Our Logo

 سيرةجديد عبدالقادركــتـــابـــة  

 

مبدعون في سينماتك

تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

سجل الزوار

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

كتابة

 

التلفيق الأيديولوجي في فيلم

الشبح الضاج  POLTERGIEST

بقلم: دوغلاس كيلز     ترجمة: عبدالقادر عقيل

تطرح أفلام المخرج ستيفن سبيلبرغ التصورات الإيديولوجية للطبقة الوسطى المترفة في أمريكا. ففي فيلم (الفك المفترس) يصور تحول المقدم " برودي "  من رجلٍ متناقض مع الآخرين، وعاجز عن منع الفساد الاقتصادي والسياسي في الجزيرة، وعاجز عن التخلص من سمك القرش، إلى بطل الطبقة الوسطى المنقذ، الذي يقتل بنفسه سمك القرش، ويعيد النظام للمجتمع، وأصبح " برودي " بذلك أول أبطال سبيلبرغ المنتمين للطبقة الوسطى.

ومع ان رواية (الفك المفترس) تبرز التنافر الجنسي، والطبقي بين " برودي "  وزوجته، إلا ان الفيلم يصور تقاربهما وحبهما ليقدم أولى تصورات سبيلبرغ المثالية عن مكانة العائلة عند الطبقة الوسطى.

ومع ان فيلم (لقاء قريب مع النوع الثالث CLOSE ENCOUNTER WITH THE THIRD KIND) 1977 يبين لنا انفصال ريتشارد دريفوس عن عائلته، ويصور هذا الفصل، مجازياً، على انه ناتجٌ من أحداث وقوى خارجة عن سيطرة العائلة، إلا ان فيلمي (الشبح الضاج  POLTERGIEST ) و (إي .تي E.T. ) يطرحان، بإتقان، الرؤى المثالية للعائلة، ولسكان الضواحي المنتمين للطبقة الوسطى.

لقد أصبح سبيلبرغ المؤرخ السينمائي، الأكثر فاعلية، لأسلوب حياة الطبقة الوسطى المترفة، وللمباهج والمخاوف في المجتمع الأمريكي المعاصر.

إن أفلام مثل ( لقاء قريب مع النوع الثالث) ، (الشبح الضاج) ، (إي . تي) تصوّر، بأسلوب محبب، حياة الرفاهية التي يوفرها المجتمع الاستهلاكي.

في (الشبح الضاج) و (إي . تي) نرى الترف المتزايد في بيوت سكان الضواحي المقسمة، وما يوجد بها من وسائل إلكترونية متقدمة ولعب وأدوات وآلات.

إن سبيلبرغ يمجد أسلوب الحياة هذه، ويجيز لنا أن نوصفه على إنه المتحدث المهيمن باسم القيم والوظائف الاجتماعية للطبقة الوسطى.

أكثر ما يلفت الانتباه في أفلام سبيلبرغ الأخيرة هو الإسقاط الرمزي للمخاوف، واللااستقرار في المجتمع الأمريكي المعاصر.

في (لقاء قريب مع النوع الثالث) يصوّر، مجازياً، خوف أحد أفراد العائلة من فقدان وظيفته وبيته. ويتضمن الفيلم توقاً خفياً نادراً للخلاص والتحرر من المشاكل المعاصرة بواسطة الكائنات الفضائية الأخرى. وهذه الثيمة تتواصل في (إي . تي) ، ولكن بوضوح أكثر في القالب الروائي منه في القالب السينمائي.

إن الفيلم بتصويره للصحون الطائرة، والمخلوقات الغريبة، فانه يعيد رموز الخيال العلمي، التي انتشرت في الخمسينيات، حيث كانت تظهر الكائنات الغريبة على إنها وحوشٌ تهدد الجنس البشري.

إنما أفلام ( لقاء قريب مع النوع الثالث) و (الشبح الضاج) و (إي . تي) فانها تقدم فانتازيا توحي بأن القوى المتعاطفة، بطريقة ما، ستقلل من المخاطر التي تهدد أمننا وكينونتنا.

أيديولوجياً، تجتاز أفلام سبيلبرغ حقولاً متناقضة في أفلام مختلفة، وحتى في مشاهد مختلفة في الفيلم الواحد، ولكنها كلها تمجد وتجيز مؤسسات الطبقة الوسطى الأمريكية، وأساليب حياتها، أو هي تتوق للسمو الروحي، أو كلاهما.

فيلم ( إي. تي) يحرك الكائن الغريب ليلقي الضوء على سلع ومباهج عائلة تقيم في ضاحية من ضواحي الطبقة الوسطى، دون اهتمام كبير بقانون الأب. والفيلم يصور التحالف بين الطبقة الوسطى، والقوى الغريبة المتفوقة، ويعيد طمأنة الطبقة الوسطى على قيمها، ووسائل حياتها، ويقدم لها فانتازيا تؤكد على ان القوى الغريبة، أو القوى الأخرى ستكون ودودة، وغير خطيرة.

في الجانب الآخر، يسبر فيلم (الشبح الضاج) مخاوف الإنسان بشكل عام، ومخاوف المجتمع الأمريكي المعاصر بشكل خاص ..  انه يعرض الجانب المعتم من حياة سكان الضواحي في قالب كابوسي .. دون أن يغفل عن الرؤية اليوتوبية للعائلة المتكاتفة والمتحدة في وجه المحن، وانتصارها النهائي على القوى الشيطانية.

إن الفيلم، بعرضه للمخاوف الأمريكية، وطرق الانتصار عليها، فانه يقلل من شأن نوعية الكوابيس اليومية في معرض الرعب الأمريكي .. وبتصويره المحبب لمساكن الطبقة الوسطى، وبضائعها، ولعبها، وأدواتها الإلكترونية، فانه يعلن لطريقة الحياة الأمريكية السعيدة حسب شروط أسلوب حياة الطبقة الوسطى الاستهلاكية. وعلى هذا، فان سبيلبرغ يقدم تلفيقات فانتازية ذكية وليس تسليات فانتازية خالصة كما يدعي المدافعون عنه .

إن أفلامه تبني، بعناية، وسائلها الأيديولوجية، ويخطط لها بالتفصيل، مع نماذج قصصية مدروسة، ويعتني جيداً بالسيناريوهات، ويحسب جيداً للمؤثرات الخاصة الجذابة.

قد يكون سبيلبرغ، أو قد لا يكون، واعياً لكونه أصبح منظراً أيديولوجياً،  إلا انه بالتأكيد يستمد هذه الأيديولوجية من انتمائه للطبقة الوسطى المترفة، ويروق له إعادة تكوين أساليب حياتها.

هنا أريد أن أختبر فيلم (الشبح الضاج) لما يظهره من مشاكل المجتمع الأمريكي المعاصر، ومن حيل سبيلبرغ الأيديولوجية. يحاول الفيلم التأثير على المشاهدين بتخطيط بارع، وذلك من خلال الصدمات السريعة، المؤثرات الخاصة، المشاهد المرعبة، التصوير العاطفي للحب العائلي، التوكيد على الحضور التكنولوجي، والأخصائيين والقوى الروحية.

سأركز أولاً على الخطوط العامة لفيلم (الشبح الضاج) وثيماته الأيديولوجية، ثم أعكس الضوء على الإشكالية الأيديولوجية عند سبيلبرغ واستخدامه السحر.

تلفيق أيديولوجي بارع لعصرنا:

فيلم (الشبح الضاج) يصور تجربة عائلة فريلنغ في مواجهة روح شريرة تسكن بيتهم وتخطف ابنتهم، ومواجهة الجثث التي تعود إلى الحياة وتدمر بيتهم. الفيلم يستخدم كل الأساليب التقليدية لأفلام الرعب الشيطاني، التي هي الآن النوع الأكثر رواجاً في هوليوود، ليستكشف المواقف النفسية والاجتماعية لسكان الضواحي المنتمين للطبقة الوسطى.

تتكوّن العائلة من الأب ستيفن فريلنغ، وزوجته ديان، وابنته المراهقة دانا، التي هي أكثر تعلقاً بصديقاتها من عائلتها، وابنه الفتى روبي، وطفلته الصغيرة كارول آن، التي هي في الخامسة من عمرها، وأول من يقيم اتصالاً بالشبح الضاج. هذه العائلة تقيم في أولى البيوت المبنية في القسم الأول من مشروع إسكاني يدعى " كوستا فيستا " . ويعمل الأب ممثلاً لمبيعات الشركة العقارية التي تنفذ المشروع، وهو ناجح جداً في عمله، إذ باع 42 في المائة من وحدات الإسكان في المنطقة درت أرباحاً تقدر بسبعين مليون دولار حسب ما يقوله رئيسه.

المشاهد الأولى من الفيلم تصور محيط عائلة فريلنغ، وتكشف عن العلاقة الحميمية، والتقارب الودي، بين الأم والأب / الأبوين والأطفال. ان قوة الفيلم تستمد من تصويره لتكاتف العائلة معاً في مواجهة القوى التي تحاول تمزيقها. ومثل هذه الفكرة الإيجابية للعائلة باتت نادرة جداً في هوليوود، التي استعاضت عنها بتمجيد حياة الزوجين، أو أحد الأبوين (عادة ما يكون الأب) ، أو انها حللت الحياة العائلية والزواج بالسخرية والتهكم (أفلام روبرت إلتمان وودي ألن) . لذا فان فيلم (الشبح الضاج) يقدم السلوان، ويؤكد ان بوسع العائلة أن تقف كمؤسسة قابلة للاستمرار حتى في محيط المشاكل المعاصرة. انه أحد الأفلام القوية النادرة التي تدافع بصراحة، ومن غير مواربة، عن العائلة.

السلام الذي يخيم على عائلة فريلنغ سرعان ما يتقوّض بحضور الشبح الضاج. في البدء يظهر فقط للصغيرة كارول آن من خلال التلفزيون، وسرعان ما يبدأ بعد ذلك بتدخلات أكثر فاعلية، فهو يهز البيت، ويوقف الآلات، ويلوي أواني المطبخ، ويجعل الكراسي تعبر وحدها الأرضية. انني أعتقد ان هذه المشاهد إنما أريد منها تمجيد السلع المحببة للطبقة الوسطى، وإظهار سخاء المجتمع الاستهلاكي.

أثناء الليل يصبح الشبح الضاج أشد خطورة. وفي منتصف عاصفة رعدية تهاجم شجرة ضخمة الفتى روبي وتمسكه بفروعها وتخرجه من نافذة حجرة نومه، ويتمكن والده بصعوبة من استرداده من قوى الطبيعة الغاضبة.  في هذه الأثناء تختفي الطفلة كارول آن، ويستبد الذعر بالعائلة.

يذهب الأب بعد ذلك إلى ستانفورد، ويستدعي فريقاً من علماء النفس، المختصين في علم التخاطر، ليحققوا في هذه الظاهرة. وهذا الفريق بدوره يستدعي امرأة روحانية قصيرة جداً، التي تقوم بإطلاع العائلة على كيفية التعامل مع الشبح الضاج، وكيفية استرداد الابنة. وبتوجيه منها تدخل الأم إلى عالم الأرواح لإنقاذ ابنتها معربة بذلك عن عميق حبها واهتمامها بابنتها.

إن الأم تظهر كمحور مناقبي في الفيلم، وفي العائلة. ويقدم فيلم (الشبح الضاج) الصورة الإيجابية للأم الجديدة ممثلة في ديان فريلنغ التي بإمكانها أن تتعاطى المخدرات، وتكون امرأة جنسية وعصرية، وتكون في نفس الوقت زوجة حنونة، وأماً مثالية.

واستجابة لانتقادات الحركات النسائية حول " مكانة المرأة "  فان سبيلبرغ يقدم صورة الأم، التي من المفترض أن تتولى وظائفها التقليدية، بينما هي تستمتع بترف الطبقة الوسطى ، لذا فالفيلم يشجع، بذكاءٍ، الوظائف والمؤسسات التقليدية، في حين يعرض تهديداً، رمزياً، للجنس البشري.

تتوالى أحداث الفيلم، ونرى البيت ومحتوياته وقد أصابه الدمار. في البدء نرى محتويات البيت تتطاير وتتكسر وتتحطم، وأخيراً يصاب البيت كله بالتدمير. هذه المشاهد تبرز مخاوف فقدان المرء لبيته في زمن تزداد فيه نسبة البطالة والتضخم ويتدهور فيه الاقتصاد.

يثير الفيلم الرعب بمراقبة الأشياء المحببة للنفس وهي تتبعثر، ومشاهدة الرموز النظامية للطبقة الوسطى وهي تتحطم. وتقدم نهاية الفيلم تلفيقاً حين تبتعد العائلة عن خراب الضاحية المترفة مع التوكيد المريح بأن الشبح الضاج قد هزم وبان العائلة لا تزال متماسكة وبأن كل شيء سيكون على ما يرام.

إن "تعليل" سلسلة الاضطرابات التي أحدثها الشبح الضاج هو ان الشركة العقارية، التي يعمل بها الأب، قد بنت مشروعها الإسكاني على مقبرة، بعد أن أزاحت شواهد الأضرحة دون إزاحة الجثث.  وفي النص الغامض للفيلم تهيم أرواح الموتى في الأرجاء وهي غير قادرة على ترك المطهر للالتقاء بضوء الفردوس الأبيض، وهي غاضبة بوضوح من انتهاك قدسية القبور.

بعد أن تدمر الجثث، رؤيوياً، البيت المبني على المقبرة، يصرخ ستيف في وجه رئيسه: " لقد أزلت المقبرة ولكنك تركت الجثث، أليس كذلك، لقد تركت الجثث يا ابن الزانية ، وأزلت فقط الشواهد ".

مثل هذه الحبكة المبتكرة تسلط الضوء على الثيمات الانتقادية في أفلام سبيلبرغ، وتسمح لنا أن نحدد، بدقة أكثر، إشكاليته الأيديولوجية. فمن المؤكد لنا في الفيلم ان الشرير هو مالك العقارات الجشع الذي أهمل دفن الجثث توفيراً للوقت والمال. وبشكل مشابه وجدنا هذا الشرير في (الفك المفترس) ممثلاً في المؤسسة التجارية - السياسية الفاسدة التي تضع مصالحها الاقتصادية فوق سلامة الناس وراحتهم. 

ان سبيلبرغ لا يدافع عن الطبقة الرأسمالية، أو الصفوة الاقتصادية والسياسية، بل هو يميل إلى انتقاد الدولة والمؤسسات السياسية. ففيلم (لقاء قريب مع النوع الثالث) كان بالأساس فيلماً عن فضيحة الصحون الطائرة على الطريقة الوترغيتية حول ما أشيع عن كتمان الدولة لمعلومات عن الصحون الطائر . هذه الثيمة استبدلت في الفيلم، ولكن ظلت السلطات الرسمية كما هي خطيرة وشريرة نوعاً ما في الفيلم. وبطريقة مماثلة فان فيلم (إي . تي) ينزع نحو تقديم عالم الكبار، وعلى الأخص السلطات الرسمية، من خلال لقطات مأخوذة من أسفل، أو من زاوية منخفضة، خصوصاً في مشهد إي. تي. والأطفال. وهكذا، فالسلطات الرسمية عادة ما تظهر شريرة وخطيرة، حتى في مشهد النهاية حين تظهر على أنها كانت تحاول إنقاذ إي. تي من الموت.

إن سبيلبرغ يدافع عن أيديولوجية الطبقة الوسطى، ولكن ليس عن المؤسسات السياسية والاقتصادية، واستراتيجيته هذه تفضح عن الأزمة الأيديولوجية في أمريكا، حيث أكثر منظريها قوة وفاعلية،  العاملين في صناعة السينما، لا يستطيعون، أو لا يلفقون تلفقيات أيديولوجية لإضفاء الشرعية على ممارسات النظام الاقتصادي والسياسي. إن إضفاء الشرعية في هذا الميدان كان بالتحديد إنجازاً أيديولوجياً في كثير من أفلام هوليوود القديمة، إنما الآن لم يعد لدى الرأسمال والدولة أي مدافعين أيديولوجيين ناجحين في هوليوود، وإن كان يوجد لها شبكات التلفزيون، ولكن نجاحها متناقض ومشكوك فيه.

سبيلبرغ والسحر:

معظم أفلام سبيلبرغ الناجحة من (لقاء قريب مع النوع الثالث) إلى (الشبح الضاج) تتقاسم مسألة انبعاث السحر .. هذه المسألة التي هيمنت على هوليوود والمجتمع الأمريكي منذ نهاية الستينيات. فالأفراد حين يدركون بأن لا سيطرة لهم على حياتهم فانهم ينجذبون إلى السحر. وفي أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية حين يعجز الناس عن فهم الواقع الاجتماعي فان السحر يبدو أداة فعالة لتفسير الأحداث التي لا يسبر غورها، وذلك بمساعدة الميثولوجيات الدينية أو الروحانية.

إن معظم أفلام السحر الجديدة استفادت منها أشد الأيديولوجيات رجعية (على سبيل المثال فيلمي " طارد الأرواح الشريرة "  و " البشير ") في حين ان مخرجين آخرين أمثال جورج روميرو، ويس كرافن، و لاري كوهين استفادوا من السحر في طرح رؤاهم الانتقادية للمجتمع الأمريكي. أما استخدام سبيلبرغ للسحر فلا يمكن أن يصنف على انه محافظ - رجعي، أو على انه نقدي - تدميري، ولكن بالتأكيد هو استخدام موسوم بالغموض الذي يميز الإشكالية الأيديولوجية عند سبيلبرغ بوجه عام.

من جانب آخر، يستخدم سبيلبرغ السحر لإبراز المخاوف العصرية العقلانية: فقدان المرء لبيته، التمزق العائلي، الخوف من الأمراض والتفسخ الجسدي. وعلى سبيل المثال فان أحد أكثر المشاهد رعباً في (الشبح الضاج) تظهر العالم الشاب من ستانفورد وهو يدخل المطبخ ويأخذ شريحة لحم من الثلاجة ثم نرى قطعة اللحم وهي تخضع لما يشبه الانبثاث السرطاني وإفراز أعضاء غريبة أمام أعيننا. وحين يذهب العالم المذعور إلى الحمام ليغسل وجهه وينظر إلى المرآة فاننا نرى وجهه وقد أصيب بالتفسخ التام.  ومع ان هذه الهلوسة سرعان ما تتلاشى، إلا ان العالم يترك البيت ولا يعود إليه. ان هذا المشهد مرعب حقاً، فهو يثير الرعب من النمو السرطاني والتفسخ الجسدي.

ومن جانب آخر، فان سبيلبرغ يستفيد من السحر لتعزيز العاطفة اللاعقلانية، فهو يبني في أفلامه الجديدة عالماً روحانياً ميتافيزيقياً، دون الاستعانة بالكائنات الغريبة المتعاطفة، وهذا العالم مليء بالأشياء الخارجة عن نطاق الإدراك الحسي العادي: الأشباح، الأرواح الشريرة، والقوى الخارقة (على سبيل المثال تحليق الأطفال في السماء في فيلم إي . تي).

إن أفلام الفانتازيا والخيال العلمي تتطلب بالطبع مساحات منطقية من اجل الاستكشاف، إنما السحر، في أفلام سبيلبرغ الأخيرة، هدفه خلق عالم لا عقلاني تستفيد منها اللاعقلانية المتفشية في المجتمع الأمريكي (على سبيل المثال الاحيائية الدينية، الطوائف الدينية، روحانية " العهد الجديد"  .. الخ). إضافة إلى ذلك، فانه حين يستخدم السحر إنما يقدم تلفيقات تحرف الناس عن مخاوفها الحقيقية، وترجع هذه المخاوف إلى قوى لاعقلانية، خالقة الانطباع الزائف بأن التحرر سيأتي من القوى الروحانية، أو المخلوقات الفضائية، في حين ان التأويلات النقدية قد تجد اسقاطات رمزية مهمة لمخاوف الطبقة الوسطى التي تتصل حقيقة بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية.  ومن المحتمل ان معظم المشاهدين قد جربوا هذه الاسقاطات الرمزية كتحريف يشجع اللاعقلانية والسحر، فقد حجب عن الناس، بدلاً من أن يوضح لهم، أصول وطبيعة وآثار الكابوس الأمريكي على حياتهم.

أضعف جزءٍ في فيلم ( الشبح الضاج) هو مشهد الوعظ السحري الذي تلقيه " تانجينا "  المرأة الروحانية القصيرة القامة، التي جاءت لتساعد على إنقاذ كارول آن وتطهير البيت من الشبح الضاج، فهي تلقي مواعظها في مقطعين طويلين واصفة ظواهر عالم الأرواح، ومفسرة مصدر مشاكل كارول آن ومضايقات الشبح الضاج.

يتيح الفيلم للمتفرجين رؤية عالم الأرواح مما يؤكد لهم على الإيمان بوجود الأرواح وحياة ما بعد الموت. هنا يعيد سبيلبرغ استخدام الأيديولوجيات الدينية والروحانية القديمة ليؤكد للمشاهد مخاوفه العميقة (الموت، الفناء، العدمية الكلية)، ويقدم مجموعة من التصورات الغيبية التي تستفيد منها الأيديولوجيات الدينية التقليدية.

يقدم سبيلبرغ الفانتازيات التطمينية التي تلطف المخاوف المتعلقة بالتفسخ في هذه الحياة (العائلة، الحلم الأمريكي .. الخ) وبمسألة حياة ما بعد الموت. ان أحد مهام الأيديولوجيين السينمائيين هو في الإعلان عن المخاوف ومن ثم تلطيفها، ومثل هذه المهمة ينجزها سبيلبرغ بذكاء بارع في تلفيقاته التطمينية.

وفي حين تنهار أمريكا المعاصرة تحت وطأة الشكوك العميقة، والمخاوف المتصلة بالنظام الاقتصادي والسياسي والثقافي، فان سبيلبرغ يعزف على أوتار هذه المخاوف ثم يجد لها (ربما بدون وعي)  التصورات السينمائية، ويعرض فانتازياته التطمينية.  وجماهيرية وسائله الأيديولوجية تعود بالتحديد إلى فاعليتها في إعلان مثل هذه المخاوف المعاصرة، وفي التقليل من شأنها. ويبدو هذا أكثر اهتماماً لنا من الهراء الأخرق والرجعي الذي يقدمه المخرج جورج لوكاش .

لقد أصبح سبيلبرغ المنظر الأيديولوجي المهيمن للطبقة الوسطى لكنه الآن ازداد ثراءً ونفوذاً، وسيكون مهماً معرفة إن كان سيتحوّل إلى منظر أيديولوجي للمؤسسات الاقتصادية السياسية.

حتى ذلك الوقت لابد أن تخضع التلفيقات الأيديولوجية التي تقدمها أفلام سبيلبرغ للنقد والتحليل.

أخبار الخليج البحرينية في 18 سبتمبر 1984

 

المصدر:

مجلة  Jump Cut  - العدد  28   - إبريل  1983 .

 

هوامش

1  -       أخرج توب هوبر فيلم (الشبح الضاج) بينما تولى ستيفن سبيلبرغ إنتاج الفيلم وكتابة قصته والمشاركة في كتابة السيناريو. وقد زاد التوتر والاحتجاج بين هوبر وسبيلبرغ وثار بينهما جدل حول أحقية كل منهما بالفيلم، كما لو كان المشروع المشترك بينهما يعود إلى شخص واحد.

في الواقع يتضمن الفيلم مزجاً بين الأسلوب السينمائي والفلسفي عند هوبر  وسبيلبرغ، فهو يحتوى على نزعة هوبر نحو التشويق والرعب والغرائبي، وفي   نفس الوقت يحتوى على تعلق سبيلبرغ بحياة الطبقة الوسطى والسحر    الغامض والاهتمام بالأرباح.

على أية حال، الفيلم يتضمن عناصر ( سبيلبرغية) كافية تبرر لنا تحليل هذا الفيلم في ضوء الإشكالية الأيديولوجية عند سبيلبرغ.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)