أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

ثلاثيــة المــــرج البــــــــاكي (1-2)

لا أحـــــد أجلـــس معـــه ليـــلا

بقلم: أمين صالح

''ليلة أمس، حلمت أننا كنا معا نبحث عن منبع النهر، وكان يدلنا رجل عجوز. وكلما مشينا، رأينا النهر يضيق ويتفرّع إلى ألف مجرى صغير. فجأة، عالياً، تحت قمم مغطاة بالثلج، أشار العجوز إلى قطعة أرض مكسوة بالأعشاب البريّة في مكان ظليل ورطب. كل ورقة عشب كانت تحمل قطرات دبقة من الندى، والتي تتساقط، بين حين وآخر، على الأرض الطرية.

قال العجوز:'' هذا المرج هو منبع النهر''. وأنت مددت يدك ولمست العشب الرطب، وعندما رفعت يدك، تدحرجت بضع قطرات وسقطت على الأرض أشبه بدموع''.

''ثلاثية المرج الباكي''Trilogy the weeping meadow، التحفة السينمائية الأخيرة التي قدمها المخرج اليوناني العظيم ثيو أنجيلوبولوس في العام ,2004 هي تجربة سينمائية استثنائية تشكل، مع أفلامه السابقة (الأبد ويوم واحد، تحديقة يوليسيس،خطوة اللقلق المعلقة، الممثلون الجوالون.. وغيرها من الأعمال الرائعة) عالما خاصا وفريدا ومتماسكا - شكلا ومضمونا- يتسم بالحس الملحمي والسبر العميق للعلاقات الإنسانية ضمن أحداث تاريخية تتخذ من الواقع اليوناني ركيزة أساسية لها. هذا العالم، عبر رؤى أنجيلوبولوس النافذة وجماليته البصرية الآسرة، يستدعي التأمل لا الفرجة الكسولة، أن تشعر بذاتك - المغمورة بالصور المدهشة- مشدودة إلى الشاشة كما في السحر، لكن دون أن تسلبك القدرة على التأمل والتفاعل والاستمتاع أيضا لكن على المستوى الشعري والجمالي الراقي، بعيدا عن الانفعال الخارجي الطارئ. لكن مثل هذه الأعمال ''الفنية''، غير الرائجة تجاريا، لا تجذب اهتمام المتفرج الذي لا يرغب في مشاهدة أفلام صعبة، تأملية، ''مرهقة''، لا يستطيع أن يتناغم معها لأنها تصدم ذوقه وميوله ووعيه وحساسيته، وتتعارض مع كل ما اعتاد عليه من فرط إدمانه على أفلام استهلاكية، إثارة، لا تخاطب إلا غرائزه.
هنا، ولمدة ثلاث ساعات تقريبا، نعيش ملحمة أخاذة عن تراجيديا الوضع الإنساني من خلال عائلة يونانية مؤلفة من: سبيروس، زوجته، إبنهما أليكسيس، وطفلة يتيمة تبناها سبيروس تدعى إيليني. هذه العائلة، مع عائلات يونانية أخرى، تنزح في العام 1919 من روسيا، حيث كانت تقيم، هربا من الثورة البلشفية، عائدة إلى اليونان لتستقر في أرض قرب النهر، حيث يبنون قرية.

بعد سنوات، تعود إيليني إلى القرية بعد أن أثمرت علاقتها بأليكسيس ولدين توأمين (يورجي وياني) تركتهما في منطقة أخرى عند عائلة قبلت أن تتبناهما.

سبيروس، الذي حقق مكاسب مادية والذي يشعر بالوحدة بعد وفاة زوجته، يقع في هوى إيليني ويعرض عليها الزواج، غير أنها، أثناء الاحتفال بالعرس، تهرب مع اليكسيس، وبمساعدة فرقة من الموسيقيين، يسافران إلى ثيسالونيك. ويتضح أن أليكسيس لديه موهبة في العزف على الأكورديون، لكن الفرقة تجد صعوبة في الحصول على عمل وكسب الرزق. وهما لا يدركان بأن سبيروس، المتعطش للانتقام منهما، يطاردهما من مكان إلى آخر. في غضون ذلك، يجتمع شمل الاثنين مع إبنيهما التوأمين.

في ,1936 ينضم الزوجان إلى الجبهة الشعبية اليسارية. وأثناء حفلة راقصة يظهر سبيروس لكنه يموت بنوبة قلبية. الجبهة الشعبية تنسحق والفاشيون يبدأون في السيطرة على زمام الأمور. أليكسيس يقبل عرضا من قائد فرقة موسيقية بالانضمام إليهم في جولة إلى أمريكا. وحيدة مع ابنيها، تتعرض إيليني للاعتقال لأسباب سياسية (إيواء شخص من المقاومة) وتقضي سنوات الحرب في السجن.

في 1946 يطلق سراح إيليني، وتعلم بأن زوجها، الذي التحق بالجيش الأمريكي للحصول على الجنسية ولكي يتمكن من إدخال عائلته إلى أمريكا، قد لقي مصرعه في الأيام الأخيرة من الحرب. إيليني تجد المأوى عند عدد من النسوة القرويات، وهناك - قي العام 1949 - تكتشف مقتل ابنيها بعد أن انضم كل منهما إلى جبهة معادية للأخرى في الحرب الأهلية.

في المشهد الأخير من الفيلم، نرى إيليني جالسة قرب جثة ابنها يورجي تندب قائلة:'' يورجي يا بني، يا فتاي، فتاي العذب..استيقظ يا ولدي، انهض. ليس لدي أحد بعد الآن.. لا أحد أفكر فيه. لا أحد أجلس معه ليلا. لا أحد أحبه. أنت كنت هو. أنت أنت. أنت هو.'' ثم تطلق صيحة ألم وفجيعة.

إن إيليني تعيش في عوالم لا توفر لها الأمان والراحة والاستقرار، لذا نراها على الدوام في حالة رحيل، هجرة، هروب. هي تأتي إلى اليونان يتيمة بعد أن فقدت والديها أثناء الثورة الروسية، ومن القرية يتم إبعادها إلى مكان آخر تلد فيه بعد اكتشاف علاقتها العاطفية مع ابن العائلة التي تبنتها وآوتها، ثم تعود لتعيش في قرية سوف تهرب منها بعد محاولة إرغامها على الزواج من رب العائلة.. وفي رحلتها الموجعة تفقد حبيبها، حريتها، وأخيرا ولديها.

إن العالم الذي يخلقه ثيو أنجيلوبولوس، بالتعاون مع كاتب السيناريو الإيطالي الكبير تونينو جويرا (الذي شاركه في كتابة أغلب أفلامه) هو شبيه بعالم التراجيديا الإغريقية حيث القدر يرسم للمصائر دروبها الشائكة، وحيث حادثة صغيرة تجر وراءها سلسلة من الحوادث الرهيبة ومن الكوارث والمحن. وكما في التراجيديا الإغريقية، نحن لا نرى الأحداث الرئيسية في القصة: الهرب من روسيا، الولادة، تجارب حبيب إيليني في أمريكا، الحرب العالمية، الحرب الأهلية، مقتل الأبناء.. بل نسمع عن كل هذا من خلال الحوار والمونولوجات الداخلية.

إن أصداء ارتباط أنجيلوبولوس بالميثولوجيا الإغريقية ظاهرة وواضحة هنا كما في أغلب أعماله السابقة. لكن بخلاف أفلامه السابقة، تكون المرأة هنا في مركز الأحداث وفي بؤرة المنظور. والجدير بالذكر أن اسم البطلة إيليني يعني اليونان وفق الجذر أو الأصل اللغوي للكلمة الإغريقية.

يتميّز أنجيلوبولوس، أسلوبيا، باللقطات الطويلة، المديدة، التي تستغرق دقائق طويلة، والتي تدعونا إلى التأمل. وعبر هذه اللقطات، نختبر جمال الطبيعة، ونشهد حضور التاريخ وهو يمر ويترك آثاره وعلاماته.

''ثلاثية المرج الباكي'' هو الفيلم الأول من ثلاثية يزمع المخرج الكبير أن ينجزها، والتي تحكي عن تاريخ اليونان من السنوات الأولى للقرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر، ليس من وجهة نظر فرد واحد بل عبر تجربة جماعية تطرق إليها في أفلامه الأولى.

(يتبع)

الوطن البحرينية في

21.06.2006

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004