لكي نفهم عملية التدمير التي مارستها ـ ولا تزال ـ السينما الحديثة، يتعين علينا أن نتخطى لا الفيلم فحسب بل الفن عموماً، من أجل أن نسبر تحولات النظرة العالمية فيما يتعلق بمسألة فهم العالم وتفسير الظواهر الكونية، حيث أن هذا يساعدنا على إدراك الطبيعة التدميرية للسينما والتي ترتبط بالاكتشافات العلمية وتطوراتها، بالفلسفة، بعلم النفس، بالسياسة، بالتاريخ، وبكل ما يشكل النسيج الذي يستمد منه الفنان مادته في الخلق والإبداع. 

إننا ندرك الآن أن الحقيقة هدف لا يمكن إحرازه، فنظرية الكم والنسبية حولتا "السبب" و"النتيجة" إلى احتمالات إحصائية، إذ أن العالم الذي نراه ليس هو العالم الحقيقي وإنما عالم اصطلاحي مسيَج بالرموز التي يختلقها العقل لكي نتمكن من تمييز الأشياء، فجميع الأحكام التي نطلقها على الأشياء هي أحكام نسبية وليست حقيقية، وهذا يرجع إلى محدودية حواسنا. إننا نؤكد، في الوقت الحاضر، على الطبيعة الذاتية لجميع التجارب بدلاً من الاعتماد على ما يسمى بصورة العالم "الموضوعي" معرفتنا بالعالم تتشكل في البداية عن طريق حواسنا التي هي بدائية، مضللة، ومحدودة. والانفصام بين الإدراك الحسي والمعرفة صار جلياً في وقتنا الحاضر بشكل يصعب احتماله. لقد اكتشفنا أن الأشياء "الصماء" التي تحيط بنا ما هي إلا كتل من الإلكترون والبروتون والنيوترون وجسيمات أصغر من الذرة، وإن الرائحة والصوت واللون والمذاق ليست متضمنة في صلب هذه الأشياء بل تتصل بالشخص الملاحظ، وذلك لأن الخلايا العصبية في قاع العين هي التي تلوِن الأشياء، وأن الألوان التي نشاهدها لا وجود لها أصلاً وإنما هي موجات ضوئية مختلفة الطول وذبذبات ذات ترددات متفاوتة لا تستطيع العين رؤيتها بل تتأثر بها الخلايا العصبية لكي تترجمها مراكز البصر في المخ على شكل ألوان. كذلك الأمر بالنسبة لطعم الأشياء، ورائحتها وملمسها وشكلها وحجمها، حيث لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونتذوقه وإنما هي مجرد صورة رمزية للمؤثرات المختلفة التي صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة.

أما بالنسبة للبصر، فإن أعيننا حساسة فقط تجاه ذلك الجزء من الطيف الواقع بين الأحمر والبنفسجي، أما الأجزاء الباقية من النسبة التي تصل إلى 95% من الضوء الموجود (والذي يشتمل على الأشعة الكونية، تحت الحمراء، فوق البنفسجية، أشعة جاما، وأشعة إكس) فإننا لا نستطيع أن نراها البتة، وهذا يعني أننا نرى فقط 5% من العالم "الحقيقي".

كذلك اكتشفنا العلاقة الوثيقة بين الكتلة والطاقة وقابليتهما للتحول، وقد برهنت هيروشيما على صحة ذلك، حيث أن عملية تحويل الكتلة إلى طاقة هائلة أدت إلى إنتاج القنبلة الذرية.

إن ما نسميه "الحقيقة" ما هي إلا رؤية متحيزة وتحريفية للعالم "الحقيقي". والتجارب الجديدة التي قام بها روبرت ليفنجستون في مختبر البحوث العقلية بجامعة كاليفورنيا قدمت برهاناً واضحاً على أن الفرد يعيد تنظيم رؤيته للعالم كي تتوافق مع خبرته ومعاناته واكتشافاته، وأن أشخاصاً مختلفين "يرون" عوالم مختلفة.