أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

الأبد ويوم واحد (1ـ3)

تأمل في اللغة والذاكرة وأشياء أخرى

بقلم: أمين صالح

اليوناني يثو انجيلوبولس يعد واحدا من بين حفنة من المخرجين العظام من السينما العالمية المعاصرة، وهو من اهم واشهر السينمائيين في اليونان. افلامه حازت على العديد من الجوائز الكبرى في المهرجانات العالمية، لكن خارج هذه الدوائر لا يبدو معروفا جيدا لدى الجمهور العريض وحتى بعض الاوساط السينمائية، فهو يعتبر من اولئك المخرجين »الصعبين« ذوي الرؤى العميقة الخاصة، والاكثر اثارة للجدل، انه ينتمي الى تلك النوعية الجادة من السينمائيين الذين يتعاملون مع الجمهور باحترام خال من الرياء والتملق، ناشدين المشاركة الفكرية، والتخيلية وذلك عبر بلاغة بصرية، ورؤية للحياة والعالم واعية وثاقبة.

عدم »جماهيرية« افلامه ناشئة من اهتمامها بموضوعات فكرية وفلسفية عميقة »تتمثل بالحياة والموت، الذاكرة والندم، التاريخ والهوية، الفن والغربة« وابتعادها عن الجماليات السائدة في السينما المعاصرة »بالاخص في هوليود« وعدم اهتمامها بالمؤثرات الخاصة افلامه تدعو الى التأمل لا الاثارة والتشويق. انها متزج عناصر من الكلاسيكية والحداثة، معتمدة على ايقاع مغاير يتسم بالبطء والتريث عبر لقطات طويلة تستغرق دقائق دون قطع وعبر معالجة للزمن والمكان.

قدم للشاشة عددا من الافلام البارزة والهامة: اعادة بناء »٠٧٩١ - اول افلامه« ايام سنة ٦٣ »٢٧٩١« الممثلون الجوالون »٥٧٩١« الصيادون »٧٧٩١« الاسكندر الاعظم »٠٨٩١« رحلة الى كيثيرا »٣٨٩١« مربى النحل »٦٨٩١« منظر في الدسيم »٨٨٩١«، خطوة اللقلق المعلقة »١٩٩١« تحديقة يولييس »٥٩٩١« الابد ويوم واحد »٨٩٩١«.

قال انجيلوبولوس في احدى لقاءاته: اني اتمنى الى اولئك الذين لا يتسحلون باليقين ابدا.. انهم في حالة شك دائم.. حتى عندما يكتمل الفل اني ابحث دائما.. دون توقف.

ان اي فيلم له - شأنه شأن الكبار - يعد حدثا سينمائيا هاما. في فيلمه »الابد ويوم واحد« eternity and a day، الذي حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان نرى شاعرا يدعى الكسندر »يودي دوره الممثل الالماني الكبير برونو غانز« وهو يتذكر حياته التي امضاها في عزلة وانفصال عن العالم وعن ما حوله منغمرا في الكتابة وحدها. فيما هو يستعد لدخول المستشفى في اليوم التالي مصابا بمرض خبيث قد يؤدي بحياته.

وفيما هو يهيم في شوارع مدينة تيسالونيكي، يتداخل الماضي والحاضر، الذاكرة الواقع، في تأمل مركب لكنه محرك للمشاعر على نحو حاد ومكثف.. تأمل في اللغة والموت والذاكرة والموهبة الشعرية.

بعثوره على بعض الرسائل التي تركتها زوجته المتوفية منذ سنوات تبدأ ذكرياته في التدفق مدركا الى اي حد هي احبته. ان توقه الى الاتحاد من جديد بزوجته على المستوى الروحي، يأخذ شكلا آخر، في هيئة علاقة بصبي ألباني مهاجر بطريقة غير قانونية، والذي يتعهد بمساعدته في عبور الحدود مقابل ان يجلب اليه مفردات يونانية جديدة لم يسمع بها من قبل والتي قد تساهم في تحريك الركود الابداعي الذي يعاني منه في السنوات الاخيرة. هذه العلاقة تجعله ينضج ثانية على امكانيات الحب في العالم.. حتى لو لمجرد يوم واحد فقط. وهو اليوم الذي يقضيه برفقة هذا الصبي.

ان انجيلوبولوس يوحد هنا الشخصي والسياسي، فذكريات البطل بشأن الحياة العائلية تندمة مع مراحل اساسية من التاريخ اليوناني المعاصر، ومع التأمل في قصة الشاعر الشهير سولوموس الذي كتب النشيد الوطني الذي ووحد اللغة اليونانية الحديثة ففي احداث متوازية، هو يروي للصبي قصة هذا الشاعر الذي كان يشتري الكلمات من الناس لكي يوظفها في قصائده وكيف انه »اي الكسندر« قد تخلى عن الكتابة من اجل ان يكمل قصيدة ناقصة كان قد كتبها ذلك الشاعر، والذي عاش في ايطاليا زمنا ثم عاد الى بلده اليونان وهو لا يتقن اللغة اليونانية جيدا، لذلك كان يشتري المفردات التي لم يسمع بها من قبل والتي تثير مخيلته الشعرية برنينها وفرادتها.

قبل ساعات من رحيل الصبي بالباخرة، يأخذه الكسندر في جولة ليلية عبر الباص حول المدينة، حيث يصادفان شخصيات غامضة عديدة »بينهم ذلك الشاعر اليوناني الميت« وهم يركبون الباص ويغادرون. وبعد انتهاء الجولة، يرحل الصبي فيما يقرر الكسندر عدم الذهاب الى المستشفى وانما يمضي الى الشاطئ، محدقا في البحر، ومتأملا ما مضى من حياته.

عنوان الفيلم هو اعادة صياغة لزعم اورلاندو - في مسرحية شكسبير »كما تحبها« - من ان عشقه سيدوم الى الابد ويوم واحد.

ان التوتر في السرد ينشأ في قرار شاعر يحتضر بأن يؤجل استعداداته للموت كي يشغل نفسه بمشكلة صبي لاجئ يجسد الاضطراب في دول البلقان. وهذه العلاقة العابرة تفضي به الى فهم افضل لمنفاه الداخلي الخاص كراصد مشوش لوطنه اليونان ولحياته الشخصية. وفي الوقت نفسه، فان تلك العلاقة تقربه اكثر من القصيدة التي يحاول اكمالها.

كما في العديد من افلام انجيلوبولوس، هذا الفيلم يأخذ شكل الرحلة المادية والروحية معا، تمثلا بقول الشاعر اليوناني جورج سيفريس: في البدء كانت الرحلة. ومن خلال هذه الرحلة يطرح ثيمات الفقد والبراءة، ويتحرى المشكلات والاضطرابات في دول البلقان.

بصريا، يعتمد انجيلوبولس على تلك البلاغة المتحفظة، المتوانية، لكن المغوية.. والتي تقوم على حركات كاميرا مركبة لكن رشيقة وسلسة، وعلى لوحات طقسية، ولقطات طويلة آسرة تعطل الاحساس بالزمن وتستدعي التأمل، وعلى التناغم الآسر بين الصور والموسيقى مع رؤية بانورامية يتداخل فيها الزمن والمكان والسرد والذاكرة والواقع الشخصي والتاريخ.

ثمة تباين في الاضاءة واللون بين احداث الحاضر والمشاهد التي تستحضر فيها الذاكرة ماضي الشخصية وحنينه الى زوجته، اما الانتقالات الزمنية فهي أخاذة في بساطتها وتدفقها السلس فيما البطل يتحرك داخل وخارج ماضيه ويحيا من جديد لحظات من السعادة كان قد استخف بها سابقا او نسيها.

ان مشاهدة افلام انجيلوبولوس هي تجربة منعشة، ورحلة سينمائية مدهشة نختبر فيها الحياة من زاوية مختلفة وبعين طرية، وخلالها نطرح الاسئلة عن وجودنا في هذا العالم.

ولإلقاء المزيد من الضوء على الفيلم من جهة، وعلى عالم انجيلوبولوس من جهة اخرى،سوف ننشرها وفي عدد لاحق ترجمة لما قاله المخرج عن فيلمه وعن عالمه السينمائي.

(يتبع)

الأيام البحرينية في

02.01.2005

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004