شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في 19 أغسطس عام 1974 نشر شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور مقالا مقتضبا علي صفحات مجلة روزاليوسف ينعي فيه الانحطاط الذي أصاب الفن والذوق ساخرا من هوجة أصابت الوسط الفني وقتها، في شكل تنافس علي إنتاج أعمال عن حياة الراقصات .. زوبة الكلوباتية وبمبة كشر وبديعة وأخواتهن من صاحبات السيرة «العطرة»!

وكان المقال علي قصره مليئا بالألم والصدمة والغضب والتحذير بأن هذه الهوجة فيها خطر سادر علي تاريخ الأمة ووجدانها ولا يستبعد مع استفحالها بأن يجد الطلبة في ورقة الامتحان سؤالا عن الاتجاهات السياسية للزعيمة بمبة كشر، أو عن أسباب ارتفاع وانهيار دولة وداد الغازية؟!

ما يهمنا هنا هي تلك السطور التي ختم بها شاعرنا الكبير مقاله وكانت أشبه بنبوءة يبدو أنها تحققت بعد 30 عاما علي نشره .. تقول«إن الوباء قادم لو لم ترفع صوتك احتجاجا عليه ومحاولة لرد هؤلاء الناس إلي عقولهم وأخلاقهم ووطنيتهم فقد كفاهم ما لوثوا به وجه مصر حين جعلوها مغارة لصوص أو وكر تجار مخدرات أو سلسلة متصلة من الكباريهات!!

بشفافية الشاعر الملهم كان صاحب «أقول لكم» و«الناس في بلادي» و«أحلام الفارس القديم» و«مأساة الحلاج» يري الطوفان قادما من يعيد وراح هو يصرخ ويحذر ويوضح وينبه إلي هؤلاء الذين يعيثون في وجدان الأمة فسادا لا فرق عندهم بين أم كلثوم وزوبة الكلوباتية، بل إن الأخيرة هي الأهم والأجدر بتحويل حياتها إلي فيلم يحشونه بالرقصات والالفاظ العارية والميلودراما الفاقعة يقينا بأن هناك من سيتهافت ويدفع .. ويضع الأموال اكواما في خزائنهم .. يومها ضحك الذين قرأوا مقال صلاح عبد الصبور واتهموه بالمبالغة وأن الخيال شطح به وأن الأمر لا يستأهل كل هذه البيانات والشعارات .. وتركوه وناموا.

وها هم أولادهم الآن يفتحون شاشات التليفزيون ليشاهدوا النبوءة التي حذر منها قبلهم شاعر ملهم .. شاخصة أمام أبصارهم .. عارية لا تقبل التأويل.

ليرحم الله صلاح عبد الصبور الذي كان يري بعين «الأولياء» الكارثة القادمة ولكن لا أتصور أنه كان يتوقع أن تكون متجاوزة في فداحتها وبجاحتها إلي حدود «لوسي».

في زمن تلاشت فيه الدهشة من كثرة عجائبه تحولت لوسي إلي مطربة وكان الأمر يهون لو أنها اكتفت بالأداء الأنثوي كما تفعل هيفاء وهبي ورفيقاتها، ولكنها قررت أن تتجاوز وتتفوق وتحول أغاني هيفاء التي يضرب بها المثل في السخونة والإثارة .. إلي لعب عيال!

وكان الأمر يهون ويهون لو أنها اكتفت بالغناء في أفلامها التي تقوم ببطولتها بفلوس زوجها كما حدث في «كرسي في الكلوب» عندما أغوت مدحت صالح بأن يشاركها في دويتو، ثم أضافت عليه عدة أغان وأصدرتها في ألبوم تفخر لوسي أنها سجلت أغانيه الإحدي عشرة في أسبوع، وكان هناك طابور من الملحنين والشعراء الأرزقية بالتأكيد يقفون علي بابها ويتغزلون في صوتها وفتنته ولولا الملامة لمنحوها تاج سيدة الغناء العربي!

صدقت لوسي أنها مطربة وأن عليها مهمة مقدسة في انقاذ الأغنية المصرية وإصلاح حالها المايل .. وكان لابد أن تصدق بعد أن قال لها - حسب زعمها - الموسيقار الكبير عمار الشريعي بأن في صوتها شجنا خاصا .. مع أنه رأي خبيث وحمال أوجه ولا يزيد عن مجاملة عابرة لا توحي بإعجاب واضح لأن الشجن في زماننا علي قفا من يشيل، وفي هذا السياق اتصور أن صوت عائشة الكيلاني أكثر شجنا من أغلب المطربين والمطربات.

وجاء التصديق عمليا في صورة كليب صادم فاضح ـ شيء منه سي دي دينا أرحم ـ هزمت فيه نجمات الغناء العاري بالضربة القاضية «تراودني الآن فكرة الاعتذار لنانسي عجرم وهيفاء وإليسا .. وحتي روبي .. أنهن يبدون - بعد «يا مغير حالي» وهذا هو اسم كليب لوسي ـ مساكين يستأهلن الشفقة.

نقلت لوسي الكباريه إلي شاشة التليفزيون رأسا ورقصا وهو أمر نشكرها عليه إذا كانت نيتها هي التسهيل علي الغلابة من المواطنين الذين لا يجدون طريقا لتلك الأماكن التي يشاهدونها في الأفلام والأحلام فقط فقررت أن تنقلها إلي بيوتهم..!

ولا أعرف لماذا تذكرت نظرات الدهشة في عيون ملكة الإغراء مارلين مونرو في المشهد الشهير عندما يرفع الهواء فستانها المثير لأعلي فينكشف كل المستخبي .. تذكرتها وأنا أقرأ تصريحا للوسي تبدي فيه دهشة أشد من تلك الحملة الموجهة ضدها وضد كليبها مع أنها لم تفعل شيئا يستحق كل هذا الغضب «إننا شعب يحب الغناء والرقص فما هي المشكلة؟! ثم إن الذي لا تعجبه الأغنية عليه أن يغير المحطة» هكذا قالت وتعجبت من وجود متخلفين في المجتمع عام 2004، ما زالت تثيرهم مثل هذه المناظر !

«جابت» لوسي من الآخر وحولت الأغنية إلي كباريه راقص .. المشكلة الآن ليست في لوسي بل فيما هو قادم فلابد أن المنافسات يفكرن في ما هو أسخن وأكثر إثارة وجذبا للانتباه بعد أن شاهد الناس «يا مغير حالي» ودخلت بيوتهم!

إذن هو الطوفان جاء .. البلاء الذي تنبأ به وتوقعه شاعرنا العظيم صلاح عبد الصبور تحقق، بل تفوق علي خياله .. فلو رأي كليب لوسي لشارك هو بنفسه في كتابه أفلام عن بمبة كشر ووداد الغازية وزوبة الكلوباتية، فأمرها يسير وهين وخطرها محدود!

قرأت أن المسئولين في ماسبيرو وقرروا غربلة أغاني الكليب وعرض ما هو صالح منها فقط وقرأت أن نقابة الموسيقيين أعلنت الحرب علي «العرايا» وستطاردهن كما تطارد فتيات الليل .. وسمعت أن نقيبها الموسيقار حسن أبو السعود طالب بتحويل لوسي للتحقيق بسبب هذا التجاوز ولغنائها بدون ترخيص.

وأتصور أنها كلها قرارات هزيلة لا تكفي لمواجهة هذا الطوفان الذي يدمر الذوق ويخرب الوجدان .. التحذير النبوءة الذي أطلقه صلاح عبد الصبور قبل 30 عاما .. «إن الوباء قادم لو لم ترفع صوتك احتجاجا عليه، ومحاولة لرد هؤلاء الناس إلي عقولهم وإخلاقهم ووطنيتهم» .. ما زال صالحا .. جاء الوباء .. فقاوموه!

جريدة القاهرة في  6 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

إحتجاج علني على أغنية فاضحة

نبوءة صلاح عبد الصبور التي حققتها الراقصة لوسي