«السينما التونسية في مصر» كتاب جديد صادر عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، والأجدى أن يكون عنوانه: «السينما التونسية في عيون نقاد مصريين» لأن كثيرا من الأفلام التونسية قد شاهدها نقاد مصريون في مهرجانات دولية مثل كان وقرطاج ولندن وفينيسيا، ولأن أيضا كثيرا من موضوعات الكتاب قد نشرت في صحف ومجلات عربية خارج مصر. الكتاب من اعداد وتقديم الناقد السينمائي والمخرج التسجيلي «هاشم النحاس» الذي كان قد أشرف على إقامة أسبوع للسينما التونسية نظمته لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة. وهو يرى ـ بحق ـ أن السينما التونسية رغم قلة عدد أفلامها نسبيا استطاعت أن تفرض نفسها بقوة على خريطة السينما العربية وأن تجد لها مكانا على المستوى العالمي بما حصدته من جوائز مهرجانات السينما العالمية.ويرى أنه في مقدمة عوامل النضج السريع للسينما التونسية العامل الثقافي، أي البيئة الثقافية التي تعمل على تنمية ذوق الجمهور وتشكيل عقلية الفنان وتوجهاته، من خلال نوادي السينما وحركة الهواة، ودعم الدولة للانتاج السينمائي في البداية، ونجاح القطاع الخاص من خلال نظام الانتاج المشترك، ويرى أنه رغم فوز الأفلام التونسية بجوائز في المهرجانات الدولية، فإن جائزتها الكبرى كانت إقبال الجمهور التونسي عليها. وهذا ما يبدو أنه تغير، وأن السينما التونسية في أزمة، ويؤكدها الناقد التونسي خميس الخياطي في مقال له بجريدة عربية كبيرة، ويقدم أدلة من بينها إقدام المخرج عبداللطيف بن عمار على عرض فيلمه الأخي علير «شاشة التليفزيون» وكذا فشل أفلام تونسية في عرضها الجماهيري. أكثر من فيلم تونسي يتعرض له أكثر من ناقد مصري، كل برؤيته، فيلم «طوق الحمامة المفقود» للمخرج ناصر خمير 1988 تعرض له أربعة نقاد ـ كل بوجهة نظره ـ يجمع بينهم التنويه بمرجعيته الى التراث العربي، أو كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي مع إشارات لدراسات لباحثين في الأدب الأندلسي، مثل الدكتور أحمد مكي الذي يصفه بأنه أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب في العالمين الاسلامي والمسيحي، تتبع أطواره وحلل عناصره وجمع الفكرة المفلسفة والواقع والتاريخ، وواجه أدق قضاياه في وضوح وصراحة. ومثل الدكتور طه حسين الذي يقارن كتاب ابن حزم الأندلسي بواحد من أجمل كتب الحب الأوروبية: «عن الحب» لستندال الفرنسي بل إنه يفوقه في عمق نظرته ودقة تحليله وخبرته في سبر أغوار النفس البشري. ويأخذ الناقد سمير فريد عن الدكتور زكريا ابراهيم في كتابه «ابن حزم الأندلسي» 1966 أنه عاش في قرطبة في عصر تلاقى فيه الفكران الشرقي والغربي في رحاب الأندلس وعاش فيه المسلمون جنبا الى جنب مع اليهود والنصارى من سكان تلك البلاد وينظر الى الفيلم بأن هذا هو معنى الأندلس الذي يريد ناصر خمير التعبير عنه اليوم، مؤكدا أنه يستهدف من فيلمه الدعوة الى الحب والحوار بين العرب والمسلمين وبين الآخرين في العالم المعاصر، وتأكيدا لهذه الفكرة يرجع الى قول المستشرق الفرنسي جاك بيرك في مقدمة سيناريو الفيلم.. قائلا إنه «ليس قصة حب في الأندلس إنما الأندلس كأرض التقاء الكثير من الثقافات وحوار بين الأديان والشعوب والأندلس كجوهر الحب عبر عصوره وأشعاره وحدائقه، ثم رغبة السلام الذي تصعب حمايته من البربريات والتعصبات الهدامة»، ويختم فريد دراسته بمشهد أميرة سمرقند التي نراها آخر مرة وهي تبكي في الأندلس تعبيرا عن محاولة المخرج الفنان الحصول على نظرة كلية شاملة للحضارة العربية الاسلامية التي امتدت من قرطبة في أسبانيا الأوروبية الى سمرقند في آسيا الوسطى، والتي يعتبر ناصر خمير وريثها التونسي في عالم السينما. وقريبا من هذا المعنى وعن نفس المشهد بالذات تشير الناقدة خيرية البشلاوي الى بحث أميرة سمرقند عن أمير الأحلام ويتردد غناؤها الباكي بعد أن تتلاشى الصور الوردية وتحل النهاية الشقية ويتبدل لون الرمان بلون رمادي ثقيل.. يختفي الحلم ويتلاشى النور.. المخرج يختار لحظة النهاية لواقع تلهيه الصراعات بين المستضعفين والحروب التي يشنها البعض ضد البعض الآخر. ويقول الناقد رفيق الصبان أن الفيلم من خلال خلفية سياسية واجتماعية شاحبة يحاول أن يصور المجتمع الذي يعيش فيه البطل الأندلسي، الذي لا يختلف جذريا عن مجتمعنا الحالي. وفي هذا يقول الناقد محسن ويفي في دراسة بعنوان: من صور الوعي بالأزمة»، إن رحلة ناصر خمير هي رحلة معرفية في الأندلس بحثا عن الجوهر لأزمة تتعاظم أسبابها ومظاهرها المختلفة في مجتمعنا العربي الآن، فهي ليست حنينا لماض غاب واندثر إنما رحلة من أجل استكناه حلول معرفية لأزمة واقع الآن ينشغل فيه ناصر خمير ويتدثر بعذاباته المحبطة. في مقابل هذا الاتفاق النقدي حول فيلم «طوق الحمامة» نجد اختلافا نقديا في النظرة أو النظرات النقدية حول فيلم «الحلفاويين» أو «عصفور السطح» اخراج فريد بوغدير 1990 ففي حين أشاد به كل من الناقد أمير العمري في مقال بعنوان «الانفلات المبكر من المكبوت» ليس لتصويره الصادق لمجتمع الكبت الموروث والقهر الاجتماعي والنفسي . ونفاق الذات والتناقضات الكامنة بين الرجل والمرأة فحسب بل لسحره الخاص بايقاعه الموسيقى وفي رقته في اكتشاف الأماكن الحميمية في الحي الشعبي ولقطاته الشفافة وموسيقاه الناعمة، ويرى أنه أحد الأعمال المهمة في السينما التونسية والعربية التي تتعامل مع التعبير الذاتي للفنان عن رؤيته الشخصية. ويرى الناقد سمير فريد بأنه في تعبير المخرج عن سيرته الذاتية لم يكن هدفه التعبير عن الماضي ولا مجرد التلذذ النرجسي بسيرة الذات، إنما التعبير الصادق عن الواقع المعاصر، وأنه من الأفلام العربية القليلة التي تعبر عن اكتشاف المراهق للجنس في المجتمع العربي المعاصر. أما الناقدة خيرية البشلاوي في مقال بعنوان «العربي المتلصص على أجساد النساء» فإنها تعبر بعد أن شاهدته في مهرجان لندن عن مشاعر غير مريحة على الإطلاق بالرغم من أنه عمل مسل ويشد الجمهور بموضوعه الجرئ وتفسر شعورها بعدم الراحة بأن «هناك فريقا من المخرجين في مصر . وفي غيرها من بلدان المغرب العربي قد تم استئناسهم تماما لحساب الفكر والتصور الغربي المعادي في جوهره للحضارة والثقافة العربية وللمجتمعات العربية عموما، ويسعى الى نسف مقومات استمرارها بتصويرها بصورة حسية بدائية وبلا عقيدة راسخة وتقاليدها مجرد غطاء من النفاق الضعيف الذي تمارس من تحته كل ألوان التحلل وكل كبح أو ضوابط ومن هنا جواز مرورهم الى الغرب.. أمواله.. جمهوره وأحيانا قليلة جوائزه في المهرجانات الدولية..«!». وهي توسع اتهامها هذا من المخرجين الى النقاد الذين يقفون في نفس الطابور «يهللون لهذه الانجازات الكبيرة في المهرجانات الدولية الغربية».. وتختم مقالها بأن صانع الفيلم وكاتبه يسيء الى كل شئ حين ينتهي بفيلمه الى القول بأن هذا العالم الملئ بالكوابح هو في الحقيقة عالم داعر ومنافق رغم اللمسة الرومانسية التي تغلف هذا القول.. وهي ـ الناقدة ـ في نظرتها القاسية هذه تطيح بكل محاولة إبداعية في نقد مجتمعاتنا العربية من أجل الكشف عن عيوبها وإثارة الوعي من أجل علاجها، ألم تكن أفلام صلاح أبوسيف وعاطف الطيب وداود عبدالسيد.. وغيرهم من أصحاب تيار الواقعية والواقعية الجديدة من دعاة الكشف والتنوير وكانت أفلامهم انتاجا وطنيا مائة في المائة بدون حاجة الى بيع عيوبنا الى الغرب؟! وهي ـ الناقدة ـ نفسها التي تقول نفس الموضوع ليس من الرذيلة أن يكون الفنان جسورا وأن يقتحم المحرمات بشرط أن يكون دافعه الرغبة في تحرير الروح والمساهمة في كسر المعوقات التي تحول دون انطلاقها وبهدف تقديم نظرة للحياة أخصب وأجمل وأرحب.. فلماذا تحرم مخرجا مثقفا مثل بوغدير من هذه الدوافع النبيلة؟! إذا كان هناك اختلاف نقدي حول «حلفاويين» ـ فقد وصل هذا الاختلاف الى مدى أكبر.. الى درجة الزوبعة والاتهام الجارح مع فيلم «ريح السد» للمخرج نوري بوزيد «1986» بعد أن فاز بالتانيت الذهبي في مهرجان قرطاج، هناك من رحب بولادة مخرج جديد متميز جريء يملك من الوعي ما يمكنه من تقديم رؤية شديدة الخصوصية للمجتمع التونسي ومن ثم للواقع العربي.. وهناك من رفض الفيلم واتهم مخرجه بالعمالة الصهيونية وطالب بمنع الفيلم.. تتجدد هذه الضجة مصاحبة لأفلام بوزيد.. وصلت الى حد منع الأفلام التونسية من العرض في مهرجان دمشق السينمائي عام 1991 مما حدا ببعض السينمائيين والنقاد المشاركين في المهرجان الى إصدار بيان يطالب برفع الوصاية عن الفنان العربي. يرى الناقد علي أبوشادي في دراسة له عن الفيلم بعنوان «صرخة ضد القهر والتسلط والفاشية» بلاغة بصرية.. وشوائب سياسية! أن سينما بوزيد تمثل السينما التونسية في الثمانينيات.. سينما مثقفين.. قام كل مخرج بمغامراته المنفردة محققا فيلما مختلفا عن أفلام زملائه وعن معظم السينما السائدة في الوطن العربي، راح كل منهم يبحث عن هويته الخاصة جدا، وإن وحدت بينهم شاعرية التناول. وأخذوا عن سينما يوسف شاهين درس حرية التعبير عن الذات، ويضع «ريح السد» في نفس السلة مع «أحلام مدينة» - محمد ملص، و«عوامة 70» ـ خيري بشارة و«سرقات صيفية» ـ ليسري نصر الله، و«نجوم النهار» لأسامة محمد، وفي «ريح السد» يكشف بوزيد عن أدق تفاصيل حياته الخاصة من خلال الماضي والذكريات القديمة والقيود الاجتماعية التي تشد المرء الى الخلف، ومحاسبة ذلك الماضي، باعتبار أن أي تحول حقيقي يبدأ من معرفة الذات. يحلل أبوشادي الفيلم ويتوقف عند شخصية اليهودي «ليفي» التي أثارت الضجة والاتهام، يقدمها بوزيد بقدر كبير من التسامح.. عجوز يفيض بالحب والحنان.. يجد فيه بطل الفيلم الصدر الحنون الذي يأنس اليه، ويفضي له بعذاباته.. ويبرر أبوشادي اختيار بوزيد لشخصية اليهودي الحانية هذه بالواقع في تونس حيث كان اليهود والمسيحيون والمسلمون يعيشون في بلدة بوزيد ـ صفاقس ـ جنبا الى جنب.. ويضيف ربما لا نجد في «ليفي» أية أشارات سياسية ذات دلالة معينة، بل العكس، فنحن نرى رجلا يعيش حياتنا ويغني أغنياتنا ويحنو على أبنائنا، ولو لم يسمه الفيلم لما أدركنا أنه يهودي فثقافته ولغته ومفرداته عربية تونسية.. ووجودها داخل الفيلم لايسبب قلقا دراميا.. ولكنه ـ أبوشادي ـ يتساءل لماذا هذه الصورة لليهودي الآن؟ ويجد صلة بين الأفلام التي ضمت شخصيات يهودية مثل «اسكندرية ليه» لشاهين، و«الرجل المحجب» لمارون بغدادي، و«الصورة الأخيرة» للأخضر حاينيا و«طبول النار» لسهيل بن بركة.. وبين الفرنكوفونية التي ينتمي اليها هؤلاء المخرجون وأن أفلامهم تحظى بتمويل غربي، ويرى أن صناعها حين يحاولون تدشين الحاضر من خلال استخدام وقائع تمت في الماضي، وتاريخيا فإنهم بوعي أو من دون وعي ـ وأغلبهم شديد الذكاء والفطنة يصبون في نهر التطبيع. وهذه وجهة نظر محل احترام ولكن أيضا محل جدل..! وخاصة أنه يعود الى فكرة التسامح في الفيلم.. مؤكدا أن هذا لا يعني اتهام صانعه بالخيانة أو العمالة أو مصادرة حقه في التعبير، أو التصدي لجرأته على اختراق التابوهات ـ المحرمات ـ في الدين والسياسة والجنس، لأننا نؤمن بحق الفنان في حرية التعبير، وبحرية النقد أيضا، في أن ينبه ويحذر. في هذا يعلق الناقد عصام زكريا.. حول ما تعرض له بوزيد من انتقاد شديد بسبب تصويره الإيجابي للأسرة اليهودية، بقوله: إن مفهومنا عن الفيلم باعتباره هجائية لاذعة شديدة القسوة لبطريركية المجتمع العربي ومؤسسات القمع فيه، متجسدة في النواة الأساسية وهو الأب، هذا المفهوم يحمل في طياته تفسيرا لهزائمنا أمام الآخر، سواء كان اسرائيل أو أميركا أو العالم، ذلك أن المجتمع المخرب في داخله لا يمكن أن يكون فحلا أمام الآخرين». فيلم «صمت القصور» للمخرجة مفيدة تلاتلي 1994 له أربع دراسات نقدية، هناك شبه إجماع نقدي على أن الفيلم ينتمي الى سينما المرأة.. رغم أن السيناريو قد شارك في كتابته نوري بوزيد ويؤكد الناقد كمال رمزي على تفهم المخرجة لشخصية بطلتها، «تفهم عميق مرهف نابع بلاشك من خبرة ودراية مفيدة، المرأة لبنات جنسها، الأمر الذي يجعل من الفيلم صوتا نسائيا فريدا ومميزا،. وتكتب الناقدة خيرية البشلاوي أنه فيلم من صنع إمرأة منسوج بحساسية وتقول أن المرأة التي تحتل المركز وتشكل العمود الفقري على الشاشة وراء الكاميرا إنسانة ناضجة مثل الفيلم المشكل الذي يطوي عالما سريا يموج بالعذاب والمعاناة والعبودية والأحلام المجهضة والأماني التي تتلاشى كالسراب، ثم تعود لتتحدث عن المنظور البائس والمحبط لصورة المرأة داخل مجتمع عبودي طبقي وتختتم البشلاوي مقالها بأن الفيلم ينتهي والبطلة في الأغلال.. سجينة ماضيها وحاضرها، صوتها محبوس.. ونظام العبودية والتبعية التي تعيشه المرأة مازال قائما وتتساءل هل تعبر أفلام مفيدة تلاتلي القادمة عن حال مختلف؟ هل تقدم نموذجا لامرأة تونسية كتلك اللاتي تلتقي بهن فعلا في تونس.. متحضرة، مثقفة، عصرية، محملة بالقدوة وبالأمل في المستقبل للأسف لم تحقق تلاتلي رغبة البشلاوي فقد تناول فيلمها الثاني «موسم الرجال» المرأة مرة أخرى مقهورة يتحكم الرجل في قدرها! الشخصية اليهودية في السينما التونسية تبرز في فيلم آخر هو: حلق الوادي لفريد بوغدير 1996، أول فيلم تونسي يعرض بمهرجان برلين السينمائي الدولي، الذي سبق أن عرض فيلم «اسكندرية ليه» ليوسف شاهين، 1979، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، ويرى الناقد سمير فريد أن اختيار المهرجان لكل من الفيلمين يعبر عن وجهة نظر تؤيد التعايش والسلام بدلا من الحرب والصدم. لأن كلا من الفيلمين عن التعايش بين الأديان السماوية الثلاثة، ويتهم فريد النقاد العرب المعادين لليهود ـ الذين أدانوا الفيلمين بالفاشية، وبأن وجهة النظر في كل من الفيلمين لا تقول بالتعايش والسلام على نحو مطلق، أو على نحو يهدر حقوق الشعب الفلسطيني، إنما يفصل الفيلمان بين العداء لليهود والعداء لدولة اسرائيل الصهيونية التوسعية، ويؤكدان أن العرب لايعادون اليهود، وبهذا يخدمان القضية الفلسطينية ويفضحان الدعاية الصهيونية التي تقوم على اتهام العرب بالعداء لليهود. البيان الإماراتية في 14 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
قراءات نقدية لأهم الأفلام «السينما التونسية في مصر» كتاب جديد عن المجلس الاعلى للثقافة فوزي سليمان |
|