شعار الموقع (Our Logo)

 

 

-1-

مثل حكايةٍ خيالية تسردها أمك او جدتك: "كان يا ما كان … او في قديم الزمان". حكايةٌ تصحبها موسيقى كمان إكزوتية كما في "شهرزاد" … يتسلّل الى روحك العالم الفنتازي، غير المرئي، الأعلى قليلاً – او الأدنى – من عالمنا الواقعي. يبلعك الفنتازي دفعة واحدة، ولا يعطيك سوى الدهشة والقلق. فهو ليس تحوّل غريغور سامسا المفاجئ والقَدَري الى حشرة ضخمة في أحد نهارات براغ. الفنتازيا شيء آخر. لا تأخذ من المكان سوى اسمه ثم تضع الأشخاص في مواقف غير مُتوقعة كما في الف ليلة وليلة. هذه ليست بغداد التاريخية او القاهرة او الهند او الصين، ربما لها الرائحة او العبير وبعض الذكريات. اما هارون الرشيد – الليالي، فهو ليس الخليفة الذي نعرف عنه الكثير، وإن كان يحمل بعض الصفات الشخصية التي نجت من كتب التأريخ ودخلت الى الذاكرة الأسطورية. فحصلنا في الليالي على أقوى شخص في التاريخ الإسلامي في مواقف لا تتلاءم مع هذه القوة والمكانة. كاتب الفنتازيا او كتّابها؛ هم رسلٌ لعالمٍ منبعه بهجات الطفولة ومخاوفها، آمالها وممنوعاتها؛ المسكوت عنه ومُباحاتها. وقد تمتلئ الفنتازيا بالخوارق والمغامرات والمفاجآت، لكنّ الأهم هو السرد. والأهم من الأهم: هو بدأ السرد؛ موسيقى الكمان، الكلمات السحرية، الصوت الآسر لشخص حبيب يكرِّس نفسه كليّةً ليقودنا الى عالم يبنيه لحظة بلحظة real time بكلماته وتوقفّاته.

يصبح السارد الفنتازي معلِّماً وسط تلاميذ مذهولين في اول درس للكيمياء العملية؛ الألوان والأبخرة والأصوات تتوالد في لحظة واحدة في أنابيب الاختبار. ومثل الكيمياء وعناصرها (الراقدة) في طيّات الكتب، تمتلك الكلمات – فجأة – حياةً صاخبة في الفنتازيا، حتى لنستطيع تشبيه الفنتازيا بدرس تجريبي للكلمات. وهذا هو السحر. الكلمة تُحقِّق فعلاً. وهكذا نقترب حتى من جوهر الدين وسفر التكوين. كُنْ فيكونْ. كل شيء صار بالكلمة. يحسُد البشر الآلهة، ويحاولون الاقتراب منهم … بخلق عوالم جديدة، خاصة، ولا ينسوا أن يضفوا عليها بعض القداسة او الأسطرة. الفنتازيا المثالية يجب أن تكون آسرة، ساحرة، مُسيطرة، لا تكتفي بقلبك فقط. الفنتازيا التي يظلّ معها عقلك يعمل كالسابق، ليست فنتازيا. انّها أدب حديث. وهذا شيء آخر. الفنتازيا: مُغلقة، لا تطرح الا تساؤلاتها الخاصة، لا فكاك من سيروراتها وأقدارها؛ تاريخ خلاصي باتجاه واحد في فوضى الأشياء. لا تتحمّل الفنتازيا أي تأويلات شعرية او إستعارية، وإن كانت تحوي الكثير من الشعر والاستعارة في أحايين كثيرة. وما لم يُؤخذ الجنس الفنتازي بحرفية او جدّية فانه لا يتحقّق أبدا. فهو مرتبط بزمن القراءة او السرد او المشاهدة، ويمارس تأثيراً نفسياً مصاحباً للسرد او القراءة او المشاهدة. ولأنه اسهل تحقّقاً وتحقيقاً مع الأطفال، توصف الأعمال الفنتازية بأنها طفولية الطابع. ولهذا ايضاً فهي فرصة لاستعادة الطفولة والإمساك بالطفل النائم في دواخلنا. إنها فرصة لتذكيرنا بالصراعات والقيم الأساسية التي نفقدها او ننساها. وبرغم قابلية الفنتازي على حمل كافة الأحاسيس وتمثِّل الاتجاهات الأدبية المختلفة: الرومانسي، السوداوي، التراجيدي، الكوميدي وحتى العبثي … فانّ هذا النوع او الجنس يكاد يختفي في الكتابة المعاصرة. لكنه يحيا في السينما بما لها من إمكانيات ضخمة في تجسيد العوالم الغريبة وما تحويه من وحوش وكائنات وما يتخلّل هذه العوالم من مغامرات ومخاطر وأحاسيس ومشاعر.

 

-2-

ويبدو أن الفنتازيا كان لها دور مهم في السينما العالمية في السنوات القليلة الماضية، بعد أن أسست لنفسها منذ عام 2001 عبر فلمي (سيد الخواتم: اتباع الخاتم) و (هاري بوتر وحجر الفلاسفة). وفي مواسم الأعياد ورأس السنة لعام 2002 و 2003 شهدنا عرض فلمي (البُرجان) و (عودة الملك) تباعاً، وهما الحلقتان التاليتان من ثلاثية الكاتب الإنكليزي J.R.R.Tolkien المعروفة باسم (سيد الخواتم). وقد حقّقت الحلقات الثلاثة نجاحاً تجارياً وفنياً "خرافياً"، وترشّحت لما يقارب الـ 40 من جوائز الأوسكار ونالت حوالي الـ 20 من هذه الجوائز. وبرأي العديد من النقّاد وعشّاق السينما؛ فان سلسلة الأفلام هذه تعتبر من أهم الأفلام في السنوات الأخيرة، وهي بالتأكيد أهم "فلم" فنتازي في تاريخ السينما. وقد أمتازت السلسلة بالأمانة والإخلاص للعمل الأدبي الذي أُخذت منه. كما جسَّد الأدوار مجموعة رائعة من الممثلين من بينهم ايان ماكيللين، كريستوفر لي، ايليجا وود، كيت بلانشيت، ليف تايلر، فيغو مورتينسون وآخرين. وإذا كان مخرج العمل النيوزيلندي (بيتر جاكسون) يعمل في وطنه الام وأراضيه البكر، التي تحوّلت في الفلم الى (الأرض – الوسطى) التي تدور فيها أحداث ملحمة سيد الخواتم، فانّ المخرج الأمريكي (كريس كولمبس) ترك وطنه ليستقر مع عائلته في بريطانيا مكرِّساً نفسه كلياً للعمل في مشروع السنوات السبع؛ ونقصد تحويل الاجزاء السبعة من قصص الساحر الصغير (هاري بوتر) للكاتبة البريطانية J. K. Rawling الى السينما. حيث شهدنا عرض الحلقتين الأولى (هاري بوتر وحجر الفلاسفة)، (هاري بوتر وغرفة الأسرار). وهو فلم طفولي الطابع الى حد كبير، مَرِح على عكس سيد الخواتم، السوداوي الموجّه للكبار بالدرجة الأولى. وبالتأكيد فان سيد الخواتم نال احتراما اكبر، إلا إن لهاري بوتر شعبية هائلة ومستقبلاً زاهراً قد يمتد الى عام 2007، كما تمكّن الفلم من الحصول على بعض الترشيحات للأوسكار وإنْ لم ينلْ أي جائزة، بالإضافة الى   عوائد مالية ضخمة في شباك التذاكر نافست عوائد سيد الخواتم. وتمتاز هذه الأفلام الفنتازية الجديدة بكونها إنتاجات ضخمة جداً، تتجاوز تكاليفها او تكاليف كل جزء منها حاجز الـ 150 مليون دولار بسهولة، كما تحتاج الى حملات دعائية وتسويقية كبيرة على مختلف وسائط الميديا الحديثة. ومثل سيد الخواتم، فان فلم هاري بوتر أعتمد كلياً على الفنانين الإنكليز الكبار في تجسيد الأدوار؛ مثل ريتشارد هاريس، الآن ريكمان، ماغي سميث، داني رادكليف، روبي كولتران وآخرين. وقد كان ملفتاً للنظر منذ عام 2001 النجاحات الساحقة لفلمي هاري بوتر وسيد الخواتم، وتحقيق كل منهما في شباك التذاكر الأمريكي وحده عوائد تجاوزت الـ 300 مليون دولار، مع إن الفارق الزمني بين عرضيهما لم يتجاوز شهراً واحداً. وربما يعزى السبب الى أحداث ومآسي الحادي عشر من سبتمبر وأجواء التوتّر والكساد الاقتصادي الذي ساد العالم في الأشهر الأخيرة من عام 2001. لكن هذه النجاحات استمرت حتى خلال الأعوام التالية رغم كل شيء.

 

-3-

والحقيقة التي يجب أن تُقال، انّ معظم الأفلام الفنتازية تعاني من مشاكل عديدة، تؤدي في النهاية الى انفصال المشاهدين عنها وقت المشاهدة، أي انها لا تحقِّق ما يسعى اليه عنصر الفنتاستيك، ونقصد الغرابة والتردّد والقلق الراهنْ. ومن أهم الأفلام الفنتازية التي حققت شروطها ومتطلّباتها في رأينا؛ فلم (ايكسكاليبور Excalibur) للمخرج البريطاني (جون بورمان) عام 1981، الذي أدخلنا تماماً الى حكاية الملك آرثر والساحر (مرلين) وأساطير الأرض الخراب والبحث عن الكأس المقدّسة، الأثيرة على قلوب محبّي الشعر والفكر الأسطوري. إن أجواء السحر والحزن والكوارث والمآسي التي تسود الفلم تصيب المشاهدين بالصدمة، بفضل التمثيل المتفوِّق لطاقم الممثلين ورؤيا المخرج الكارثية. وعلى العكس من هذه الرؤيا الكارثية، فان فلم المخرج روب راينر (الأميرة العروس) عام 1987، يحفل بالمواقف الطريفة الساخرة في جو من المغامرات الفنتازية وقصص الحب الرومانسية، التي يسردها جدٌّ معاصر لحفيده الصغير. وهكذا فان الفلم يوجِّه رسائلاً للصغار والكبار، وبفضل المغامرات والمفاجآت التي تملأ الفلم، فانه ينجح في نقل المشاهدين الى عالم فنتازي، خفيف الظل، متوازن الى حدٍ ما. وأمام هذا الانحسار الفنتازي في السينما، او اختلاط (الجنس) الفنتاستيكي بالخيال العلمي والمغامرات، فانّ المصدر الأهم للحكايات والمغامرات الفنتازية المرئية يقتصر على العاب الفيديو القصصية المسماة RPG من أمثال سلاسل العاب  Final Fantasy، Ocean Star، Fantasy Star وغيرها. وبفضل اهتمام صنّاعها بالسرد والحكي وبناء الشخصيات، وإطلاق العنان للخيالات الأسطورية والآلهة التقليدية، فان هذه الألعاب تنقل الى المشاهدين – او اللاعبين – تجربة فنتازية ملحمية طويلة. لكن عندما حاول صنّاع لعبة  Final Fantasy الانتقال الى السينما وصنع فلم فنتازي (الأرواح الداخلية) لاقوا فشلاً ذريعاً، لأن الفلم خرج من الفنتازيا وسقط في فخ الخيال العلمي والأكشن والمحاضرات الفلسفية (الخاصة). وأمام كل هذا، تبدو تجربة بيتر جاكسون في فلم سيد الخواتم – والى حدٍ ما تجربة كولمبس في هاري بوتر - هي الانجح والأبرز والأكثر جدية وإقناعاً، في تصوير الأجواء والعوالم والشخصيات الفنتازية وتحويلها الى واقع راهن، مُقلق، خطِر، يتعلّق مصيرنا – ومصير العالم بأكمله – بمصير أبطال الفنتازيا. وهكذا تُصبح المغامرة الفنتازيّة رسالة او مغامرة (خلاصيّة) للإنسانية.

موقع "إيلاف" في  7 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

من الفنتازيا إلى السينما

يوخنا دانيال