أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

شعرية السينما

نحو المعجز، نحو اللغز

بقلم: أمين صالح

في مقالته "الروح الجديدة للشعر"، تنبأ الشاعر أبولينير بأن مملكة شاعر المستقبل ستكون في السينما، حيث أن الشاشة (وأي فضاء مرئي) سوف تحل محل الصفحة البيضاء، وتصير ساحة لقاء أكثر ملاءمة للمشهد الداخلي والمنظر الطبيعي، للفعل الفيزيائي والطاقة النفسية، لتداعيات الواقع، وتكون ناقلا – أكثر مصداقية -  للزمن والمكان.

في العام 1916 عبّر أبولينير عن آرائه في السينما، أثناء مقابلة صحفية معه، وقال: " اليوم هناك فن بوسعه أن يلد نوعا من الوجدان الملحمي من خلال عشق الشعراء للغنائية، وعبر الحقيقة الدرامية للأوضاع والحالات.. ذلك هو فن السينما. الملحمة الحقيقية هي تلك التي تُروى على مجموعة محتشدة، ولا شيء أقرب إلى الناس من السينما. إن ذلك الذي يعرض الفيلم، يلعب اليوم دور المنشد في سنوات الأمس. الشاعر الملحمي سوف يعبّر عن نفسه بواسطة السينما".

وفي موضع آخر، قال أبولينير: "حتى بداية القرن العشرين، الأذن كانت تقرّر خاصية الشعر. في السنوات العشرين التالية، أخذت العين بثأرها. هذا هو قرن السينما".

إن حماس أبولينير للأفلام دفعه إلى كتابة قصيدة، في العام 1917، هي بمثابة تحية موجهة إلى السينما، كما تحدث في إحدى قصصه عن الاستخدامات المحتملة للفيلم السينمائي. بل أنه أبدى رغبته في تحقيق فيلم، وكتب مع صديقه أندريه بيلي سيناريو فيلم لم ينفّذ.

هكذا، بتوجيه من أبولينير ومريديه، بدأ شعراء ورسامو باريس في الالتفات إلى السينما.

ماكس جاكوب، صديق أبولينير المقرّب، كتب في العام 1914 قصيدة يمتدح فيها السينما.

وفي مقالة كتبها الشاعر بيير ريفردي، في 1918، تساءل إذا السينما شكل فني، واستنتج بأن "في الفن، المتعة والدهشة متصلان، وبوسعنا أن نجزم بأن الشيء الذي لا يعود يدهشنا، لا يعود ممتعا".

الشاعر بيير ألبير – بيرو كتب، في العام 1919، عن السينما بوصفها "موضوعا للشاعر". وقد كتب سيناريو لفيلم تجريبي.                                  

اهتمام السورياليين بالسينما كان مبكرا، ففي العام 1917 كتب الشاعر السوريالي لوي أراغون عن الديكور السينمائي مدركاً لقوة الكاميرا السينمائية وقدرتها على الذهاب إلى قلب الأشياء، لإضفاء قيمة وسموّاً على الأشياء العامة الشائعة التي تصورها.

السوريالية، في الواقع، كانت أول حركة أدبية وفنية توجّه اهتماما جادا إلى السينما التي احتلت موقعا مميزا بسبب توقيت ولادتها، والانبعاث الأول للصور المتحركة مع بداية قرن جديد سوف يشهد تطور وتوسّع وانتشار السينما. شعراء المستقبل من السورياليين كانوا، آنذاك، أطفالا ومراهقين جذبتهم الصور السينمائية بسحرها وفتنتها مثلما جذبت الملايين من المشاهدين في مختلف أنحاء العالم.

لقد ولدوا مع مطلع القرن، وتحديدا مع اللحظة التي فيها بعث الوسط الجديد ضوءه الخاص ليبهر العين والذهن. كانوا ينتسبون إلى الجيل الأول الذي نشأ مع الأفلام التي أضحت إحدى حقائق أو مظاهر الحياة اليومية.

وقد عبّر الشاعر والروائي والسينمائي السوريالي روبير ديسنوس عن افتتان ذلك الجيل بالسينما قائلا: "لقد ولدنا للتو... هيّجتنا الرغبة الشديدة التوق إلى الحب، هيجتنا الرغبة في الثورة والتسامي... لنا، لنا وحدنا، اخترع الأخوان لوميير السينما. وفي صالة السينما، كنا نشعر بأننا في بيوتنا. وتلك الظلمة كانت ظلمة غرفنا قبل الذهاب إلى النوم. ربما كان بوسع الشاشة أن تضاهي أحلامنا".

لم يستطع السورياليون أن يبقوا، لفترة طويلة، بعيدين أو غافلين عن طريقة في التعبير ذات فتنة بصرية بارزة، تشجع على انبثاق تداعيات لا يتعيّن عليها أن تكون عقلانية أو منطقية. وقد لاحظ الشاعر فيليب سوبو في مقالة كتبها في يناير 1918: " يوماً ما، حصل الإنسان على عين جديدة".      

لكل فن جوهره الشعري، والسورياليون هم ربما أول من اكتشف هذا الجوهر في السينما.. حتى قبل السينمائيين أنفسهم. وهم الذين آمنوا بأهلية وقدرة الفيلم على توصيل المحتوى الشعري. 

عن هذا الجانب تحدث أراغون،في العام 1918، والسينما كانت آنذاك تعيش طفولتها، فقال: "أمام الشاشة يتعيّن علينا أن نفتح أعيننا، أن نحلل المشاعر التي تحوّلنا، أن نفسرها في سبيل اكتشاف سبب ذلك التسامي الذي تحسّه ذواتنا"، ثم تطرّق إلى المواد والأشياء التي تجد تمجيدها على الشاشة وترتفع إلى المرتبة الأسمى للشعر. ليضيف: "إذا كانت السينما اليوم لا تكشف عن حقيقة كينونتها، أو ما ينبغي أن تكونه، بوصفها استحضارا قويا، حتى في أفضل الأفلام الأمريكية التي تخوّل شعر الشاشة لأن يتحرر من فوضى الاقتباس المسرحي، فذلك لأن الفيلم لا يدرك خاصياته الفلسفية رغم أنه أحيانا يمتلك وعيا حادا بجماله. كنت أتمنى أن يكون صانع الفيلم شاعرا أو فيلسوفا".

هذه الأمنية تحققت بعد سنوات قليلة مع توافد الشعراء إلى الوسط السينمائي، ليعبّروا من خلالها، وبواسطة لغة بصرية طرية، عن رؤاهم الجديدة.

التشكيلي والشاعر مان راي حقق، في العام 1928، فيلما قصيرا بعنوان "قنديل البحر" عن قصيدة كتبها روبير ديسنوس، وقد تحدث عن هذا الفيلم في سيرته الذاتية (الصادرة في 1963) فقال: "قصيدة ديسنوس رأيتها بوضوح كفيلم سوريالي.. كانت أشبه بسيناريو فيلم يتألف من 15 أو 20 سطراً (بيتاً)، وكل سطر يقدم صورة واضحة، منفصلة، لمكان ما، أو لرجل وامرأة. ليس هناك حدث درامي، مع ذلك، هناك كل العناصر لحدث محتمل".

الفيلم منظم في عدد من الأجزاء التي تتحدى التعليل العقلاني. إنه لا يقدم قصة بل تشكيلة من الأفعال والثيمات والموتيفات التي معاً تخلق انطباعات معينة في عينيّ المتفرج. الفيلم لا يسرد قصة حب وإن كان يستنطق مظاهر من علاقة الحب الجنسية والعاطفية.

بعد سنوات قليلة بدأ مان راي في العمل على فيلم آخر كتب له السيناريو أندريه بروتون وبول إيلوار، لكن لم يصور منه غير لقطات قليلة، دون أن يتمكن من إكمال المشروع.  .

من الشعراء الذين حققوا أفلاما: جاك برونيو، ديسنوس، جان كوكتو، الأخوان بريفير، أنتونان أرتو.

كان الشاعر لوي أراغون يرى في السينما الوسط الحديث للتعبير، الأداة الأكثر فورية ومباشرية لهذه الحداثة: "وحدها السينما، التي تتكلم مباشرة إلى الناس، قادرة أن تفرض هذه المنابع الجديدة من الإشراق الإنساني على البشرية المتمردة، على الإنسان الباحث عن قلبه". وقد خصص أراغون الجزء الأكبر من مقالته لتحليل "الإحساس الذي ينقلنا، لاكتشاف السبب في تسامي ذواتنا". ويستنتج أراغون بأن السينما هي "الحقل الملائم للجمال الحديث".

شعراء السوريالية، في تلك المرحلة، لم يكتفوا بعشق السينما، وتحديدا شعرية الأفلام الصامتة، بل كتبوا عن الأفلام، وكتبوا السيناريوهات.. التي لا يمكن تصويرها في أغلب الأحيان.

من المعروف أن السوريالية انطلقت كحركة أدبية مؤلفة، في المقام الأول، من كتّاب وشعراء، وعندما تجلى اهتمامهم بالسينما، شرعوا في تجربة الكتابة للسينما، ربما بإيعاز من أبولينير الذي غرس فكرة كتابة السيناريو في أذهان الشعراء، فمحاولة فيليب سوبو الأولى في هذا الاتجاه جاءت بعد فترة قصيرة من إلقاء أبولينير خطابه الشهير عن "الروح الجديدة للشعر" في نوفمبر 1917، والذي فيه حض الشعراء على المشاركة في تحقيق الأفلام، قائلاً:

"إنه لأمر غريب أن تكون السينما هي الفن الشعبي الرائج بلا منازع في الوقت الراهن. السينما هي كتاب الصور، ولا نجد من بين الشعراء من يحاول أن يؤلف صورا لأرواح مصقولة، مولعة بالتأمل، غير راضية عن المخيلة الفظة، غير المصقولة، التي يتمتع بها منتجو الأفلام. هؤلاء سوف يصقلون أنفسهم حتى اليوم الذي يصبح فيه الفونوغراف والسينما الأشكال الوحيدة للتعبير قيد الاستعمال. عندئذ سوف تكون للشعراء حرية هي مجهولة اليوم".     

تأثر السورياليين بالسينما بلغ حد كتابة قصائد سينمائية، في شكل نصوص استلهمت الأفلام، كما في تجارب فيليب سوبو  وبنجامان بيريه. والقصيدة السينمائية هي نص أدبي متحرر من المكان والزمن وقانون الجاذبية، ويضمن للشاعر إحساسا أكبر بالحركة. نص كهذا يساعد الكاتب على تحطيم الحواجز التي تحدّ من منظورنا إلى الواقع.

سوبو لم يزعم أنه يكتب "القصيدة السينمائية" واضعا في اعتباره الإعداد السينمائي لها، أي تحويلها إلى الشاشة. لقد كان يرغب في توضيح بعض الفوائد التي بإمكان السينما أن تقدمها. وفي حين تمكن المخرج الألماني فالتر روتمان من تحويل اثنتين من قصائد سوبو السينمائية إلى أفلام في العام 1922(تعرضا إلى التدمير أثناء قصف برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية) إلا أن مغزى تجريب سوبو مع الشكل الأدبي الجديد ليس في عرض نموذج أو مثال لصانعي الأفلام ، إنما لكي يقدم شهادة على استجابة بعض السورياليين الأوائل إلى السينما بوصفها قوة إلهامية.

في يناير 1919 نشر سوبو محاولته الأولى في كتابة السيناريو، مع مقدمة أكّد فيها المفهوم الرائج على نحو واسع بين أفراد الحركة الطليعية والذي يفصل فن السينما عن فن المسرح، كما ميّز جوهر الفيلم على النحو التالي:

" قوة الفيلم ضخمة إلى حد لا يصدق لأنه يقلب كل القوانين الطبيعية: إنه يتجاهل المكان، الزمن،يشوّش الثقل، قوانين حركة القذائف، علم الأحياء (البيولوجيا).. إلخ. عين الفيلم أكثر صبرا، أكثر نفاذا، أكثر دقة.. إذن هي تنتمي إلى الخالق، الشاعر، ليستفيد من هذه القوة، هذه الثروة المهملَة حتى الآن، لأن خادما جديدا هو تحت تصرف مخيلته".

ثم يشير سوبو إلى قصيدته السينمائية "لامبالاة" مقترحا إمكانية تحويلها إلى فيلم من قِبل أي شخص لديه الوسيلة المادية لفعل ذلك. هذه "القصيدة" هي، في الواقع، نصف صفحة من النثر يصف فيها تجربة المؤلف عبر مصادفات أو حوادث غير متوقعة، هي سوريالية وسينمائية في آن: صخور منتفخة، رجل يظهر فجأة ويتحوّل أولا إلى امرأة ثم إلى رجل عجوز، الأشياء تحتشد حول الراوي حتى يثب بعيدا عنها فوق البيوت، عقارب الساعة تدور بسرعة متزايدة.

في ما بعد، حدّد سوبو القوة الدافعة لكتابة هذه القصائد السينمائية قائلا: "لقد شعرت أن بإمكان السينما أن تتيح لي التعبير عن نفسي على نحو أسرع وأكثر كثافة من كتابة نوع من الغنائية السوريالية".

كما أشرنا، مثل هذه الأعمال كانت تتصل بالأعمال الأدبية أكثر من الوسط السينمائي. إن حلقة أبولينير تأثرت إلى حد بعيد بالعناصر السينمائية. كان هناك غزو للأفكار السينمائية في أعمالهم الأدبية: تأثير المونتاج كان ملحوظاً في التتابع السريع للصور في بعض قصائد أبولينير، كما أن شخوص الأفلام الأمريكية كانت تبرز على نحو غير متوقع في عدد من قصائد أبولينير ورفاقه الذين كانوا ينظرون إلى السينمائي بوصفه الفنان الذي يمتلك الحرية السحرية والقادر على جعل صوره الرائعة، التي تتحدى المكان والزمان، تتفتح بشكل سريع على الشاشة.

في 1918 نشر سوبو قصائد فيها كل جملة مكتوبة على سطر/ بيت مستقل، وتصف مشهدا أو حدثا مختلفا. هنا أيضا قدمت الأفلام دافعاً لتفكيك وحل الأشكال الأدبية التقليدية. "قصائده السينمائية"، أياً كانت احتمالاتها وممكناتها السينمائية، هي حالة أو صيغة من التعبير أكثر حرية.

لوي أراغون أيضا تناول السينما في عمله الأدبي. من بين أعماله الأولى، قصيدتان كتبهما عن شارلي شابلن في 1918. كما خطط لكتابة سيناريو فيلم في العام 1920. لقد مارست السينما تأثيرا كبيرا على كتابات أراغون الأدبية، في مرحلتها المبكرة، حيث استعار عناصر المحاكاة من الأفلام، إضافة إلى استفادته من المؤثرات البصرية السينمائية.

بعد محاولة سوبو المبكرة في كتابة السيناريو، لم يقم أحد من شعراء السوريالية بهذه المهمة إلا في العام 1922 حين نشر بنجامان بيريه في مجلة "أدب" سيناريو – لم يتحوّل إلى فيلم – بعنوان "بولشيري تريد سيارة"، متأثرا بأفلام تلك الفترة من النوع الكوميدي والمطاردات. وفي العام 1950 كتب سيناريو آخر (وأخير) بعنوان "الظهيرة" (أيضا لم ينفّذ).. مثل هذه السيناريوهات تعتمد على المؤثرات البصرية والسمعية لا على الحبكة، وهي تتعارض كليا مع السيناريوهات التقليدية.

بيريه كان أكثر شعراء السوريالية اهتماما بالدعابة، وفي العام 1933 كتب قصيدة مؤلفة كليا من عناوين أفلام. في السيناريو المذكور (1922)يعرض بيريه الدعابة الصاخبة التي يزخر بها شعره. ومثل سوبو، سيناريو بيريه هو سينمائي وسوريالي في آن.

الأفلام الهزلية الأمريكية كانت النوع المفضّل عند السورياليين، الذين تأثروا بها إلى حد بعيد. كان ماك سينيت وبستر كيتون والأخوة ماركس موضع إعجاب الجماعة السوريالية، وأراغون امتدح شابلن في عدة مناسبات, وسوبو كان في غاية الإعجاب بالممثل الكوميدي هارولد لويد وألّف كتابا عن شابلن، وديسنوس أيضا ألّف كتابا عن مخرج الأعمال الهزلية ماك سينيت (محرّر السينما)، أما بروتون فقد رأى بشير نجاح السوريالية في تلك الأفلام الهزلية الأمريكية "حيث للمرة الأولى، المحاكاة الساخرة للحياة الحديثة تنفجر في روح مجرّدة من المرارة، كما في كوميديات ماك سينيت التي هي من أكثر الأشياء التي اقترحتها السينما غموضاً حتى الآن" (1922)

عند روبير ديسنوس الأمر يختلف بعض الشيء. نصوصه تأخذ شكل سيناريو تصوير، لكن في المحتوى والغايات لا يبتعد عن بيريه وإن كان أكثر حذرا منه إزاء التضمينات التقنية. إن ديسنوس أيضا يستخدم السينما أكثر مما يخدمها. من بين أربع سيناريوهات نشرها في العام 1930، فقط في سيناريو واحد يقرّ بأولوية السينما على الأدب، حيث يكشف عن قدرته على عرض رؤية سوريالية للعالم بينما يظهر موهبة سينمائية جديرة بالملاحظة.

مثلما ميّز السورياليون بين الأدب (ممارسة التقنية الأدبية) والشعر (الكشف عن وجه أو مظهر للعالم، كان محجوبا، والذي يأسره الشاعر بالكلمات) كذلك هم فصلوا شعرية الفيلم عن فن السينما.

ولأن كلمة "شعر" تعرضت للتمدّد والتوسّع والانفتاح كي تشمل أشكالا أخرى، غير الكتابة عموما والقصيدة خصوصا، فإن كلمة "لغة" أيضا خضعت لتحديد أو تعريف أرحب، إذ لم تعد صيغ اللغة تنحصر في "اللفظي" فقط، بالتالي تحررت "اللغة" من التخوم الصارمة للاستخدام التقليدي، لتشمل البصري في اللوحة والنحت والسينما.. وقد ثبت أن الكلمات لا تضاهي الصورة في وصف الأشياء المتجلية في اللوحة أو المشهد السينمائي.

أندريه بروتون، مشيرا إلى السينما، يلاحظ: "أن أكثر ما كنا نثمّنه ونقدّره في السينما، إلى حد عدم الاهتمام بأي شيء آخر، هو قدرتها الاستثنائية على جعل المتفرج يفقد إحساسه بالمكان والزمان".

حالة الإفقاد هذه تلمّح إلى قوة وفعالية السينما في انتزاع المرء خارج محيطه الطبيعي، سواء أكان هذا المحيط ماديا أو ذهنيا أو عاطفيا.. بالتالي هي متصلة بـ "المعجز الذي إلى جواره كل فضائل وحسنات الفيلم لا تساوي شيئا". عند هذه الحالة يتحقق العجيب أو المدهش.. أي في لحظة مرور الفرد من خلال أبواب صالة السينما، ذلك لأن بمروره هذا هو، في الوقت نفسه، يمرّ من خلال نقطة حاسمة تماثل، كما يقترح بروتون، النقطة التي فيها تتحد حالة اليقظة بالنوم.

ويعلن روبير ديسنوس، في مقالة له في أبريل 1927 بعنوان "ألغاز السينما"، أن "ما نطلبه من السينما هو المستحيل، اللا متوقع، الحلم، المفاجأة، الغنائية التي تمحو الدناءة في الأنفس وتدفعها بحماسة إلى المتاريس ونحو المجازفات. نحن نطلب من السينما ما يحرمنا منه الحب والحياة، أعني: اللغز، المعجزة".

السينما، بإمكانياتها الجلية والكامنة، بما تحققه من تجاورات بصرية فجائية غير متوقعة، وتداعيات حرّة، بما تمتلكه من قدرة على تنظيم الصور المادية الملموسة في نظام غريب على نظام الواقع المكاني، هذه السينما تتجاوز مسألة محاكاة الحياة لتخلق عوالم جديدة تتصل بالواقع لكنها تظل مرتبطة بمملكة الخيال حيث للعجيب والمدهش سيادة عليا. إن خاصيات السينما التي جذبت السورياليين وأثارت اهتمامهم، نجدها في قدرة السينما على تحرير الخيال من القيود المبتذلة التي كانت تكبّله، قدرتها على تحرير الفرد من عادية ورتابة مشاهد الحياة اليومية، قدرتها على إثارة وتعزيز الإحساس باللغز والغموض والتشويق، قدرتها على المضي وراء الحدود المألوفة للوجود الإنساني، بلوغ الشخصيات السينمائية مرتبة الكائنات الخارقة والعجيبة.. وهناك خاصية أشار إليها فيليب سوبو في العام 1931 في قوله: " إن ما جذبني في تلك الأعمال السينمائية، بدرجة أكبر، هو ذلك الشعر الغريب، الجو الغامض، المتضمن في الأفلام". 

من المنظور السوريالي، شِعْر السينما ينبع من القدرة، التي لا يملكها وسط آخر بالدرجة نفسها، على إتمام وتوسيع الواقع المادي الملموس.. هذا الواقع الخاضع لإعادة التقييم باستمرار، والذي لا يظهر في ذلك الشكل من التماسك والمتانة والتناغم الذي يعتقده المرء أو بالصورة التي يتمناها المرء، بل يبدو مفككاً أو متشظيا.

في محاضرة ألقاها في جامعة مكسيكو، في العام 1953، عن "الشعر والسينما"، شدّد لويس بونويل على أن "الواقع، حسب حركة الواقعية الجديدة في إيطاليا، هو ناقص، غير تام، وقبل كل شيء، عقلاني. لكن الشعر، اللغز، كل ما يكمل ويوسّع الواقع المادي الملموس هو غائب كليا عن أعمال الواقعية الجديدة". ويقول أيضا: "يبدو أن السينما تم اختراعها من أجل التعبير عن حياة ما تحت الوعي، الجذور التي تتغلغل عميقا في الشعر". وفي موضع آخر يقول بونويل: "الواقع متعدّد. وبالنسبة لعدد كبير من البشر، للواقع ألف معنى مختلف. شخصيا أريد أن تكون لدي رؤية متكاملة للواقع. أريد أن أدخل عالم المجهول المدهش. أما الباقي، فيتعيّن عليّ أن أتعامل معه يومياً".

كما في الشعر اللفظي، نجد أن تأثير الشعر البصري ينجم عن التعارض أو التضارب بين عناصر منتزَعة من بيئتها أو محيطها الطبيعي، ومقدمة في علاقة غير مألوفة مع عناصر أخرى هي بدورها مزاحة ومرحّلة من محيطها، ومن خلال هذه العلاقة تحلّ لغة اتصال جديدة محل تلك اللغة البالية، المبتذلة، التي لا يعود المرء يحتاج إليها في اتصاله بالعالم.

الواقعي، بالنسبة للسينمائيين السورياليين، ما هو إلا نقطة انطلاق نحو ما لا يمكن توقعه أو التنبؤ به، نحو المجهول، بل وحتى نحو ما لا يمكن معرفته. كانوا يتقاسمون، مع أنتونان أرتو، الرغبة في خلق عالم ينشأ من تحوّل متخيّل لعناصر يوفرها واقع موضوعي. لقد كانت السوريالية تسعى دوما إلى فتح الواقع على اللا واقع، إلى رفع الواقعي إلى مستوى السوريال، بالتالي فإن كل شيء يتوقف على الحرية التي بها تتيح الروح الشعرية السوريالية للمتفرج أن يخلق تداعياته الخاصة التي،عادةً، تشجبها أو تجتنبها عمليات التفكير العقلاني أو ترفضها بوصفها غير مرتبطة بالموضوع.

السورياليون، الذين كرّسوا أنفسهم لتشييد ومدّ الجسور نحو عالم كامن وراء حدود الواقع اليومي، ركّزوا آمالهم بشأن السينما على الإيمان بأن الفيلم قادر شعريا على تجسير المسافة التي تفصل التأمل عن الواقع، الرغبة عن التحقق. أرادوا صوراً سينمائية حرة، لا تعتمد على الحبكة المسرحية، وتكون محفّزة للمخيلة.. صورا تتجنب الادعاء الجمالي، ولا تمتثل لمبادئ الواقع. الفيلم، بالنسبة لهم، ليس غاية بذاته، بل ينبغي أن يظل دوماً وسيلةً، سبيلاً لبلوغ غايات سوف تستمد قيمتها من النظرية السوريالية.

بونويل، السينمائي السوريالي، الذي صرّح يوماً بأن "السوريالية كانت درسا عظيما في حياتي، وأيضا خطوة شعرية ومدهشة"، حقق في العام 1928 مع سلفادور دالي أبرز وأشهر الأفلام السوريالية "كلب أندلسي"، وعن هذه التجربة يتحدث بونويل:

"حين كنا نعمل، أنا ودالي، في كتابة سيناريو الفيلم، كانت لدينا قاعدة واحدة: أن نحتفظ فقط بالصور التي لا نستطيع تفسيرها عقلانيا. بدأت الفكرة بحلمين توأمين لي ولدالي. هو حلم، على نحو استحواذي بنمل يدبّ على راحة يد. وأنا حلمت بيد تشق بالموسى مقلة عين. قمنا بتوحيد الصور وحذف تلك التي تحمل دلالة سياسية أو تاريخية أو جمالية أو أخلاقية.(..) في "كلب أندلسي" يقف صانع الفيلم، للمرّة الأولى، على مستوى شعري- أخلاقي محض. في رسم الحبكة، استبعدنا كل فكرة ذات مفهوم عقلاني أو جمالي أو ذات ارتباط بأمور تقنية.. لأنها لم تكن تعنينا ولا علاقة لها بما أردنا أن نفعله.(..) هذا الفيلم يتلقى إلهامه ويستقي إيحاءاته من الشعر، متحررا من المنطق والأخلاقية التقليدية. هدفه أن يثير لدى المتفرج استجابات غريزية من الانجذاب والنفور.(..) لولا الحركة السوريالية لما وُجد هذا الفيلم.. ذلك لأن "أيديولوجيته"، باعثه النفسي، والاستخدام النظامي للصورة الشعرية، كسلاح للإطاحة بالمفاهيم المتفق عليها والمسلّم بها، تتوافق مع خصائص كل الأعمال السوريالية".

الوطن البحرينية في

24.02.2008

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004