أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

مـمـلــكــة الـســمــــاء (2-2)

فقدان الإيمان واستعادته

بقلم: حميد داباشي

ترجمة: أمين صالح

إنه لأمر مدهش وغريب حقاً أن تظهر مقالتان متناقضتان، لكن تحملان موقفاً سلبياً بصورة متساوية، عن فيلم لم يشهده أحد بعد..و في الواقع، لم ينجز ويكتمل بعد. المقالة الأوروبية توحي بأن الفيلم، في رأي المؤرخين الأوروبيين، يغذي الأصولية الإسلامية وينقل ترجمة خاطئة للتاريخ  يصادق عليها ويتبناها دكتاتوريون مثل صدام حسين و إرهابيون مثل أسامة بن لادن. هذا أمر غريب جداً، فالسينما تجربة بصرية وليست أدبية. وحتى الباحثون ونقاد السينما المحترفين لا يستطيعون تصور فيلم ما على أساس السيناريو وحده. لقد كنت من بين أوائل من حضروا العرض الخاص للفيلم في نسخته التحضيرية، ورغم أنني قرأت السيناريو بعناية وحرص شديدين، كما دونت الكثير من الملاحظات عليه، مع ذلك لم تكن لدي صورة واضحة عما كنت على وشك مشاهدته. لقد حاول كاتبان أن يردا على مثل هذا النقد، لكن أحدهما انتهى إلى اضفاء مصداقية أكثر على حجة شارون واكسمان، والآخر كتب مقال بعنوان ''فرسان ريدلي سكوت الألف وواحد'' أساء فيها إلى الفيلم أكثر مما نفع. حتى تعليق ريدلي سكوت نفسه لم يكن ذا نفع في تحسين صورة الفيلم، فقد زعم بأنه لم يكن معنيا بإقلاق حساسية أي جماعة دينية، وقال:'' الفيلم يتبنى أخلاق الكشاف في الفرقة الكشفية. إنه يتحدث عن استخدام قلبك وعقلك، وأن تكون أخلاقياً. كيف يمكنك أن تدحض ذلك؟ ليس ثمة أي إهانة للقرآن، لاشيء من هذا القبيل.''

لكن في مقابلة أخرى يقول سكوت:'' الفارس كان كاوبوي ذلك العصر. كان يحمل معه درجات من العدل و الإيمان و الشهامة''. هذا اختيار سيء للمجاز، فإذا كان الفرسان رعاة بقر، فإن ذلك سوف يجعل من المسلمين هنوداً حمراً.. و مرة أخرى سوف نجد أنفسنا في ورطة.

شعوري العام هو أن أربع مدارات سلبية، و مشوشة ذهنياً، قد تولدت في ذلك الحين، حول الفيلم: المسلمون لن يعجبوا بالفيلم، المؤرخون الأوروبيون يعترضون على محاباة الأصولية الإسلامية والإرهاب، المسيحيون قد لا يبدر منهم احتجاج ( لكن لا ضمانات) وقد تعترض المنظمات الدينية على توقيته، أما دفاع المؤازرين عنه فسوف لن يفضي إلا إلى دعم اعتراضات مهاجميه.

لقد سافرت إلى لوس أنجلوس في 12 ديسمبر 2004 ، وفي اليوم التالي شاهدت الفيلم، وبعد العرض كان هناك نقاش مع ريدلي سكوت وآخرين. الفيلم يدور في نهاية القرن ,12 خلال سنوات وجيزة من السلام بين ما صار يعرف بالحملة الصليبية الثانية والثالثة. أورلاندو بلوم يؤدي دور باليان، الحداد الشاب والابن غير الشرعي لأحد النبلاء (ليام نيسون) الذي يقنعه بالسفر معه إلى ''العالم الجديد'' في القدس.. في الطريق يعينه فارسا ثم يموت بسبب مرض ألمّ به. يصل الشاب إلى المدينة و يتعهد بالولاء لملك القدس المسيحي بالدوين، المصاب بالجذام والمقمط بالضمادات، الذي يدعو إلى التسامح بين جميع الأديان. لكن عندما يقوم الفارس الماكر تمبلر جاي دي لوسينان، المولع بتدبير المكائد، بإثارة سخط السلطان المسلم صلاح الدين الأيوبي، الملتزم بمعاهدة السلام، وذلك بترتيب سلسلة من الهجمات على أفراد عائلته، وبالنتيجة تندلع من جديد العداوة بين القوات المسيحية والقوات الإسلامية، ويتوجب على باليان أن يدافع عن المدينة ضد قوات صلاح الدين.

أثناء جلوسنا في مكتب سكوت، سألني عن رأيي و طلب مني أن أتحدث بصراحة. قدمت لهم تقريرا مفصلا عن رد فعلي. المظاهر التي ناقشتها تراوحت من شخصية عماد، مؤرخ صلاح الدين في المستقبل- التي وجدتها إشكالية و تحتمل الجدل- إلى المشهد الذي تتقاطع فيه لقطات لباليان وسيبيل وهما يمارسان الحب مع لقطات لزوجها لوسنان وهو يهاجم قافلة مصرية، والذي شعرت بأنه يحتاج إلى تشذيب. كنت أيضاً أشعر بأن عدداً من الممثلين كانوا بحاجة إلى مدرب خاص باللغة من أجل الإلمام بجرس اللغة العربية التي تنطقها شخصياتهم.

تساءلت لماذا اختار سكوت عدم تصوير معركة حطين الشهيرة، التي وقعت في 4 يوليو 1187 بين دي لوسنان و صلاح الدين. هذه المعركة الرئيسية دمرت على نحو فعال القوة المسيحية و قوضت سلطتها في فلسطين، وقد شعرت بأن عرضها سيكون ضروريا للتنفيس الدرامي.

برر سكوت ذلك بأنه لم يرد أن يثقل على القسم الأخير من الفيلم بعرض الكثير من المعارك، و أنه كان يحتاج إلى مساحة لإظهار سيطرة صلاح الدين على القدس بعد إلحاقه الهزيمة بالجيوش المسيحية. لكنني كنت أرى بأن معركة حطين سوف تعزز الخاتمة الدرامية أكثر من موقعة القدس.

أما بشأن المشاهد التي تركز بؤرتها على معارضة معاون الملك- تيبيريا (جيرمي أيرونز)- و باليان للحرب، فقد اقترحت بأنها تحتاج إلى ترو وتداول أكثر في سبيل جعل قرارهما يبدو حكيما و ليس واهيا كما يبدو.

كذلك تمت مناقشة تفاصيل تاريخية و جغرافية أخرى عديدة، لكني كنت قلقا بشأن قطع صلاح الدين لرأس رينالد حليف دي لوسنان. و لقد ذكرت سكوت بأن رينالد هذا كان قد ساعد الملك في إيقاع الهزيمة بصلاح الدين في رام الله في 1177 . المؤرخون المسلمون يزعمون بأن صلاح الدين قد أقسم مرتين بأن يقتل رينالد، بالنسبة لي، القتل الحقيقي تاريخيا لرينالد في خيمته سوف توازن على نحو أفضل قتل دي لوسنان لرسول صلاح الدين في وقت مبكر من الفيلم.

أيضا ناقشنا إلى أي مدى كانت الحملات الصليبية مهمة جدا فيما يتصل بالتاريخ الأوروبي. في ذلك الوقت كان مركز الحضارة الإسلامية، في ظل الإمبراطورية السلجوقية، قد انتقل إلى الشرق، و الحملات الصليبية لم تكن أكثر من مناوشة حدودية من وجهة نظر المؤرخين المسلمين، باستثناء عماد الكاتب، مؤرخ صلاح الدين، و عدد قليل من المؤرخين. إن مفهوم الحملات الصليبية، بوصفها حدثا هاما في التاريخ الإسلامي، هو ظاهرة حديثة جدا و لا تسبق التحول في المنظور الأوروبي الذي أدى إلى نسبة الدوافع والطموحات اللاتاريخية إلى الصليبيين.

اهتمام ريدلي سكوت الأكبر كان، بالطبع، الكشف عن أي شيء معاد للإسلام في الفيلم بحيث تتم معالجته و تجاوزه. قلت له الفيلم ليس مع و لا ضد ما هو إسلامي، و ليس مع ولا ضد ما هو مسيحي. الفيلم، في الواقع، ليس حتى عن الحملات الصليبية. مع ذلك أعتبر الفيلم فعل إيمان عميق، مثلما كان فيلماه السابقان '' المطر الأسود'' Black Rain (1989) و ''المصارع''Gladiator (2000) تأملات في الإيمان.. عن فقدان الإيمان و استرجاعه. عندما عبّرت عن هذه الرؤية، طلب مني سكوت أن أشرح له الأمر.

من قراءتي للسيناريو، وجدت أن شخصية باليان تذكرني بشخصية ماكسيموس في Gladiator ، هذا الذي على نحو مماثل، يفقد إيمانه بالإنسانية عندما تتعرض زوجته وابنه للقتل. فبعد أن يفقد باليان عائلته، ينضم إلى الصليبيين تماما بنفس الطريقة التي انضم فيها ماكسيموس إلى المصارعين. و كلاهما يقومان برحلة خاصة لاستعادة الإيمان. الرحلة ذاتها جلية في العديد من أفلام ريدلي سكوت.. هذا المفتون دوما بمصير أفراد مصابين بخيبة الأمل، ومحررين من الوهم، يهجرون بيوتهم وأوطانهم بحثا عن الخلاص.

في رأيي، باليان يمثل المسيحيين والمسلمين معا. كل الأصول الدينية تتلاشى على ضوء بحثه السوداوي لإيجاد غاية نبيلة في الحياة. هو، في حد ذاته، إسقاط مجازي للبشرية كلها.

فيلم '' مملكة السماء'' ليس محرضا على العنف. إنه يوظف الحملات الصليبية كوسيلة للكشف عن القيم الإنسانية المشتركة، حتى وسط بعض من أكثر المعارك شناعة، وذات سمعة سيئة، في التاريخ.في ترجمة سكوت للأحداث، يجسد صلاح الدين و الملك بالدوين التسامح وكبح جماح العداوة. وفي المناوشات التي تسبق اللقاء بين الرجلين، و الذي فيه يعقدان اتفاقية سلام، نجد قواتهما تتحارب بنزاهة و باحترام.. بل أن صلاح الدين يظهر في انتصاره كرجل كريم ورؤوف، فهو يلتقط صليباً واقعاً على الأرض و يعيده إلى وضعه العمودي. إن مشاهد المعركة توفر فرصا للتأمل في النبالة والشهامة و الخلاص أكثر مما توفر فرصا للمتعة البالغة في رؤية تفاصيل العنف.

فيلم ريدلي سكوت يغري بمقارنته مع فيلم مثيل له أخرجه يوسف شاهين بعنوان ''الناصر صلاح الدين'' (1963) و الذي كتبه نجيب محفوظ، الروائي الفائز بجائزة نوبل، والشاعر عبدالرحمن الشرقاوي. كلا الفيلمين يسعيان إلى تصوير الملك المسلم كقائد متسامح، رائي، متحرر من الأحقاد القومية. الفيلم أيضا يذكرني بأعمال أكيرا كيروساوا في توظيفه لصراعات و نزاعات الماضي من أجل سبر أحداث راهنة، مؤلمة، مثلما يفعل المخرج الياباني عندما يوظف رعب هيروشيما عبر سلسلة من الملاحم التاريخية.

إن الحملات الصليبية توفر مجازا فعالا للنزاعات الدينية المعاصرة، و ريدلي سكوت يستحق الثناء على رغبته في الكشف عن قيم إنسانية مشتركة وسط حرب تدور رحاها في الأرض المقدسة.

أخيرا، إذا كنت قريبا أكثر مما ينبغي لرؤية زلاته أو نواقصه، فإن الآخرين الذين انتقدوه هم بعيدون أكثر مما ينبغي لأن يروا مزاياه أو فضائله.

الوطن البحرينية في

06.05.2006

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004