

في أفلام اليوم، لم يعد البطل النجم بحاجة إلى هذا الصديق الذي قد يسرق منه الأضواء ولو مؤقتا. لقد اكتشف أنه قادر على الإضحاك، أو لابد أن يمتلك هذه الخاصية لكي يكون في البؤرة دائما، من ثم لابد من تخصيص مواقف معينة يظهر فيها مقدرته الكوميدية إلى جانب قدراته الأخرى.

البطل يتكيف مع كل حالة وموقف.. كالحرباء: إنه شفاف في المواقف الرومانسية، مأساوي ويذرف الدموع الوفيرة في المواقف الميلودرامية، عنيف للغاية في مواقف الحركة (الأكشن)، مرح ومبتهج ورشيق عندما يؤدي أغنية أو رقصة.

سينما محافظة و مهادنة:

البطلة بالأمس كانت امرأة مثالية، مخلصة، خاضعة، تقدّس أهلها وزوجها إلى حد العبادة، وفي سبيلهم تضحي بكل شيء، براحتها وسعادتها وحياتها أيضا. هذا النموذج لم يتغيّر، لكن الجمهور الأكثر شبابا والأكثر تأثرا بالمفاهيم الغربية والسلوك العصري، يطالب بنموذج مختلف يتلاءم مع هذه النظرة والتطورات. ولأن السينما التجارية، بشكل عام، تتوجه إلى الشباب الذين يشكلون الغالبية التي ترتاد السينما، فإن الأفلام الهندية صارت تخلق نموذجا ونمطا أنثويا جديدا (إلى جانب النمط القديم).

إنها البطلة العصرية، المتحررة، المستقلة إلى حد ما، التي ترتاد الملاهي الليلية وترقص و\تغني هناك، لكنها أبداً لا تحب غير البطل. العلاقات المتعددة مرفوضة، فالسينما الهندية محافظة في جوهرها، ومهادنة. إنها تتناول المظاهر العصرية بروح ورؤية تقليدية. القديم يجاور الجديد. البطل الذي يميل إلى النموذج الأنثوي الجديد (البطلة المستقلة) ويرغب فيها، يشعر في قرارته بأن استقلاليتها تهدد أناه وكينونته وقيمه، لذلك يسعى إلى ترويضها وإعادتها إلى حظيرة التقاليد والأعراف السائدة الراسخة، وهي توافق راضية ومغتبطة على العودة إلى لعب الدور السابق: المثالية التي تقدّس الحياة الزوجية والعائلية.

قصص الحب بين البطل والبطلة غالباً ما تلقى معارضة من الأهل، بسبب الفوارق الطبقية أو الطائفية أو الاجتماعية، لكن النهاية تأتي في صالح الحبيبين اللذين ببراءتهما ونقاءهما وشجاعتهما يتمكنان من إقناع الأهل بضرورة زواجهما.

( يتبع)

الوطن البحرينية في

13.04.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004