أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

عشرة..

أن تحب المرأة نفسها أكثر

بقلم: أمين صالح

عبر أفلامه الهامة والمتميزة، يسعى المخرج الايراني عباس كيارستمي الى خلق نوع جديد من السينما، سينما لا تعتمد عل حبكة أو أحداث دراماتيكية أو مؤثرات خاصة وحيل بصرية أو ميزانية ضخمة أو نجوم محترفين، انها سينما متقشفة لكن عميقة في الرؤية، تعتمد على اظهار التناقضات والمفارقات -الصارخة والكامنة أو المموهة- فيما هي تحتفي بالحياة اليومية، وتدعو الى التأمل والتفكير، نائية عن الحالات الوجدانية الميلودرامية.

كيارستمي لا يحقق أفلامه للاستهلاك بالمعنى السلبي المعتاد، لكن يحرض جمهوره على التفاعل والتفكير والمساءلة، ان يصبح مشاركاً بفعالية في الفعل الابداعي، كل أفلامه تقتضي التأويل عبر مستويات متعددة، وهو يدحض فكرة ان يكون لأعماله معنى ثابتاً واحداً، ويرفض ان تكون هناك قراءة نهائية للفيلم، انه يتحاشى النمطية والمغالاة في التبسيط، مبتعداً عن الروح التقليدية التي تحكم الأعمال السائدة.

بفيلمه »عشرة TEN« يخوض كيارستمي تجربة جديدة ومغايرة لكل التجارب التي يقام بها من قبل، على مستوى التقنية والمحتوى، ومختلفة عن اي تجربة سينمائية تحققت على الشاشة العالمية.

فيلمه هذا، الذي لم يخرجه فحسب، بل كتبه وأنتجه وصوره وتولى مونتاجه بنفسه، هذا الفيلم مصور بأكمله بكاميرا فيديو ديجتال »رقمية مثبته طوال الفيلم« »باستثناء لقطتين« داخل سيارة، مركزة بؤرتها مرة على السائقة »بطلة الفيلم« ومرة على الراكب الجالس الى جوارها في المقعد الامامي، بالتالي فليست هناك حركة كاميرا، الكاميرا لا تتحرك أبداً ثابتة لكن من زاوية مختلفة في كل مرة، ففي استخدام الكاميرا، لا يلجأ كيارستمي الى الاسلوب التقليدي او الكلاسيكي في تركيز الكاميرا على المتكلم فقط بل يركز لفترة طويلة على شخص ما بينما نسمع الآخر يتكلم دون ان يظهر على الشاشة، بعد ذلك يعكس الأمر بحيث يظهر الآخر، وهكذا.

الفيلم يتألف من »عشرة« فصول او مشاهد مرقمة، كل فصل عبارة عن جولة مستقلة بالسيارة تقوم بها السائقة مع شخص ما ولغرض معين عبر شوارع طهران.

في الجولة الأولى يركب السيارة صبي »هو ابنها« لم يبلغ بعد مرحلة المراهقة وسرعان ما يدور بينهما حوار، حافل بالغضب والأسى والشفقة والصبر، عن طلاقها من أبيه منتقداً زوجها الحالي ومتهما اياها بالأنانية والغطرسة وعدم احترام مشاعره، ونحن طوال الوقت. لا نرى المرأة التي تقود السيارة لكن نسمع صوتها، وهي تحاور ولدها وتشرح له سبب طلاقها وتحاول اقناعه بوجهة نظرها وتصيح في غضب متحدثة عن الكوابح والقيود التي يفرضها المجتمع على النساء.

وتعاطفنا هنا يتأرجح من أحدهما الى الآخر، وعندما يغادر الصغير نراها أمرأة شابة وجميلة جداً »تؤدي دورها مانيا أكبري في أول ظهور لها على الشاشة، وقد أخرجت هذا العام فيلماً شاركت به في مهرجان فينيسيا، ونعلم فيما بعد ان هذه المرأة مثقفة، تمارس الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وهي ميسورة الحال، واثقة من نفسها، مستقلة التفكير، منفتحة ومتحررة داخلياً، لكنها -رغم ذلك- تشعر بأنها لا تحتل الا مركزاً هامشياً في هذا العالم المعادي.

في الجولات التالية نراها توصل اختها الى البيت وتتحدث معها عن مشاكل تربية الاطفال وتوصل امرأة عجوزاًـ الى أحد الأضرحة لتأدية الصلاة، وليلاً، أثناء توقف سيارتها، تصعد -عن طريق الخطأ- مومس »معتقدة أنها رجل« ومعاً تتناقشان في شئون المرأة وأسباب ممارستها الدعارة وموقفها من الحب والجنس والزواج، وهذا المشهد أو الجزء جريء للغاية رغم أننا لا نرى المومس على الاطلاق بل نسمع صوتها فقط والجرأة لا تكمن فقط في النقاش الحر والمباشر بل في تصريح المومس بأنها تحب عملها وتفعل ذلك عن اقتناع ورغبة، وأنها لا تشعر بالذنب تجاه ما تفعله.

الى جانب الجرأة في تناول القضايا الجنسية الحساسة، فإن كيارستمي، من خلال شخصياته، يفضح الامراض والعلل الاجتماعية مثل: قوانين الطلاق الجائرة، الشوفينية الذكورية، الرياء الاجتماعي، كما يستجوب ما هو مقدس وما هو مدنس في المجتمع الايراني المعاصر.

ومن أكثر الجولات تحريكاً للمشاعر عندما تركب معها امرأة شابة، حليقة الرأس تماماً، كانت تخشى ان يخذلها خطيبها أو صديقها ويتركها ولأن كيارستمي طوال الفيلم كان يحرص الا يظهر شخصيتين في الكادر، الا انه في هذا المشهد نرى الاتصال الجسماني، الذي يعبر عن التعاطف العميق، حيث تظهر يد السائقة وتمتد لتمسح دموع هذه الشابة المخذولة.

من خلال هذه اللقاءات، وعلى نحو تدريجي، نلتقط ايماءات وتلميحات دقيقة بشأن المرأة، حياتها مشاعرها، مواقفها والاستنتاجات التي نتوصل اليها »ان تحب المرأة نفسها أكثر والا تعتمد في تحقيق سعادتها على رجل واحد« وكذلك »الرجال يريدون امرأة تطبخ وتغسل وتنظف لا امرأة ذكية ومستقلة وتمارس مهنة ابداعية«، ايضاً في ردها على اتهام ابنها لها بتلفيق تهمة تعاطي المخدرات لأبيه كي تحصل على حق الانفصال، فتقول مدافعة عن نفسها بان القوانين الفاسدة التي يطبقها هذا المجتمع لا تعطي للمرأة اية حقوق، بما فيها حق الطلاق، لذلك تضطر المرأة الى اختراع او تلفيق تهمة تعاطي المخدرات او التعرض للاعتداء الجسدي كخيار وحيد امامها لكي تتم الموافقة الشرعية على منحها حق الانفصال.

وتجدر الاشارة الى انها المرة الاولى التي يركز فيها كيارستمي بؤرته على ا لمرأة، واضعا اياها في المحور، وليظهرها في مختلف حالاتها من التوتر والمرح والصبر والسخرية والدهشة، وليلقي الضوء على مختلف اشكال معاناتها.

نحن هنا امام شظايا، اجزاء، عند جمعها ولصقها تشكل رؤية شاملة لوضع المرأة لكنها قابلة للتأويل حسب مفهوم كل متفرج فالمخرج يتحاشى اصدار حكم على شخصياته وسلوكها وافعالها بل يدعها تقول ما لديها وتعبر عما تفكر فيه وتشعره.

ان اعمال كيارستمي تتأرجح او تقف في المنطقة الواقعة بين الدرامي واللادرامي، القصصي والوثائقي او ارتياد الحد الضيق بين الوهم والواقع.. كما نجده في افلام سابقة مثل: عبر اشجار الزيتون »٩٨٩١« والحياة تستمر »٢٩٩١« ولقطة قريبة »٤٩٩١«.. حيث تداخل الاحداث الدرامية مع تمثيل هذه الاحداث او التعليق عليها، وحيث الاستعانة على الدوام بممثلين غير محترفين او لم يسبق لهم الوقوف امام الكاميرا.

قبل ان يصور فليمه »عشرة، اجرى كيارستمي لقاءات عديدة مع افراد عاديين طلب منهم ان يسردوا له شيئا عن حياتهم وعن تجاربهم، ومن بين هؤلاء اختار اولئك الذين ظهروا في الفيلم واجرى حوارات معهم، بعدها قرر الموضوعات التي يريد منهم التحدث عنها وادخلها في فيلمه.. لذلك من الصعب التمييز بين الاجزاء المخطط لها بدقة وتلك العفوية او المرتجلة من النظرة الخارجية، وعند مشاهدة مجريات الفيلم، يتكون انطباع بعدم وجود مخرج وراء تكوين واداء المشاهد، وقد يؤكد هذا الانطباع غياب المخرج الفعلي عند تصوير المشاهد، وبالتالي كان الفيلم المنجز ثمرة اعداد وتحضير ونقاش واسع، ثم جاءت مرحلة المونتاج حيث تم اختزال ٣٢ ساعة من التصوير الفعلي الى ٤٩ دقيقة، هي مدة الفيلم المعروض. لقد تحدث كيارستمي عن رغبته في جعل الاخراج نفسه يتوارى ليتيح »لممثليه« الاستغراق كليا في شخصياتهم دونما إلهاء او توجيه، هذه الشخصيات التي غالبا ما تتنامى بالرجوع الى تجاربهم الخاصة، افكارهم ومشاعرهم وعواطفهم. وعدم الإلهاء هذا يشمل المتفرج الذي سيكون، وفق ما يريده كيارستمي، على اتصال مباشر بالافراد القاطنين على الشاشة، دونما وسائط قد تشوش او تربك او تحرف هذا الاتصال مثل: حركات كاميرا هائجة، او موسيقى تملي مشاعر غير متناغمة مع المواقف او مونتاج يستعرض امكانياته اكثر مما يتناسق مع التلقي المباشر.

لكن هذا الغياب لا يعني الانفلات والفوضى والترهل بل اننا نشعر - رغم ذلك بالحضور القوي للمخرج. بوصفه المنظم والمتحكم والمسيطر على مادته وايقاع عمله من خلال المونتاج من جهة اخرى، فان الاحداث والشخصيات التي لا تظهر على الشاشة هي ليست أقل أهمية من تلك التي تظهر على الشاشة.

ان كيارستمي في اغلب اعماله يستجوب ماهية السينما ومعناها بل ان بعض النقاد يرون بان كيارستمي يعيد اختراع السينما، كما فعل الفرنسي جودار في الستينيات، عبر سبر العلاقات بين المخرج والممثل والمتفرج، واعادة النظر في الادوات الفنية والمفاهيم السينمائية السائدة.ان استخدام كيارستمي للكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس من باب التغيير او اتباعا لموضة ما او لاستثمار التكنولوجيا كمؤثر ابهاري، بل هو نابع من حاجة فنية، اذ ليس من الممكن عرض مثل هذه »الواقعية« بدون تقنية جديدة، فالكاميرا الرقمية سوف لن تعوق الممثلين (الشخصيات) ولن يشعروا بوجودها مثلما يحدث مع الكاميرات العادية، لقد استفاد من امكانيات الكاميرا الرقمية في التعبير عن رؤيته الفنية والفكرية عندما تعزل الكاميرا الشخصيات في الكادر ولا تضمهم معاً - عبر استخدام زوايتين ثابتتين - قد يكون انعكاسا مباشرا للعزل الذي يعانيه الافراد في الحياة اليومية بسبب القوانين الاجتماعية او غيرها التي تمزق الروابط الانسانية وتفرق البشر عن بعضهم البعض. افلام كيارستمي، في اغلبها، هي عبارة عن رحلات »بالسيارة« يقوم بها شخص اما بحثاً عن صبي (كما في فيلم: والحياة تستمر) او عن عجوز مريضة (كما في: الريح سوف تحملنا) او عن مكان للانتحار (كما في: طعم الكرز)، واذا كانت الرحلة، في تلك الافلام، تظهر المناظر الطبيعية، المثيرة بصريا، ففي هذا الفيلم - الذي هو عبارة عن رحلة مؤلفة من عشرة فصول قصيرة لا تظهر الكاميرا اي منظر طبيعي، خارجي، حيث البؤرة مركزة هنا على الوجوه والايدي بداخل السيارة.

في حديث للممثلة مانيا اكبري (جريدة الحياة - ٦٢ سبتمبر ٢٠٠٢)، التي تجسد في هذا الفيلم تجربتها الخاصة، تشير الى خاصيات وسمات سينما كيارستمي قائلة: »الدور الذي قمت به هو ثمرة تعاون بيني وبين المخرج عباس كيارستمي (..) لقد رسم كل هذه الشخصيات التي تتقاطع وتتبادل الادوار في ما بينها، وجمعها بطريقة يختلط فيها الواقعي والمتخيل لكسر رتابة الايقاع اليومي لبطلته، (...) التكرار سمة من سمات سينما كيارستمي كونه ينتقي شخصياته من الواقع الحياتي، ولهذا تجد منحى توثيقيا في تشكيل شخصياته ورسمها، اي انه اراد ايجاد معادلات واقعية لحال المرأة الايرانية، وعبر تنوع التقاطعات وعلى رغم تكرارها، تكبر الصورة وتتكثف الفكرة، فكل شخصية لها قصتها وخيبتها مع الحياة«.

الأيام البحرينية في

28.11.2004

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004