زار المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي بيروت، منذ أقلّ من أسبوعين، في إطار جولة قام بها في لبنان وسوريا، بحثا عن مواقع مختلفة لفيلمه الروائي الطويل الجديد <<انتظار>>، الذي يُتوقّع أن يبدأ تصويره في شهر آب المقبل في غزّة، قبل أن ينتقل إلى الأردن فسوريا ولبنان. لم تُعرض أفلام مشهرواي، الروائية والوثائقية على حدّ سواء، في الصالات اللبنانية، بل في عدد من التظاهرات السينمائية المحلية. أما فيلمه الروائي الطويل الأخير، <<تذكرة إلى القدس>>، فعُرض في <<مسرح بيروت>> قبل عام واحد تقريبا، أمام جمهور قليل العدد. <<السفير>> التقت رشيد مشهراوي، مخرج <<دار ودور>> و<<حتى إشعار آخر>> و<<حيفا>> و<<مقلوبة>> و<<خلف الأسوار>> و<<فلسطين، بثّ مباشر>> وغيرها من الأفلام المتنوّعة، التي رسمت شيئا من الواقع الإنساني الفلسطيني في فلسطين المحتلّة. · ماذا عن فيلمك الجديد <<انتظار>>؟ إنه جولة في الدول العربية الثلاث المُحيطة بفلسطين، التي تضمّ مخيّمات فلسطينية، أي الأردن ولبنان وسوريا، بالإضافة إلى المخيّمات الفلسطينية في داخل فلسطين، وهي جولة في هذه المخيمات، وفي أحوال ساكنيها. انبنت القصة على مجموعة افتراضات: إذا تمّ حَلّ المشاكل السياسية في فلسطين، وباتت لدينا دولة فلسطينية، فنحن بحاجة إلى مسرح وطني. وإذا بات لدينا مسرح وطني، فنحن بحاجة إلى فرقة يُفترض أن تتألّف من الفلسطينيين. في الفيلم، ثلاث شخصيات أساسية (شابان وصبيّة) من غزّة، عملت في التلفزيون. يقوم هؤلاء الشباب بجولة في المُخيّمات الفلسطينية في فلسطين والدول العربية المجاورة، لإجراء عمليات <<كاستنغ>> بحثا عن ممثلين قادرين على العمل المسرحي، ومن ينجح منهم في الاختبار، يَعُد إلى فلسطين. غير أن الموضوع الذي تكشفه هذه الجولة، فهو الانتظار، إذ إن كل فلسطيني يعيش حالة انتظار. يطرح الفيلم مسألة اللاجئين وأماكنهم الجغرافية، ففلسطين وسوريا ولبنان والأردن تشكّل كلّها خارطة فلسطينية إنسانية وبشرية، وليس فقط خارطة جغرافية. كما أنه يُلقي ضوءا على موضوع العلاقات الناشئة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبينهم وبين أنظمة الدول التي يعيشون فيها. هناك أيضا العلاقة التي تربط الشبان الثلاثة بعضهم ببعض، خصوصا أنهم <<يمثّلون>> اللاجىء والمُواطن والعائد. في خلال جولتهم هذه، يواجهون أحداثا ومفارقات في إسرائيل وخارجها، يُقدّمها الفيلم، كما الحكاية كلّها، بأسلوب ساخر. ننتظر أشياء لا نعرفها · أودّ هنا أن أستعيد معك موقفك الغاضب مما أفرزه اتفاق أوسلو. ففي العام 1996، حين التقينا للمرّة الأولى، في خلال <<أيام قرطاج السينمائية>>، أعلنت غضبك إزاء ما جرى حينها، على مستوى المفاوضات والاتفاق والنتائج المُتوقّعة و/أو المنتظرة. هل لا يزال هذا الغضب موجودا فيك وفي فيلمك الجديد هذا؟ لا يزال السؤال نفسه حاضرا: نحن ننتظر أشياء لا نعرفها، وكأننا لم نعد <<الفعل>> بل <<ردّة الفعل>> إزاء ما يحدث في العالم. ننتظر شيئا ما يحوّلنا أو يقلبنا إلى بشر عاديين. ما هو هذا الشيء؟ لا أعرف. موضوع الانتظار مهم جدا في الفيلم، ومسألة اللاجئين تحتلّ مساحة كبيرة في القرار الفلسطيني والأفكار الفلسطينية. أنا من يافا. وُلدت في مخيم الشاطىء في غزّة. أنا من أولئك الذين سحب <<اتفاق أوسلو>> الأرض من تحت أقدامهم، فباتوا مُعلّقين في الهواء. مع هذا، منحت الاتفاق فرصة، لعلّه يصل بي إلى دولة، أو إلى ما يشبه الدولة، بعد الانتفاضة الأولى، فوجدت أننا دخلنا في انتفاضة ثانية. في مقابل هذا كلّه، لا أزال متأكّدا من أن أية حكومة إسرائيلية لن تعثر على حلّ لها إلاّ بإقامة كيان فلسطيني تعترف به. فالفلسطينيون باتوا اليوم نحو أربعة ملايين شخص في الداخل، وثلاثة ملايين ونصف المليون في الخارج (أي ما يساوي نحو ثمانية ملايين فلسطيني)، وتقول إحصائيات إن عدد الفلسطينيين في الداخل سيبلغ ستة ملايين، في العام 2010. لا أمل لإسرائيل بالحلّ إلاّ بالاعتراف بحقّ هؤلاء بدولة أو بكيان مستقلّ. يعيش الفلسطينيون حالة انتظار. حاولت إسرائيل، منذ العام 1948، إقامة دولة لها، وفشلت، وبرز فشلها في هذا الجدار العنصري الذي أقامته باسم <<الجدار الأمني>>. هم بنوا دولة على غرار ما فعلوه طويلا ببنائهم المستوطنات: يقيمون تجمّعات صغيرة يحيطها جدار (إسمنتي أو أسلاك شائكة) ونقطة مراقبة واستكشاف. تخيّل أنه بعد خمسة وخمسين عاما أقاموا جدارا واحدا ونقاط مراقبة واستكشاف عليه، ليحاصروا الجدران كلّها التي أنشأوها سابقا. إنهم يسجنون أنفسهم. إنهم خائفون. أما الفلسطيني فهو ليس خائفا، لأنه يقف على أرضه، ولم يسرقها من أحد. تبذل إسرائيل جهدا كبيرا للغاية (قوة عسكرية ضخمة، إعلاما، إقتصادا، ميزانيات، إلخ.)، كما أنها تقتل وتهدم وتحتلّ، وهذا كلّه كي تثبت للعالم أن الأرض التي تحتلّها ملك لها. الفلسطينيون غير مُنظّمين إعلاميا وعسكريا، وعلاقاتهم العربية غير منظّمة أيضا. كل شيء معدوم، والتعيينات تتمّ من الخارج على المستويات كلّها. مع هذا، فإن الأرض الفلسطينية تقول إن هؤلاء لها وهي لهم. يقتلع الإسرائيلي شجرة، فتنبت أخرى مكانها. وهو يحارب ثقافة وحضارة وتاريخا ولغة. لا تنس أن لفلسطين تاريخا وثقافة وحضارة لا تتعلّق فقط بها، أو بالقدس مثلا، بل بالعرب أيضا وبتاريخهم العريق الممتدّ لآلاف السنين. لا أعرف ما إذا كان أحد قادرا على الانتصار في حرب كهذه. ها قد مرّت خمسة وخمسون عاما، لم يستطع الإسرائيلي في خلالها أن يبني تاريخا أو ثقافة له. · وماذا عن السينما، إذا؟ إنها ليست فنا وحلما فقط، فهي تحفظ الذاكرة وتتعامل مع المنطقة بتراثها وعاداتها وتقاليدها. أعتقد أنها، في هذه المرحلة، قوية ومهمة، خصوصا على مستوى الأفلام التي تطرح للمرّة الأولى، وبشكل كبير، قضية اللاجئين، من خلال فيلم روائي طويل. ردّة فعل · بدا واضحا أن السينما في فلسطين برزت، بشكل أكبر وأوضح، بعد الانتفاضة الأولى. لست، هنا، في وارد التقييم النقدي والفني والجمالي لهذا الكمّ الكبير من الأفلام الفلسطينية. لكني أرغب في سؤال عمّا إذا كنتُ ترى أن الفلسطيني، بعد الانتفاضة الأولى هذه، وعى أهمية الصورة في معركته، فاهتمّ بالسينما. بحسب رأيي، هناك عوامل عدّة لعبت مثل هذا الدور. غير أن المشكلة كامنة في هذا الكَمّ الهائل من الأفلام الوثائقية التي أُنتجت في تلك المرحلة، وهي كلّها <<فيلم واحد>>. منذ زمن بعيد، لم أشاهد فيلما فلسطينيا مختلفا، إذ إن هناك فيلما واحدا صنعه أشخاص كثيرون. هؤلاء لا يعرفون أن هناك مناطق أخرى ومسائل مختلفة يُمكن إنجاز أفلام عدّة عنها، من القدس إلى غزّة ومخيّمات اللاجئين. إنه الفيلم نفسه، الذي يحاول أن يؤكّد الحقّ الفلسطيني، وحقّ العودة، وتثبيت الهوية الفلسطينية. هذا الفيلم أنجزته قبل عشرين سنة، في <<دار ودور>> و<<الملجأ>> وغيرهما. لا أريد أن تكون السينما الفلسطينية ردّة فعل على ما تصنعه إسرائيل بنا، أي أن نصَوّر أفلاما عن مجازر واجتياح وحصار ومعاناة، بعد أن ترتكب إسرائيل هذه الأفعال، من مجازر واجتياح وحصار. هذا يُعطي فرصة لإسرائيل كي تحتلّ السينما الفلسطينية أيضا، بعد أن احتلّت أشياء كثيرة أخرى. أرغب في أن أقلب المعادلة، بأن أجعل السينما الفلسطينية <<فعلا>> وليس <<ردّة فعل>>. حتى إذا وُلدت لنا دولة على كامل الأرض الفلسطينية، وعاصمتها القدس، فهذا لا يلغي أبدا ضرورة وجود سينما فلسطينية، وأهميته. نحن لدينا خصوصياتنا ولهجتنا وثقافتنا. نحن نعيش في منطقة تُعتبر من أهم المناطق في العالم، ولها تاريخ يستوعب سينما بحجم ما تصنعه هوليوود. لا تنس أنه قبل الانتفاضة الأولى، جاء غربيون وأميركيون إلى فلسطين ليُصوّروا أفلاما لهم في منطقتنا. هناك أيضا ما يتعلّق بالديانات الثلاث. لست راضيا على السينما الفلسطينية، فالأفلام تكرّر نفسها، والوثائقي يميل أكثر إلى الريبورتاج التلفزيوني الطويل. يزعجني كثيرا تعاطف العرب مع السينما الفلسطينية، أيا كانت الأهمية الفنية والتقنية والدرامية والجمالية لأفلامها، ظنّا منهم أنهم بذلك يدعمون القضية الفلسطينية. عليهم أن يتعاطوا مع الأفلام الفلسطينية انطلاقا من مدى كونها سينما حقيقية وصافية، وليس بسبب انتمائها الجغرافي فقط. على مدراء المهرجانات والمحطات التلفزيونية العربية، والنقّاد العرب أيضا، أن يرفضوا السيء ويوافقوا على الجيّد من الأفلام الفلسطينية، فنيا وسينمائيا. أن يختاروا <<الصالح>> للعرض. أن يتعاملوا مع الفيلم السينمائي كفن، لا كسياسة.
كونك صاحب قضية عادلة لا يعني أن تتطوّر سينمائيا. لكنك إذا تطوّرت فنيا
وسينمائيا، فإنك تصبح أقدر على خدمة قضيتك وإيصالها إلى العالم. يجب على
الفيلم الذي تصنعه أن يكون سويا، فنيا وتقنيا وجماليا. بمعنى آخر، أن يكون
سينمائيا. السفير اللبنانية في 22 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
رشيد مشهراوي فيلم واحد صنعه كثيرون نديم جرجورة |
|