شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لم تعد السينما الإيطالية تفاجئنا هذه الأيام وهي تقدم كل يوم جديدها الذي يؤكد مرة أخرى نهضتها العارمة, فهي تعود من جديد كأداة تنوير ثقافية اجتماعية وسياسية لتفتح ملفات الماضي, ولتظل منفتحة بمزيد من الضوء من خلال التزامها الإنسان ومشكلاته.

فيلم "اخذ روحي" (إنتاج مشترك ما بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا) يجر الى الكثير من التأملات في حياة امرأة عانت الكثير من القهر واحتقار الذات وتعرضت للعنف اللفظي والجسدي في مجتمع غير عادل. يتناول هذا الفيلم بالتحليل حياة إنسانة معروفة عالمياً, هي الكاتبة الروسية سابينا سبيرلين (تقوم بدورها ايميليا فوكس) التي كانت إحدى مريضات العالم السويسري كارل غوستاف يونغ لتصبح عشيقته, فتترك, قبل قتلها على أيدي النازيين ابان الحرب العالمية الثانية, يومياتها المهمة كباحثة في علم النفس التربوي والتعليمي, إضافة الى مشكلاتها, هواجسها أحلامها, طموحاتها, انكساراتها ومشاعر عشقها.

الفيلم لم ينحز الى الجانب التوثيقي على حساب الجانب الفني, كما لم يبالغ في إظهار البراعة الفنية على حساب إخفاء الحقائق, انه جهد إبداعي وتوثيقي تاريخي, كما انه إعادة قراءة لجانب مهم من تاريخ امرأة صبورة تحملت آلامها الروحية واحزانها النبيلة التي كانت تتفجر في داخلها, وسعى المخرج الى توخي الدقة التاريخية المكتبية في رسمه للشخصيات والأحداث. فهناك مواقف كثيرة تمت صياغتها درامياً, تدعيماً لبناء الفيلم وتحقيقاً لرؤياه بهدف تجاوز حرفية الحدث التاريخي وطرح رؤية لواحدة من قضايا المصير المفجع لنهاية تراجيدية, فركز على الكاميرا كأداة للكتابة وأداة للمراقبة ضمن إشكالية جمالية تعتمد على نمط جمع بين أفلام التحري والأساليب المتنافرة التي خلق من خلالها حراكاً من التوتر الجمالي انتهى الى دراما وجودية عن حب محرم بين رجل وامرأة.

اندمال جرح

بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاة عالمة النفس سابينا سبيرلين التي اعتبرت واحدة من المربيات الشهيرات وعضو الرابطة الدولية للتحليل النفسي, وبعد ان اصبح ذلك الجرح العميق مندملاً وغطته غشاوة الزمن والأحداث برمادها, شعر المخرج الإيطالي روبيرتو فاينسا بأن هذه الفجوة الزمنية جعلته قادراً على إعادة قراءة حياة تلك المرأة ليجيب عن الكثير من الأسئلة المبهمة التي دفعت الى قتلها وذلك من خلال قصة تعتمد على بحث تقوم به طالبة روسية في قسم التاريخ, تنقب في مذكرات وكتابات واوراق سابينا التي كانت في صباها مصابة بمرض انفصام الشخصية والخوف من العالم الخارجي. يرافقها والداها في سفره من موسكو الى إحدى المصحات النفسية في مدينة ميونخ في ألمانيا حيث يبدأ الطبيب النفساني يونغ بمعالجتها, فيصاب بالدوار والتوتر من كثرة التفكير بحال مريضته للحد الذي يكتشف معه عدم نجاح نظريته, الأمر الذي يضطره لاستشارة أستاذه عالم النفس التحليلي سيغموند فرويد.

وما ان تشفى سابينا حتى تجد نفسها مغرمة بطبيبها يونغ الذي أخرجها الى العالم السوي, وحين تكاشفه بحبها العميق يطلب منها الابتعاد عنه لانه يحب زوجته وطفلته وانه لا يريد غير استقراره العائلي, الا انه يجد نفسه متعلقاً بسابينا بمحبة داخلية وهو الذي بدأ حياته طبيباً نفسياً, وظل ملتزماً باهتماماته الدينية وتخصصه في دراسة ظاهرة "التفردن"individuation أو التحقق الفردي والتي تتطلب مواجهة صورة النفس البشرية واستدماجها من خلال تعلم الإنسان كيف يميز بنفسه القوى الخارجية. حملته محبتها له, التي جعلته هو الآخر متيماً بحبها, الى استشارة أستاذه فرويد, الذي حرص المخرج على ان لا يظهر على الشاشة, الا ان شبح فرويد ظل مهيمنا على أحداث الفيلم. ينصحه الأستاذ بضرورة قطع العلاقة. لكن سابينا اشترطت قطع علاقتها بيونغ ان تنجب منه طفلاً, الا انه يرفض طلبها الثاني أيضاً, فتتحامل على جراحها لتكمل دراستها التي نصحها بها يونغ لتتفوق, فتعود الى موسكو وتتزوج حيث تؤسس مدرسة تربوية باسم "الحضانة البيضاء" تضم في صفوفها مجموعة من الأطفال الى ان تعلن الحرب العالمية الثانية وتزداد حملات القمع الستاليني تحت واجهة الاستعداد لها فيتم إغلاق المدرسة, وتسافر سابينا, التي ظلت تواصل كتابة رسائلها الى يونغ, الى قريتها الصغيرة القريبة من موسكو بعد ان شعرت بالعجز أمام سور الدولة الحديدي الشاهق الذي طوقها واحاطها من كل صوب. هكذا فقدت الحياة مغزاها وهدفها, ولم يبق أمامها الا الهرب والتخلص وإطفاء جذوتها, فتظل تتذكر حبها الأول من خلال قطعة حجرية لأيقونة إغريقية قديمة كان يعتز بها يونغ منذ أيام طفولته, معتقداً بان روحه تكمن فيها, يقدمها اليها لتحتفظ هي بروحه الى الأبد. الا ان القوات النازية تتمكن من احتلال القرية, وتتم عملية اعتقال سابينا بصفتها يهودية لتقتل رمياً بالرصاص.

طالبة التاريخ الروسية تتابع تحرياتها حتى تصل الى مدينة سابينا الصغيرة حيث قتلت لتتعرف من خلال مذكراتها الى كشف بأسماء طلبتها الصغار في مدرسة الحضانة البيضاء, فترشو أحد ضباط جهاز الاستخبارات السوفياتي لتتعرف الى أحد هؤلاء الأطفال الذي اصبح عجوزاً, فتزوره ليتحدث عن ذكريات طفولته مع أستاذته. قصة حب تنشأ في شكل متزامن مع سرد الأحداث التي ترويها طالبة التاريخ الروسية التي تقوم بمساعدة أحد أساتذة التاريخ الاسكتلندي في مهمة الترجمة من الروسية الى الإنكليزية التي يقوم بها هذا الأستاذ بالبحث عن حياة سابينا, الا ان الفيلم ينتهي من دون ان يتوج هذه العلاقة ومصيرها.

الفيلم يعكس بأمانة شخصية هذه المرأة وتأثيرها العلمي في دراسات ونظريات يونغ من خلال اختباراتها النفسية والتربوية التي كانت تجريها, إذ اشتهرت في جميع مؤلفاتها بالحذر من آفة إسقاط المعتقد والأفكار على معتقدات الآخرين, كما انها حثت في جميع دراساتها على تربية الشباب من خلال تحسين عمل المؤسسات الثقافية المدنية التي تحتضن الإبداع ضمن سياقات جماعية, فقد كانت ترى عملية الخروج من مركزية الأنا ومصالحها الآنية والقبول بالآخر بالعمل المشترك من أجل الجماعة باعتباره الهدف في التربية المعاصرة.

جريدة الحياة في 4 يونيو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"أخذ روحي"

للمخرج روبرتو فاينسا: رحلة في علم النفس والتاريخ

موسى الخميسي