شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لسنوات عديدة ظلت البوسنة مقترنة في الأذهان بصورة الحرب والدمار٫ أما إنتاجها السينمائي فلم يجذب الانتباه إلا سنة ١٠٠٢ عن طريق فيلم ((No Mans Land. ومنذ ذلك الحين شهدت الساحة السينمائية البوسنية مرحلة إزدهار.. في هذا المقال يسلط الكاتب الألماني رفائيل ناجلي على أبعاد السينما البوسنية.

طائرة فضية اللون تحوم في المغيب فوق سراييفو. لكن لا ينبغي عليها الهبوط فداخلها يجلس جمع من الناس السعداء، بينما يسود المدينة من تحتها الفقر وتعاسة المخدرات والفساد. يضاعف قائد الطائرة من سرعة طيرانه إذاً متجها إلى بلاد أخرى.

انتعاش غير متوقع للإنتاج السينمائي البوسني

فيلم (صيفية السهل الذهبي) (Letjo u Zlatnoj Dolini) للمخرج سرديان فوليتيتش Srdjan Vuletics والذي يقدم صورة كاريكاتورية لاذعة عن مدينته سراييفو هو واحد من الأفلام البوسنية الأربعة التي تضمنتها في السنة الماضية الدورة التاسعة لمهرجان سراييفو السينمائي.

وإلى جانبه أفلام (حريق (Gori Vatra للمخرج بيير صاليتشا Pjer Zalicas، و(الممر السري) (Secret Passage) لإديمير كينوفيتشAdemir Kenovics وسجبن ومربيس (Kajmak i Marmelada) لبرانكو جوريتش -Branko Djurics
وكانت تلك هي الأشرطة التي قدمت للمشاهدين صورة عن الانتعاشة التي يعيشها الإنتاج السينمائي في البوسنة٫ وكان لها أيضًا نصيب الأسد من جوائز المهرجان.

لم يكن الأمر دوما على هذا النحو، ففي بوسنة ما بعد الحرب لم يكن هناك سوى بضعة أشرطة قصيرة هي التي كانت تعرض على الجمهور داخل القاعات القليلة الناجية من الدمار، وكلها تدور بصفة تكاد تكون كلية حول الحرب والدمار وبؤس اللاجئين والاغتراب أو العودة.

وقد لعبت هذه الأشرطة بذلك دورا هاما في عملية معالجة فظائع الحرب، لكنها على الصعيد الفني لم تكن قادرة على تجاوز المستوى المتوسط إلا في حالات نادرة.

الأرض المحايدة

كانت سنة ١٠٠٢ هي السنة التي سطرت تحول الاتجاه، عندما تمكن دانيس تانوفيتشDanis Tanovic بباكورة أعماله (الأرض المحايدة) (No Mans Land) من حصد عدد كبير من الجوائز من بينها أوسكار أفضل الأفلام الناطقة بغير الأنكليزية.

وجاء هذا النجاح ليذكر العالم بأن البوسنة ليست مرادفا للحرب فقط، بل وأيضا موطنا لتقليد سينمائي جدير بالاعتبار٫ كما نبه ذلك السلطات الحاكمة في البوسنة والهرسك إلى أن السينما يمكن أن تكون يافطة إعلانية ممتازة ومادة تصدير مربحة.

ومنذ ذلك الحين لم يقتصر الأمر في اتحاد البوسنة والهرسك على إصدار قانون لتشجيع السينما، بل وتأسس أيضا صندوق لدعم الإنتاج السينمائي المحلي، وهو أمر شبيه بمعجزة نظرا للخواء الفادح الذي تعاني منه ميزانية الدولة وللغياب الفعلي لما يمكن أن يكون سياسة ثقافية.

مخرجو السينما البوسنيون من جيل ما بعد الحرب والذين تعودوا على التصوير دون تمويل، ينتجون الآن روائع بمزايا ضعيفة٫ كما شهدت السينما البوسنية أيضا اتساعا في أفق موضوعاتها.

)جبن ومربي) يتطرق إلى مسألة العلاقات الصعبة بين البوسنيين والسلوفانيين، أما (صيفية السهل الذهبي) فيصور أوساط موسيقى (الراب)(Rap) في مدينة سراييفو وثقافة الهامش لدى شبابها، بينما يتناول (الممر السري) مصير يهود إسبانيا في زمن محاكم التفتيش.

ميزانية متواضعة، أو لا ميزانية

تظل الأفلام الأكثر نجاحا هي تلك التي تتناول مسألة الحرب ومخلفاتها٫ لكن هنا أيضا يستطيع المرء أن يستشف بوادر تطورات. تانوفيتش يتطرق سنة ٠٠٠٢ إلى موضوعة الحرب نفسها، وكذلك أحمد إيماموفيتش في شريط »٠١ Minuta«( سنة ٢٠٠٢
يعرض الشريط خلال الدقائق العشر لما يعايشه سائح ياباني في روما في الوقت الذي تشهد فيه عائلة بوسنية من سراييفو مأساة دموية، وتفصل بينهما فقط ساعة طيران٫ أما شريط (حريق) لبيير صاليتشا(2003) فلا تدور أحداثه خلال الحرب بل في زمن ما بعد الحرب حيث أعداء الأمس ما يزالون بعيدين جدا عن أي تصالح.

يبقى السؤال المطروح: كيف يتمكن المرء من إنجاز فيلم مدته تسعون دقيقة دون أموال تقريبا؟ تانوفيتش ودجوريتش ينتجان أفلامهما في سلوفينيا، وكينوفيتش في فرنسا ولوكسمبورغ، وكان على صاليتشا أن ينتظر أربع سنوات للحصول على تمويل، أما فولتيتش فإنه يراهن على العمل بمصاريف قليلة بواسطة كاميرا يدوية وممثلين في سن السادسة عشرة.

وفي كل الأحوال تقريبا يشتغل الممثلون دون مكافأة مالية، كما يُعتمد على مساعدة العائلة والأصدقاء، وتتراكم إلى جانب ذلك الديون٫ صحيح أن الجميع على رأي أن هذا الاستغلال الذاتي لا يمكن أن يتواصل إلى ما لانهاية، لكنه يمثل حاليا الشرط الأساسي لكل نشاط سينمائي في دول البلقان.

يتمثل الرصيد الأكبر للسينما البوسنية في وجود ممثلين من طراز رائع٫ ذلك ما لاحظه أيضا مخرجون سينمائيون من سويسرا:

غير رولاندو كوللا مكان تصوير فيلمه ذي الإنتاج الإيطالي -السويسري- الروسي عن ماسأة اللاجئين، وتحول إلى البوسنة عندما تعرف على الممثلين البوسنيين سناد باسيتش و أيلا فريوكيتش وبويانا سلييفيتش٫ والآن يخطط كوللا لفيلم جديد في البوسنة وعن البوسنة، بينما دانيال فون آربورغ قد أنهى مؤخرا تصوير فلم (إينا وعامر وإلفيس).

العلاقات بين السينمائيين البوسنيين والسويسريين لها تاريخ أطول ٫سنة ٤٩٩١ سافر ماركو ميللر الذي كان آنذاك مدير مهرجان لوكارنو، إلى البوسنة لمساعدة ميرو بوريفاترا في إنجاز فكرة مجنونة:

وهي تأسيس مهرجان سينمائي داخل المدينة المحاصرة ٫وقد ظهر مهرجان سراييفو السينمائي (SFF) إلى حيز الوجود سنة ٥٩٩١. وفي سنة ٦٩٩١، أي بعد انتهاء الحرب، مولت سويسرا مشروع ترميم الأستوديو السينمائي Obala Meeting Point الذي يعد إلى اليوم القلب النابض لمهرجان سراييفو.

وقد كانت شركة الطيران السويسرية Swissair أول الممولين الأساسيين٫ ولا يكل المدير بيرافاترا عن الثناء على أصدقاء الساعات الأولى من السويسريين، لكن لا يخفى عن المتابع أنه قد عثر في الآونة الأخيرة على ممولين آخرين أهم.

مهرجان سراييفو السينمائي

لا يعد مهرجان سراييفو السينمائي اليوم هو الفعالية الثقافية الكبرى في البوسنة والهرسك فحسب، بل هو أيضا المهرجان السينمائي الأكبر في منطقة جنوب شرق أوروبا. في السنة الماضية سجل الـ٢٦١ فيلما من ٤٤ بلدا مشاركا ودخول ٠٠١ ألف مشاهد٫
وبذلك تظل مهرجانات بورتوروز (سلوفينيا) أو دوبروفنيك وموتوفون (كرواتيا) غير قادرة على مجاراته لا من ناحية عدد المشاهدين ولا من ناحية نوعية البرنامج.

يعد برنامج مهرجان سراييفو برنامجا طموحا، لكنه متناغم مع إمكانيات. تجد الأفلام ذات الطابع الجماهيري العريض مكانا مناسبا لها وذا أجواء احتفالية للغاية في سينما الهواء الطلق ميتالاك وهي باحة داخلية فسيحة تقع قبالة أكبر كنيس لليهود السفارديم (ذوي الأصل الإسباني) بالبلقان.

أما العروض الأولى فتنال حظوة البساط الأحمر المهيب بالمسرح الوطني٫ والجمهور الخبير يجد في قسم الـ (New Currents) أعمال الطليعة التجريبية، وفي قسم الـسبانوراماس أفلاما من شتى أنحاء العالم، بينما تركز أفلام (Tribute to) على محاور خاصة بها.

يظل مركز الاهتمام مع ذلك متمحورا حول الأفلام والأشرطة الوثائقية والأفلام القصيرة القادمة من جنوب شرق أوروبا، من سلوفينيا حتى ألبانيا٫ كما أن برنامج الدعم السينمائي Cine Link يعرض فرصا جديدة لإثارة الاهتمام بالانتاج الجهوي المشترك٫
أما المساحة الكبيرة التي تخصص للأفلام القصيرة في مهرجان سراييفو، فهي من الناحية المالية، الحل الأمثل للإنتاج السينمائي في أغلب بلدان جنوب شرق أوروبا، كما أنها تمنح فرصة للأجيال الجديدة.

ولا تعد عروض الظهر المجانية مجرد لفتة لطيفة تجاه الطلاب والعاطلين عن العمل فحسب؛ إذ كيف يمكن للسينمائيين الذين يعملون دون ميزانية والذين لا يستطيعون السفر إلى المهرجانات الأجنبية، أن يكونوا لأنفسهم فكرة عن الوسط السينمائي الحالي؟

نواقص فنية

لكن تقاسم المخرجين من أعضاء لجنة الفيلم لكل أموال الدعم الحكومي فيما بينهم ولمشاريعهم الخاصة، لا يعد مجرد خطأ فني٫ في مهرجان السنة الماضية تم إلغاء العرض الدولي الأول لفيلم »الممر السري« لإديمير كينوفيتش والذي كان من المفترض عرضه في ختام المهرجان.

النسخة الوحيدة التي كانت موجودة في سراييفو كانت بدون شريط صوتي. وقد مثلت هذه الحادثة شهادة عن مدى هشاشة الأرضية التي تقف عليها السينما البوسنية.

الطائرة الفضية اللون في شريط »صيفية السهل الذهبي« لم تحط في جولتها الثالثة أيضا على أرض سراييفو٫ لكن لو أنها فعلت ذلك لكان للمسافرين على متنها أن يكتشفوا أن حركة سينمائية قد تأسست بين الخرائب من تحتهم.

حركة ليس بوسعها فقط تحدي المجرمين الصغار وأعوان الشرطة المرتشين، وبعث روح جديدة في هذه البلاد الممزقة والمدمرة بالحروب، بل على استعداد أيضا للإشعاع في ما وراء حدود البلقان

بالاتفاق مع موقع قنطرة

الأيام البحرينية في 1 يونيو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

حياة بين دمار الحرب

السينما البوسنية .. حركة تأسست من بين الخرائب

ترجمة: علي مصباح

دانيس تانوفيتش« فينيق البوسنة 

على الرغم من المآسي التي مرت بها البوسنة والهرسك، فإن الاهتمام العالمي بها نضب وتوقف لمجرد انتهاء الحرب التي دارت رحاها في أحياء وأزقة وبيوت سراييفو. وعلى الرغم من أن تلك الحرب خلّفت وراءها ملايين المآسي وقصمت ظهر المدينة الوحيدة في العالم التي كانت نموذجاً للتعايش المسالم بين الأديان المختلفة »سراييفو« فإن محطات التلفزيون والصحف وشبكات الإعلام الكبيرة سحبت »قطعاتها« بحثاً عن خندق آخر تتمكن فيه كاميرات التلفزيون تصوير الأشلاء ويتمكن الصحفيون من أخذ تصريحات المشرفين على الموت بفعل قذيفة.

وهذه بالضبط الإدانة التي يطلقها فيلم »أرض الحياد« للمخرج البوسني الشاب »دانيس تانوفيتش« والذي يوجه تانوفيتش نقده واتهامه لأجهزة الإعلام الغربية التي حوّلت الحرب في البوسنة »وفي كل مكان« إلى ما يشبه البرنامج الاستعراضي ولاستعراض العضلات والقدرة على التسلل في أي مكان بدعوى »نقل الحقيقة« لكن ما يهمها في الواقع هو الـ (Share) أي نسبة المتفرجين الذين يشاهدون برامجها وذلك لاقتناص أكبر كمية من الإعلانات التجارية التي تظهر العالم والعائلات في غاية الأناقة والتخمة والسعادة، بينما في الواقع ليس إلاّ عالما مليئاً بالمآسي والموت والعنف واضطهاد الشعوب وقهر حرياتها وحقها في الحرية والعيش الكريم وتقرير المصير، ويكفي أن نرى كيف تتعامل أجهزة الإعلام الغربية مع الانتفاضة الفلسطينية حتى ندرك أن ثمن ثوانٍ من التواجد على الشاشة للانتفاضة وشبابها هو الكثير من الدماء الفلسطينية التي تسيل بفعل قنابل العدو الصهيوني، لأن القتيل الواحد ليس كافياً للحديث عن »أزمة الشرق الأوسط«.

دانيس تانوفيتش يفضح الإعلام الغربي ليس من خلال رد فعل عاطفي بل بنفس الرهافة التي تحاول هذه الأجهزة إظهارها وهي تتحدث عن عذابات الشعوب. إنه يجعلها تقع في غلطة الشاطر عندما تتوقع »أو هكذا يروق لها« أن النهاية التي يعرضها المسئول العسكري الأمريكي للأزمة المتولدة من تواجد مقاتلين بوسنيين وصرب وجهاً لوجه في منطقة الحياد قد انتهت وأن الرجل الذي كان مسجى على اللغم قد أنقذ. فهاهي الصحفية تأمر فريقها بالانسحاب وترفض طلب المصوّر بإلقاء نظرة أخيرة على الخندق وتصويره بعد عملية »الإنقاذ« خفية ودون أن يشاهده العسكريون قائلة للمصور: كلا اترك ذلك، لا داعي للمجازفة٫ بإمكاننا أن نصوّر في أي مكان آخر فالخنادق كلها متشابهة٫ الفيلم من إنتاج شركة (Fabrica Cinema) التي أسسها ويديرها المدير السابق لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي ماركو موللر.

يقول المخرج دانيس تانوفيتش إن شخصيات هذا الفيلم متشابهة فيما بينها بشكل كبير، إنهم أناس بسطاء وأبعد ما يكونون عن البطولة أوقعتهم الحرب في أتونها وأحرقتهم بجواها٫ الرجل منهم على هذه الجبهة يمكن أن يتواجد بسهولة على الجبهة الأخرى٫ الشيء الوحيد الذي يفرّق بينهم هو الاسم الذي يحمله كل واحد منهم٫
وبالفعل فاللغة المستخدمة في الفيلم هي نفسها بالنسبة لجميع الشخصيات الموجودة في الفيلم بصرف النظر عن كونهم بوسنيين أو صربيين أو كرواتيين٫ فأهل البوسنة يسمون تلك اللغة بوسنية وأهل الصرب يسمونها صربية والكرواتيون يعتبرونها لغة كرواتية، وذلك لأنهم جميعاً يجيدون فهمها والحديث بها ويتمكنون من فهم أحدهم الآخر بشكل كامل
.

عرفان رشيد

الأيام البحرينية

1 يونيو 2004