شعار الموقع (Our Logo)

 

 

تمهيد

قد لا يختلف اثنان في كون اختراق السينما لفضائنا العربي تم بطريقة اقل ما يمكن ان توصف به انها قيصرية، حتى ان هذا الفن لم يستطع بعد الاستقرار في كل مناطق الجغرافيا العربية سواءا عن طريق الممارسة الفعلية والانتاج اوعن طريق الاستهلاك والتلقي فحسب. ففي الوقت الذي استطاعت فيه بعض الاقطار العربية انتاج افلام مطولة منذ العشرينيات الاولى من القرن الماضي نجد اقطارا اخرى ربما تفتقر الى يومنا هذا حتى الى دور العرض السينمائي .

ان السينما بوصفها عنصرا من عناصر الحداثة الغربية من جهة، واندراجها ضمن اطار ما يسمى بالثقافة البصرية من جهة اخرى، تتناقض كليا مع مكونات الثقافة العربية والاسلامية المبنية اساسا على الثرات الشفوي وما صاحب ذلك من هامشية للصورة ومعاداة للايقونة، بالرغم من كون المتخيل العربي قد سجل مبكرا بدايات التفكير في بعض عناصر هذه الصورة. فالادب الصوفي ابرز مفهوما معينا لها يمكن تصنيفه في اطار مفهوم حضرة الخيال لابن عربي في نصوص الحكم، غير ان عالم الخيال هذا يبقى رمزيا اذ ان الكلمة هي التي تقول الصورة في حين تبقى هذه الاخيرة مجرد وجود ذهني غير قابل للتشخيص.كما يرى الغزالي في مشكاة الالوان ان العين نور بالنسبة للاشياء وعتم بالنسبة للقلب، والعين هي معهد الالوان والاشكال لكنها لا توصل الا اخباريات القلب، فالعين اذن هي عين هذا الاخير اي القلب مما يعني ان الصورة تبقى باطنية وغير متمظهرة. كما ان المجال العلمي العربي عرف منذ القرن العاشر الميلادي علامات وخطوات في هذا الاتجاه، منها تلك التي اقترنت باسم الحسن ابن الهيثم،عالم البصريات، الذي عرف بوصفه وصفا دقيقا للعين مبينا ان سرعتها اكبر من سرعة الصوت وان اشعاع الاجسام بواسطة اشعة الضوء تنعكس من هذه الاجسام وترتد الى العين وليس العكس، كما اشار ابن الهيثم الى مبدا ابقاء الرؤية اوما يسمى الدائرة الضوئية، وهذين المبدأين اديا فيما بعد الى اختراع السينماتوغراف سنة 1895.

لكن العالم العربي لم يتطور وبقي اسير الثقافة الشفهية التي برعت فيها مجتمعاته متناسية ملكتي الفن والصناعة مما حال دون استيعابها للتقنية السينمائية بالرغم من اكتشافها المبكر للسينماتوغراف في مصر اولا حيث شهدت قاعة توسان باشا اول عرض للاخوين لوميير بالوطن العربي في السادس من نونبر 1896، وبعدها المغرب بالقصر الملكي بفاس سنة بعد ذلك. هذا الاكتشاف الذي كان انبهاريا اكثر منه مولدا للاسئلة والفضول لتملك اسرار هذه التقنية الجديدة، حتى ان التجارب التي تولدت عمليا بعد ذلك اعتمدت صيغا هجينة كانت ولا تزال، مع بعض الاستثناءات، تسجل ما هوموجود تقنيا دون اعادة خلقه اومحاولة تطويعه .

ان مجموع الاحداث التي صاحبت ولادة فن السينما انتاجا واستهلاكا بالوطنين العربي والاسلامي تستدعي محاولة التأريخ لها لفهم الخارطة السينمائية التي تميز هذا الجزء من العالم بعد مرور اكثر من قرن على اختراع السينماتوغراف . فاذا كانت الخزانات السينمائية، اوما يسطلح على تسميته يالسينماتيك،تسعى لان تكون ذاكرة البلدان المصورة فان غيابها في غالبية البلدان العربية باستثناء الجزائر _ منذ 1965_ والمغرب ابتداءا من سنة 1995، يجعل من محاولات التوثيق الدقيق لكل ما له علاقة بالميدان السينمائي العربي ضرورة ملحة للتقرب اكثر فأكثر من الظروف الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية  والثقافية التي سمحت بازدهاره في اقطار معينة وانحساره في اقطار اخرى، وبالتالي التأريخ للفعل السينمائي العربي وما رافقه من احداث ووقائع خصوصا مع الفراغ الحاد الذي تعانيه الخزانة العربية في هذا الصدد.

ان اشكالية التأريخ للسينما كانت دوما في صدارة اهتمامات عشاق الفن السابع. ولعل اهم المحاولات التي سعت للمساهمة في وضع تاريخ للفن السابع في مراحله المتتالية تلك التي قام بها كل من جاك ديكون وايميل كريس من خلال مؤلفيهما (السينماتوغرافية العلمية والصناعية) و(تاريخية السينما) المنشورين في المرحلة ما بين 1911 و1912، ثم  ميشيل كواساك في كتابه (تاريخ السينماتوغرافية الى يومنا هذا) 1925 ووبعده روبير براسيلا وموريس باربيش صاحبي كتاب (تاريخ السينما) 1935....الخ.

لكن التأريخ العام للسينما الذي ابتدأ جورج سادول نشره سنة 1946 يبقى في نظر المهتمين اول مساهمة علمية حقيقية في هذا المجال اضافة لاعمال جان ميتري في نفس السياق. ولقد حدد جورج سادول، في حوار له مع مجلة ( النقد الجديد ) في عددها السابع والاربعون الصادر بتاريخ اكتوبر-نونبر 1971، الوسائل الثلاثة التي بامكان المؤرخ السينمائي الاستعانة بها واتباعها كقاعدة لعمله في : مرجعيات ومنابيع على الورق مخطوطة كانت اومطبوعة كوسيلة اولى، المنابيع الشفوية كالبيانات والبلاغات والمقابلات المستجمعة من طرف النقاد كوسيلة ثانية ثم الاشرطة والمنابيع الفيلمية ذاتها وهي المنابيع الاكثر جوهرية كوسيلة ثالثة. ليبقى الاهم من كل هذا وذاك كون المؤرخ السينمائي مطالب باكتساب التكوين التاريخي اكثر من التعمق في المعرفة السينمائية حيث لا يقتصر عمله على مجرد احصاء بسيط وتراكمي للافلام بل يتجاوزه الى التركيز على نظرية السينما كتطبيق دلالي مبين في سلسلة المحددات المركبة ذات الطابع الاقتصادي،السياسي والايديولوجي، أي التأريخ المادي للسينما كما يدعواليه جان كومولي الذي يعتبر الفيلم منتوجا ايديولوجيا محددا باكراهات اقتصادية رأسمالية.

تأسيسا على كل ما سبق، ومن منطلق المساهمة في سد الفراغ الذي تعانيه السينما العربية في مجال التأريخ لمختلف مراحل بداياتها وتطورها تأتي هذه المقالة حول تاريخ السينما بالمغرب : بدايات توطنها، تاريخ بنياتها التحتية واخيرا بدايات دورتها التجارية انتاجا، توزيعا واستهلاكا لفترة ما قبل الاستقلال السياسي عن فرنسا أي ما قبل سنة 1956.

بدايات توطن الفن السينمائي بالمغرب

قليلة هي الاحداث التي ميزت تاريخ البشرية وكونت نقط تحول كبرى في حياتها كما كان الشأن بالنسبة  لاكتشاف الزراعة مثلا اوالاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر وبعدها الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر...الخ دون ان ننسى اختراع السينماتوغراف في الثامن والعشرين من شهر دجنبر سنة 1895. وبفعل الاهمية القصوى التي اكتسبها وتأثيره العظيم على تاريخ البشرية منذ ذلك التاريخ، لم يمر وقت طويل حتى انتشر هذا الفن / الصناعة في مختلف مناطق العالم بل اضحى واحدا من العناصر المعتمدة في قياس درجة تطور وانفتاح وتقدم كل دولة على حدة. من هنا تستدعي اية دراسة لواقع السينما الحالي في اية منطقة من المناطق الغوص في بداياتها والظروف التي رافقت ولادتها وتطور بنياتها على المستويين المؤسساتي والتقني.

يعود اول احتكاك للمغرب بالسينما الى عام 1896 أي سنة واحدة بعد ظهور هذا الفن . في هذه السنة تم تصوير اولى المناظر المتعلقة بهذا البلد من طرف تقنيي مؤسسة الاخوين لوميير على شكل شريط يحمل عنوان (راعي الماعز المغربي) المسجل على لائحة قائمة المناظر المتحركة التي الفها هؤلاء تحت رقم 1394 . هذه القائمة التي ضمت ما يقارب 1800 شريطا من بينها ستين فيلما متعلقا بشمال افريقيا حظيت دولتي تونس والجزائر بنصيب  الاسد منها . اما اول عرض سينمائي عمومي فيعود تاريخه الى سنة 1897 بالقصر الملكي بفاس حيث صرح ادغار موران، رئيس الغرفة النقابية للسينما في فرنسا اذذاك، معلقا على ما خلفه هذا العرض في نفوس السكان من اثار بقوله (لقد اعجب المغاربة ايما اعجاب وسحروا لما شاهدوه . انا متأكد من الاثر الايجابي لمثل تلك الامسية على مدى تأثيرنا). لكن التوطن الحقيقي للسينماتوغراف بالمغرب سيبدأ مع اطلالة القرن العشرين وبالضبط ابتداءا من سنة 1901 وذلك في ارتباط وثيق مع الارهاصات الاولى لمرحلة ما سمي بالحماية الفرنسية 1912- 1956 . فموازاة مع حلول الفيالق الفرنسية بالمغرب في يوليوز 1907 حرصت السلطات الاستعمارية على توثيق هذا الحدث سينمائيا على يد فيليكس ميزكيش، الذي اشتغل كمبعوث لصحيفة لوجورنال الفرنسية وقتها مكلفا بتغطية الحدث، ليكون بذلك وراء ثاني شريط مصور بالمغرب، توقف بعدها أي نشاط من هذا القبيل الى غاية سنة 1919 التي ارخت لميلاد اول شريط روائي ينجز كليا بالمغرب تحت عنوان (مكتوب) حاملا توقيع المخرجين الفرنسيين جان بينشون ودانيال كوينتان في نطاق ما يسمى بالسينما الكولونيالية التي تعرف بكونها مجموع الافلام الاجنبية المصورة بالمغرب الكبير وعنه طوال الفترة الاستعمارية . ويعزى تأخر تاريخ انجاز هذا الشريط الى انشغال السلطات الاستعمارية بتهدئة الوضع السياسي والاجتماعي المتوثر الذي صاحب الاقرار الرسمي لـ(الحماية الفرنسية) على المغرب بحلول سنة 1912 . ولم يفت تلك السلطات وهي تنظم سائر اوجه الحياة الادارية، الاجتماعية والاقتصادية  بمستعمرتها الجديدة اعطاء اهمية خاصة للقطاع السينمائي ادراكا منها لخطورته الاعلامية واهميته الدعائية .

لقد سعت السلطات الى جعل (محميتها) مجرد سوق استهلاكية تساعد على استيعاب انتاجها السينمائي المتنامي، مما يفسر بديهيا كون اولى النصوص المنظمة للقطاع السينمائي بالمغرب تعلقت بالمنشآت السينمائية ومراقبة الافلام بما يضمن استخلاص الموارد الجبائية الخاصة بالقطاع من خلال قرار وزاري مؤرخ في 22 ابريل 1916 الذي اعتبر السينما قطاعا تجاريا ككل القطاعات الاخرى دون أي  تمييز يذكر . ودعما منها لهذه السياسة اصدرت سلطات الحماية ما اسمته انذاك  (قانون الفقراء) على شكل ظهير حمل تاريخ 10 اكتوبر 1917 كان هدفه الاساسي تشجيع شعبتي التوزيع والاستغلال دون ايلاء أي اهتمام بالانتاج المحلي .

لقد كان الهدف من كل ذلك تحويل (المحميين) اوالاهالي الى مستهلكين نهمين لخطابات ايديولوجية كولونيالية تقدم فرنسا (البلد المستعمر) كقوة متحضرة  وكمصدر للتقدم والتطور ضاربة عرض الحائط بالموروث الشعبي والثقافي والديني للمغرب (البلد الواقع تحت سيطرة الاستعمار)، مما يضفي على نظام الحماية صفة الشرعية المطلقة ما دامت فرنسا – حسب هذا الخطاب الايديولوجي – لا تسعى الا الى نقل الحضارة والتقدم الى البلد المحمي . ولعل افضل ما يوجز اهداف ومرامي هذه السياسة السنمائية، المذكرة المؤرخة في يوم 31 دجنبر 1920 التي حدد من خلالها الماريشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي بالمغرب ما بين سنتي 1912 و1925، الدور المنوط بالسينما  بقوله : ( لا يمكن ان نشك في النتائج السارة التي يحق لنا انتظارها من استخدام جهاز العرض السينمائي كأداة لتربية محميينا . فالافلام والمناظر المناسبة ستترك دون شك في ذهن المغاربة البكر اثارا عميقة بخصوص حيوية وقوة وثروة فرنسا وادراك وسائل عملها والادوات التي تصنعها وجمال مناظرها ومنتجاتها).

نستفيد من هذه المذكرة اذن ان الاقامة العامة الفرنسية بالمغرب خططت لجعل السينما في طليعة الوسائل التي اعتمدتها كوسيلة دعائية لتسهيل مهمة سيطرتها على البلاد. وليس ادل على ذلك  ما كتبه HENRY.R في مؤلفه " السينما بالدول الاسلامية : الوضعية الحالية بالمغرب " الذي رغم اختلافه مع السلطات الاستعمارية من حيث الشكل فانه يتفق معها من حيث الجوهر، حيث اشار الى ان الدعاية تحقق نتائج افضل كلما اتخذت شكلا غير رسمي . لهذا وجب في نظره التركيز على الانتاج الموجه الى السكان المحليين بدل الاعتماد الكلي على افلام انتجت خصيصا للاروبيين . لكن السؤال الذي يطرح نفسه موازاة مع كل ما سبق يتعلق بمدى نجاح هذه السلطات في مسعاها، وقبل ذلك في اختراق التقاليد المحافظة والاحترازية التي تميز عموم شعوب المنطقة وبالتالي مدى نجاحها في توطين الفن السابع بها وضمان امكانيات الاستمرار والبقاء له.

من المعروف ان حمل الدول العربية والاسلامية على قبول وتقبل هذا الوافد الفني لم يكن بالمهمة السهلة بالنسبة للسلطات الاستعمارية خصوصا وان المجتمعات الاسلامية لم تكن مهيئة لتبني هذا المولود الجديد لعدة اسباب نجملها في نقطتين اساسيتين : الاولى تستمد قوتها من الدين الاسلامي ذاته اومن الفهم الشائع لتعاليمه واعتباره معاديا للايقونة، وبالتالي فكل تشخيص اوتصوير يعتبر وفق هذا المنظور محرما كما الشأن بالنسبة للديانة اليهودية على عكس ما ذهبت اليه الديانة المسيحية . هذا الفهم يجد تفسيره في اماكن العبادة حيث يمنع وجود اية صور اوجداريات مصورة بالمساجد والمعابد اليهودية في وقت تعج فيه الكنائس بشتى انواع الصور المجسمة للمسيح مثلا. اما النقطة الثانية فتتعلق اساسا بمنبع الفن السينمائي ومصدره، ففرنسا – في حالة المغرب- اصل السينما والدولة المغتصبة للارض والوطن في ذات الآن، من هنا تكون في ذهن المغاربة احساس بوحدة اصل السينما واصل المعاناة التي يرزحون تحت وطأتها . لهذه الاسباب وغيرها تولدت العديد من المبادرات المتوجسة الداعية الى نبذ الفن السابع في الاوطان الاسلامية وان كانت بدرجات متفاوثة الحدة. ففي مصر تزعم علماء الازهر في الفترة ما بين سنتي 1926 و1927 حملة تدعو لعدم قيام أي انتاج سينمائي مصري معتبرين السينما وسيلة ترفيه خطيرة. اما في سوريا – الموضوعة وقتها تحت الحماية الفرنسية- فقد تظاهرت جمعية انصار الفضيلة امام صالات العرض مطالبة وزير الداخلية وقتها بمنع المسلمين من ولوجها مع ارسال رسائل تهديد للنساء المتفرجات. كما اصدر المؤتمر الاسلامي المنعقد بكراتشي سنة 1952توصية تدعو الى اغلاق كل القاعات السينمائية المتواجدة بالدول الاسلامية.

اما في المغرب فقد كانت ردود الفعل الشعبي اقل حدة لعدة اسباب نذكر منها تبنيه للمذهب المالكي الاقل تشددا وكذا ضعف التيار الاصولي المحافظ داخل منظومة المجتمع المغربي مقارنة ببقية المجتمعات الاسلامية الاخرى، لكن المغاربة بفعل الخلط بين اصل السينما والاستعمار كما اشرنا اليه سابقا، انتهجوا سياسة مقاطعة المنتوج السينمائي الموجه اليهم مما ادى الى افلاس العديد من القاعات كصالة بوجلود بفاس اذ تشير رسالة سرية مؤرخة بتاريخ 11 يونيو1948 موجهة من طرف رئيس قسم السينما الى كل من مدير الداخلية، رئيس مصلحة الاعلام، مدير الديوان الملكي والسكرتير العام للحماية الى ان هذه القاعة اجبرت على اغلاق ابوابها بفعل مقاطعة الاهالي لعروضها وانها على وشك ان تباع لمجموعة من المسلمين . كما تشير نفس الرسالة الى امتناع جريدة العلم –التابعة وقتها للحركة الوطنية  السياسية- عن نشر اعلانات اشهارية لفائدة سينما المامونية منذ اسبوعين من كتابتها – أي الرسالة- تحت ذريعة وجود مستثمرين يهود ضمن مالكيها.

هذه الوقائع وغيرها تفند بشدة مزاعم وادعاءات بعض الكتاب الفرنسيين الذين اعتبروا انذاك ردود الفعل لدى "محمييهم" رجعية وسلبية بالمعنى القدحي للكلمتين، علما ان تاريخ بدايات السينما باوربا – وبفرنسا على الخصوص- يوضح ان فيلم الاخوين لوميير " الدخول الى المحطة " الذي يصور قاطرة قادمة في اتجاه الكاميرا جعل المتفرجين الفرنسيين يقفزون من اماكنهم مخافة ان تصدمهم القاطرة....

تاريخ البنية التحتية السينمائية بالمغرب

لقد كانت السلطات الاستعمارية ممثلة باقامتها العامة بالمغرب واعية بالدور الطلائعي الذي ستضطلع به بنية تحتية متينة للقطاع السينمائي على المستويين التقني والتشريعي في تدعيم اي نمواوتقدم يمكن تسجيله ببلادنا. من اجل ذلك سعت هذه السلطات جادة لتمكين محميتها من منشآت سينمائية تستطيع من خلالها تصريف منتوجها الفيلمي قبل التفكير في اية امكانية لتشجيع الانتاج المحلي. فليس غريبا اذن تسجيل كون قاعات العرض  اولى البنيات التي اوليت لها العناية قبل التوجه نحوالقطاعات الاخرى خصوصا ما تعلق منها بالتشريع الضرائبي ثم الاستوديوهات فالمعامل والمختبرات.

لقد كانت العروض السينمائية الاولى بالمغرب تقام في اماكن مختلفة غير مجهزة لهذا الغرض في اطار ما اسطلح على  تسميته بالسينما المتجولة . لكن الرغبة الاكيدة للسلطات الفرنسية في الاستفادة من الامكانيات التي يتيحها هذا الفن في مجال الدعاية لايديولوجيتها الاستعمارية وتسريبها بطريقة لا تتخذ طابعا رسميا، جعلها تنطلق فعليا في بناء وانشاء الصالات المعدة للعرض في المناطق الحضرية على الخصوص. والحقيقة ان وثيرة انشاء هذه القاعات عرفت تصاعدا مطردا ابتداءا من سنة 1934 كما يتبين من الجدول التالي الذي يرصد تطور عدد القاعات والمقاعد المتوفرة بها طوال الفترة مابين سنتي 1934 و1956 التي تؤرخ لنهاية الاستعمار الفرنسي المباشر للمغرب :

 

** تطور عدد القاعات والطاقة الاستيعابية  في المرحلة ( 1934-1956) **
عدد المقاعد المتوفرة                    عدد القاعات                    السنوات

1.360                                         3                                 1934
2.420
                                         4                                 1935
                                              -                                   1936
2.924
                                                                         1937
                                              -                                   1938-1939
5.245 
                                                                        1940
6.949 
                                       11                                 1941
8.381 
                                       13                                 1942
10.020
                                      16                                 1943
14.657 
                                     25                                 1944
18.057
                                      32                                 1945
21.686 
                                     36                                 1946
31.235 
                                    50                                 1947
37.231
                                     59                                 1948
49.014
                                     79                                 1949
55.982 
                                    92                                 1950
62.504 
                                    104                               1951
73.575
                                     122                               1952
76.219 
                                    128                               1953
80.769 
                                    138                               1954
82.474 
                                    141                               1955
93.323
                                     162                               1956

 

ان اي تحليل لمعطيات هذا الجدول  قد يكون سطحيا اذا اقتصر على مجرد التحليل الكمي الرقمي دون ربط ذلك بالظروف التي عاشها المغرب طيلة الفترة التي يغطيها. وقبل الخوض في ذلك لابد من التأكيد على ان وثيرة بناء القاعات ظلت في خط تصاعدي على مدار المرحلة المعنية رغم اختلاف حدتها من سنة الى اخرى، مع الاشارة الى ان الطفرة التي شهدتها سنة 1956 بانشاء 21 قاعة جديدة بقيت صامدة كرقم قياسي وطني حتى حدود عام 1977 الذي شهد ميلاد 43 قاعة  وهوالرقم الذي لم يتحقق بعدها أبدا.

وبالعودة الى معطيات الجدول، نستنتج ان النموالذي يظهره ظل دوما على ارتباط وثيق مع الوضعية السياسية التي عاشها البلدان على السواء ( المغرب وفرنسا ). هكذا نجد مثلا ان الفترة ما بين سنتي 1939 و1944 عرفت انحسارا كبيرا في وثيرة بناء القاعات اعتبارا لمصادفتها لسنوات الحرب العالمية الثانية التي عانت خلالها فرنسا دمارا شاملا ككل البلدان الاوربية.، لينتعش بعدها القطاع السينمائي بعد انتصار الحلفاء وتحرير فرنسا من الغزواالألماني حتى حدود عام 1953 الذي عرف حدث نفي السلطان الشرعي للمغرب المرحوم محمد الخامس وابعاده خارج البلاد. هذا الحدث الذي كانت نتائجه المباشرة اندلاع الشرارة الاولى لما سمي " ثورة الملك والشعب" التي تحولت البلاد على اثرها الى مسرح لمواجهات يومية شديدة ضد السلطات الفرنسية.

ونظرا لعدم توفرنا على معلومات اخرى ضرورية نأسف لعدم امكانية تقديم تحليل أكثر دقة للوضعية الحقيقية لقطاع الاستغلال السينمائي في هذه المرحلة مقارنة مع احتياجات المغرب وقتها، وهوما كان سيمكننا من حساب مؤشرات مهمة من قبيل التركز الجغرافي للقاعات اومعدل الكثافة السينمائية على سبيل المثال..

سبقت لنا الاشارة في بداية هذه المقالة الى ان تسيير ومراقبة القطاع السينمائي من طرف سلطات الاقامة العامة الفرنسية بالمغرب كان يتم وفق مقتضيات المرسوم الوزاري المؤرخ في 22 أبريل 1916 وظهير 10 أكتوبر1917 المعروف بقانون  الفقراء. وقد استمر العمل بهذين النصين القانونيين حتى صدور الظهير المنظم للقطاع في 14 غشت 1941 الذي انشأت بمقتضاه اول مؤسسة عمومية مختصة عهد اليها بتنظيم كافة الانشطة الاقتصادية المتعلقة بصناعة السينما وقتها. هذا الظهير الذي نص في فصله الاول على تأسيس تجمع خاص بالصناعة السينمائية، أرخ لبداية التدخل المباشر للدولة في الحقل السينمائي عبر ترسانة من القوانين التي تنظم العلاقة بين الدولة ومجمل القطاع متجاوزة بذلك مجرد المراقبة الجبائية للأنشطة المتعلقة به. وتواصل مسلسل اقرارتشريعات خاصة بالسينما باحلال هيئة جديدة حملت اسم "مصلحة السينما" محل الهيئة السابقة وفق مقتضيات مرسوم صادر عن الاقامة العامة بتاريخ 2 فبراير 1944، لكن المغرب شهد حدثا أهم قبل ذلك التاريخ بقليل وبالضبط في 8 يناير من نفس السنة حيث تم وضع اللبنة الأولى لتأسيس المركز السينمائي المغربي . وتكمن اهمية هذه الخطوة في الدور الطلائعي الذي لعبه هذا المركز سواء في ظل الاحتلال الفرنسي اوفي مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي  التي تمتد الى يومنا هذا.

لقد مكن المركز السينمائي المغربي، الذي قدم انذاك على انه مؤسسة عمومية متمتعة بالشخصية المعنوية والتسيير المالي الذاتي وهي الصفة التي لا يزال محافظا عليها، الدولة (الاقامة العامة) من الانتقال من مجرد مراقب للقطاع الى فاعل مؤثر على مستويات الانتاج والتوزيع والاستغلال السينمائي، حيث اوكلت له مهمة مزدوجة تتلخص في التسيير والمراقبة من جهة والتدخل الفعلي المباشر في كل الانشطة التي لها علاقة بالصناعة السينمائية (تجاوزا) الوليدة وقتها. هذه المهمة المزدوجة سمحت للسلطات الاستعمارية بتركيز وتكريس سياستها الاستعمارية بشكل اكثر تجدرا تتويجا لما خططته منذ الايام الاولى لدخولها المغرب.  وتأكيدا للأهمية القصوى التي تمثلها هذه المنشأة أكدت الدولة المغربية المستقلة دوره ودعمته من خلال التعديلات التي ادخلتها في فصول قانونه المنظم في 19 شتنبر 1977 التي هدفت في مجملها الى تفعيل وتنشيط الدور الموكل اليه منذ تأسيسه.

ان السعي الحثيث للسلطات الفرنسية وراء انشاء صناعة سينمائية مزدهرة بالمغرب بما يخدم مصالحها طبعا، جعلها تفكر جديا في توفير الحد الادنى من البنية التحتية التي تضمن تحقيق هذا الهدف. وكان لابد من انتظار سنة 1932 لتعرف بلادنا ولادة اولى الاستديوهات بها ممثلة في استوديو" سيني فون "الذي توفر منذ عام 1935 على مرافق عديدة من قبيل الاوديتوريوم، شاحنة للصوت من فئة 35 ملم، قاعة للمونتاج ومختبر للمعالجة والسحب الفيلمي...الخ وهي المرافق التي استعانت بها المصالح السينمائية الامريكية المكلفة بتغطية مؤتمر أنفا المنعقد بالدار البيضاء في 11 نونبر 1942 وجمع   السلطان المغربي الراحل محمد الخامس بكل من الرئيس الامريكي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشيل. .

اثنتا عشرة سنة بعدها،اي عام 1944، سيعرف المغرب انشاء استوديوومختبرات " السويسي " على مساحة قدرت بما يناهز 17 هكتارا، من لدن الشركة المغربية للصناعة السينمائية، الذي اعتبره  مخطط التجهيزعلى المدى البعيد المعد من طرف مصالح الحكومة الشريفة (1945-1950) منشأة هامة تتوفر على امكانيات عمل مستقبلية واعدة باعتبارها المنشأة الوحيدة من نوعها في بلدان افريقيا الفرنسية.

لقد كان بناء هذه البنيات التحتية نتيجة حتمية للتوجه الجديد لسلطات الحماية خصوصا بعد انشائها للمركز السينمائي الذي تبنت من خلاله استراتيجية تتوخى تحسين مردودية الدورة التجارية للمنتوج الفيلمي بالمغرب اعتمادا على تشجيع الانتاج المحلي الذي ظل مهمشا طوال المرحلة السابقة.

بدايات الدورة التجارية للمنتوج الفيلمي بالمغرب

من الواضح ان الانشطة السينمائية ببلادنا قد عرفت طوال المرحلة الاستعمارية تطورا ونموا مناقضا تماما للشكل المفترض طبيعيا، فبدل الانطلاق من الانتاج ثم التوزيع فالاستغلال كان توطن هذه الانشطة عكسيا. ففي مغرب مرحلة الحماية، التي لا تختلف كثيرا عما نعيشه اليوم سينمائيا، سجلنا تواجد نشاط استغلالي وتوزيعي مكثف نسبيا مقابل انتاج ضعيف  ومهمش الى حد بعيد نتيجة رغبة الصناعة السينمائية الفرنسية في تحويل المغرب الى مجرد خلفية ديكورية متميزة لتصوير افلامها من جهة، والى سوق استهلاكية لمنتوجها الفيلمي من جهة اخرى. هذه الوضعية المفروضة  على القطاع السينمائي لم تكن الا امتدادا لمصير بقية الانشطة الاقتصادية الاخرى التي اعتمدت على "المحمية" في تزويدها بالمواد الاولية كخطوة اولى ومن ثمة في تصريف منتوجها في حلته النهائية كخطوة ثانية، في وقت تحتفظ فيه فرنسا بكل الصناعات الوسيطة والتحويلية ذات القيمة الاضافية الأهم. وبالرغم من ذلك سنحاول في عرضنا هذا تتبع الصيغة العادية لكل دورة تجارية للفيلم ابتداء من الانتاج مرورا بالتوزيع وانتهاء بالاستهلاك.

لقد كان المغرب منذ بداية القرن الماضي  محجا للعديد من السينمائيين الأجانب المهووسين بمناظره الطبيعية الخلابة والمتنوعة  بالاضافة الى تواجد يد عاملة مؤهلة ورخيصة تمنح امكانيات استخدام متعددة للمنتجين والمخرجين على السواء. هذه المميزات وغيرها منحت المغرب بعدا عالميا في هذا المجال مما سمح بتصوير أفلام اجنبية كثيرة ببلادنا منذ ذلك التاريخ في اطار ما اطلق عليه "السينما الكولونيالية" التي سبق أن عرفناها بمجموع الافلام المصورة عن/ وبالمغرب طوال المرحلة الاستعمارية، وهي التسمية التي يمكن ان تشمل، حسب البعض، كل الافلام المصورة بالمغرب منذ اختراع السينماتوغراف الى الاستقلال. وقد عددت نشرية (كاتالوغ) "نظرة على السينما بالمغرب"المعدة من لدن مصالح المركز السينمائي المغربي سنة 1997 مجموع هذه الافلام التي ناهزت الثمانين شريطا كان اولها حاملا عنوان "راعي الماعز المغربي" (1897) وآخرها شريط " نار الرغبات"(1955) لمخرجه ارتيرولويز كاستيو. وبقراءة لائحة هذه الافلام نصادف مجموعة من العلامات البارزة في تاريخ الفن السابع من قبيل " عطيل " (1949) للمخرج العالمي أورسون ويلز الذي شارك بهذا الشريط باسم المغرب في مهرجان كان، ثم فيلم " الرجل الذي يعرف اكثر من اللازم" (1955) للمخرج الكبير ألفريد هيتشكوك ...وغيرهما.

ويبدو لزاما الاشارة في معرض حديثنا عن وضعية الانتاج السينمائي بالمغرب المحتل ان تصوير اول فيلم ناطق كليا باللهجة الدارجة المغربية يعود الى سنة 1946 حاملا عنوان " ابن القدر " الذي انتجته شركة الحنصالي الجزائرية، كما نسجل ان نموالقطاع في هذه المرحلة يدين في جزء  كبير منه الى الخواص الذين ظلوا المنتج الوحيد حتى حدود سنة 1944 التي أرخت لبداية الانتاج العام بعد تأسيس المركز السينمائي المغربي الذي أخذ على عاتقه مهمة تنمية الانتاج الوطني طوال المرحلة التالية لتأسيسه . فماذا عن هذا الانتاج اذن ؟

ان الاشكالية الاولى التي تواجه الباحث في تاريخ سينما المرحلة الاستعمارية بالمغرب تتجلى اساسا في المقاييس الممكن اعتمادها لتمييز الافلام " الوطنية " عن غيرها.لأجل ذلك ارتأينا الاعتماد على مقياسين مختلفين لكنها يبدوان الاقرب نسبيا لتفسير هذه الصفة " الوطنية " : الاول مرتبط بجهة التمويل بمعنى وطنية كل الافلام الممولة من طرف القطاع العام رغم كولونياليته واحتلاله للبلد، اما الثاني فيعتمد على الجنسية المغربية للمخرجين الذين وقفوا وراء تصوير الافلام المعنية.

فاعتمادا على المقياس الاول نجد ان الفيلموغرافية الوطنية ابان الفترة الاستعمارية تتكون من احدى عشر شريطا (11) تم انتاجها كليا اوجزئيا من لدن المركز السينمائي المغربي ما بين سنتي 1944 و1955 وهي على التوالي : " ياسمينة " (1946)، " ابن القدر " (1946)، " المجنون " (1946)، " شداد العادل " (1947)، " كنزي " (1947)، " معروف اسكافي القاهرة " (1947)، " منتصف الليل زقاق الساعة" (1947)، " معزوفة ليلية لمريم " (1947)، " اعراس الرمل " (1948)، " عطيل" (1949)، " طبيب بالعافية "(1955).

هذه الفيلموغرافية تنقلب رأسا على عقب اذا اعتمدنا المقياس الثاني حيث نجد بمقتضاه ان اول شريط موقع من طرف مخرج حامل للجنسية المغربية يتمثل في فيلم من فئة 9 ملم عنونه مخرجه " محمد عصفور" المزداد سنة 1927 ب " مغامرات ابن الغابة " على شكل سلسلة امتد تصويرها من سنة 1941 الى 1944، قبل ان يواصل مسيرته الانتاجية بمجموعة من الافلام الخاصة ببعض الاعياد الوطنية ابتداء من 1947 وبعدها افلام " عيسى الاطلس " (1948)، " اموك الذي لا يقهر " (1949)، " جحا " (1950)، واخيرا " بوخوالنجار "، " الهارب من السجن " ثم " طريق الاموال " سنة 1956. وبالاضافة الى محمد عصفور لابد من الاشارة الى تجربة المخرج الراحل " احمد المسناوي " (1926-1996) الذي كان من المغاربة الاوائل المشكلين للاستثناء من الحصار الذي ضربه الاجانب على اية امكانية لولوج هذا الميدان من طرف "الاهالي" باخراجه العديد من الافلام نذكر منها "منبع الفن المغاربي" (1949)، " رسول الحرية " (1953) و" الحلاق الثرثار "(1955). كما نسجل ان السنوات الاخيرة من مرحلة احتلال المغرب عرفت توافد عدد قليل من الطلبة المغاربة على فرنسا لدراسة الفن السينمائي وبالضبط بالمعهد العالي للدراسات السينمائية الذي تخرج منه معظم المخرجين المخضرمين الممارسين حاليا على الساحة السينمائية المغربية. فكان " احمد بلهاشمي" اول من ولج اسلاك هذا التكوين سنة 1949 تلاه " العربي بناني " سنة 1953 قبل ان يساعد في اخراج شريط " طبيب بالعافية " لصاحبه " هنري جاك" سنة 1955، وهوالشريط الذي ألف موسيقاه الفنان المغربي الراحل " عبد القادر الراشدي "، وشارك خلاله العديد من الممثلين المغاربة بأدوار رئيسية في اطار انتاج مغربي-فرنسي-مصري مشترك يتيم لم يتكرر بعد لفشله في تحقيق الاهداف المرسومة له.

ان الخلاصة التي نستطيع  الخروج بها من تحليلنا لوضعية الانتاج السينمائي بالمغرب ابان المرحلة الاستعمارية يمكن اجمالها في النقطتين التاليتين :

·     الاستخدام المكثف للسينما من طرف سلطات الحماية في خطتها الدعائية الرامية الى بسط نفوذها بالمغرب من خلال تقديم العنصر الدخيل حاملا لرسالة الحضارة والتمدن مقابل اظهار سكان المحمية في صورة متخلفة  ومتوحشة بما يضفي الشرعية المطلقة على مشروع الحماية الاستعماري.

·     الاقصاء الممنهج للعنصر المحلي بمكوناته الامازيغية والعربية من التعبير عن الوضعية الحقيقية التي يعيشها في ظل الاحتلال، وهذا ما يفسر قطعا استبعاد هذا العنصر نهائيا من الظهور في افلام تلك الفترة اوحضوره كمجرد خلفية ديكورية ليس الا، بالرغم من اعتراف مخرج شريط " ايطو"(1934) بأن برابرة ( امازيغ ) الاطلس يتوفرون على مقدرات تلقائية للتمثيل. هذا الاقصاء الذي خفت حدته في السنوات الاخيرة للاحتلال تمشيا مع توجه سينمائي جديد يسعى لتقليد الافلام المصرية، لكن ذلك الانفتاح اقتصر على بعض الوظائف التي لا تؤثر سلبا على الحمولة الكولونيالية للخطاب الموجه عبر هذه الانتاجات، وهوما تكرس اكثر بسيطرة الاجانب على شعبتي التوزيع والاستغلال.

 

لم يكن خفيا ان المصلحة الاستعمارية اقتضت من السلطات الفرنسية الاهتمام بشكل كبير بقطاعي التوزيع والاستغلال اي تجارة الجملة والتقسيط على المستوى السينمائي. لكن غياب قوانين خاصة بقطاع السينما الذي اعتبرته كل المراسيم والظهائر نشاطا تجاريا عاديا مما يعني عدم وجود صيغ مراقبة مالية وجبائية خاصة به ادى الى استحالة التوفر على معطيات مرقمة لمستويي توزيع واستهلاك المنتوج الفيلمي ببلادنا متعلقة بالبدايات الاولى للدورة التجارية به. وكان لزاما انتظار اواخر التلاثينات وبداية الاربعينات للحصول على بعض من هذه المعطيات.

وبعيدا عن لغة الارقام هذه، سنحاول بداية استكشاف المميزات التي طبعت عمل الشعبتين طوال المرحلة المعنية. هكذا نجد ان قطاع التوزيع السينمائي اقتصر دوره على مجرد استيراد الافلام المستهلكة بالسوق الفرنسية ومحاولة تصريفها بالسوق المحلية. هذه السوق ذات القدرات الاستهلاكية الواعدة جعلت العديد من الشركات العالمية العاملة في مجال التوزيع تستقر ببلادنا في افق تحويلها الى مركز رئيسي لنشاطها التجاري في عموم منطقة شمال افريقيا، ومن بين تلك المؤسسات نجد مثلا : فوكس، بارامونت، كومون، باتي، موفي تون، متروغودواين...الخ. فبالرغم من ضعف نسبي لمردودية القاعات السينمائية، خصوصا في بداية تواجدها بالمغرب، كانت نسبة الاستثمار الاجنبي هامة في هذا الميدان لاعتمادها على السينما المتجولة التي مكنتها من تصريف منتوجها وعرضه في مناطق واماكن متعددة كالبوادي والاسواق الكبرى على سبيل المثال. وللتدليل على الاهمية القصوى التي اولتها هذه الشركات  الاجنبية لبلادنا، نشير فقط الى ان المغرب، دون احتساب منطقة طنجة الدولية وقتها، كان يتوفر في بداية الخمسينات من القرن الماضي على خمسة وثلاثين مؤسسة للتوزيع السينمائي منها ستة عشر وكالة اجنبية (11 فرنسية و5 امريكية) وتسعة عشر وكالة محلية تحتكرها رؤوس اموال خارجية. وقد تعرضت مختلف هذه الشركات لعملية " المغربة " في بداية السبعينات دون ان يغير ذلك شيئا من وظيفتها لاقتصارها على اغراق السوق المحلية بالاشرطة الاجنبية ما دام الانتاج الوطني ضعيفا من جهة، وغير مربح من جهة اخرى.

اما في ما تعلق بالاستغلال السينمائي، فقد سعت السلطات الاستعمارية جاهدة لانعاش هذا القطاع ضمانا لربحية الدورة التجارية لمنتوجها الفيلمي، مما جعلها تتبنى سياسة تشجيع الاستثمار في هذا المجال بهدف تعويض النقص المسجل في القدرة الاستيعابية للقاعات وكذا الرفع من عددها كما يبينه الجدول الآتي الذي وان اختلف في بعض معطياته عن الجدول السابق، بسبب اختلاف المصادر، يبقى ذا أهمية كبرى لغياب مصادر تاريخية مخصصة لهذا القطاع :

 

* تطور عدد نقط العرض السينمائي ما بين سنتي 1949 و1951 *

     السنوات:                                                       النوع

1951                  1950                 1949               

101                   100                   93          قاعات من فئة 35 ملم

16                      13                     08        قاعات من فئة 16 ملم

06                      06                     05        شاشات خارجية من فئة 35 ملم

01                      01                    01         قوافل متجولة من فئة 35 ملم

04                      04                     04        قوافل متجولة  من فئة 16 ملم

 

ورغم تنامي نقط العرض تلك، فان تسويق المنتوج السينمائي واجه صعوبات عدة متعلقة بطبيعة المنظومة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي حكمت المجتمع المغربي من جهة، وبالصبغة التجارية للعروض السينمائية من جهة اخرى . فبالاضافة الى المبادرات المتوجسة التي سبقت الاشارة اليها في معرض الحديث عن ظروف توطن الفن السابع ببلادنا، كان الخطاب الكولونيالي الذي طبع الافلام المعروضة  يحول دون اقبال " الأهالي" بشكل مكثف على القاعات. كما ان الطبيعة التجارية للانتاج السينمائي المحكومة بهاجس الربح والخسارة شكلت عائقا في هذا المجال . فالمواطن المغربي لم يكن متعودا وقتها على أداء واجب مالي الزامي لمشاهدة العروض المعتادة لديه ك " الحلقة " مثلا، حيث يكون المقابل تعويضا رمزيا أكثر منه واجبا الزاميا خصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار ضعف القدرة الشرائية للمواطن المغربي العادي الذي كان ولا يزال يسعى لتأمين ضروريات الحياة قبل التفكير في اي مجالات ترفيهية مؤدى عنها، ما دامت وسائل الترفيه التقليدية المعتادة تتخذ في الغالب طابعا حيا، جماعيا، تشاركيا وغير تجاري بالمرة. لكن هذه المعطيات لم تمنع من تسجيل درجات نموتصاعدية لمداخيل قاعات العرض الفيلمي طوال الفترة المتوفر عن احصائيات بخصوصها كما يظهره الجدول التالي. جدول تستدعي اية محاولة لتحليل ارقامه وضعها في علاقة مباشرة مع التطور الذي عرفته وثيرة انشاء القاعات في نفس الفترة الزمنية ( انظر الجدولين السابقين) .

هذه القاعات التي تم تصنيفها الى ثلاث درجات : الصنف الاول من الدرجة الممتازة يفتح ابوابه للاوربيين دون غيرهم، الصنف الثاني أقل جودة ويسمح بدخول بعض المغاربة من " الاعيان " في وقت خصصت فيه قاعات شعبية لاستقبال الاهالي المهووسين بتتبع الافلام المصرية التي بدأ تسويقها بالمغرب منذ سنة 1937.

 

* تطور مداخيل القاعات السينمائية ونسب نموها في الفترة (1942-1949) *

نسبة النمو السنوي المداخيل بالفرنك                      السنوات

- 76.000                                                                1942
31 100.000 
                                                          1943
44 144.000 
                                                          1944
0.7 154.000 
                                                         1945
38 200.000 
                                                          1946
175 550.000 
                                                        1948
50 830.000 
                                                          1949

 

خاتمة

ان دراسة تاريخ السينما بالمغرب تظهر ان توطن هذا الفن وتبنيه من لدن المغاربة لم يكن عملية سهلة  ويسيرة بالرغم من اكتشافهم للسينماتوغراف منذ السنوات الاولى لاختراعه  وانبهارهم به. لأجل ذلك سعت السلطات الاستعمارية جاهدة لجعل فعل المشاهدة، والى حد ما الممارسة ايضا، عملا اعتياديا لديهم بما يخدم مصلحتها الكولونيالية طبعا. بل حاولت، بعد تأسيس المركز السينمائي المغربي وما رافقه من تشريعات خاصة بالقطاع،  دخول غمار الانتاج المحلي الموجه بالاساس الى السكان الاصليين في تقليد صارخ وبدائي للمنتوج المصري الذي غزا السوق المغربية في نهاية الثلاثينيات، لكنها لم توفق بشكل كبير في مسعاها لتنكرها واغفالها الموروث الحضاري والتنوع الثقافي للشعب المغربي.

لكن الباحث في معطيات هذه المرحلة لا يمكنه ان ينكر ان الاستعمار بتخصيصه عناية فائقة للميدان السينمائي قد خلف للمغرب المستقل بنية تحتية قطاعية متميزة  كان بالامكان الاستفادة منها لخلق  وتطوير صناعة سينمائية مغربية مزدهرة خصوصا بعد عودة الطلبة المغاربة المتوجهين قبلها لدراسة السينما بفرنسا مزودين بتكوين نظري  معرفي واكاديمي رفيع. لكن واقع الحال يبين  ان المغرب لم يضع هذه الفرصة فحسب، بل دفع بالقطاع السينمائي الى التأزم والاندحار بسبب عدم اهتمامه بوضع اطار قانوني جديد يحل محل القوانين المتقادمة الموروثة عن الفترة الاستعمارية من جهة، وتفريطه في المنشآت المتوفرة وقتها مما ادى الى انهيارها وخرابها كما حدث لاستوديوالسويسي الذي لم يعوض الا سنة 1970 بعد تشييد مقر استوديوعين الشق بالدار البيضاء.

أخيرا نظن ان الوضعية الحالية للفن السابع ببلادنا المتميزة بنوع من الانحسار والتأخر ماهي الا امتداد سلبي لما عاشه القطاع السينمائي طوال فترة الاحتلال  بالرغم من ظهور بعض المحاولات الفردية الساعية الى النهوض به في ظل غياب استراتيجية اعلامية وثقافية حكومية  ومجتمعية متكاملة  وواضحة تسمح للسينما وغيرها من وسائل الاعلام بلعب دورها الطبيعي في تنمية وتحديث البلاد ما دمنا نعيش مرحلة سيادة الاعلام على المستوى الكوني ...

 

المغرب

 

 

* لائحة المراجع المعتمدة في هذه الدراسة *

1- اوشن طارق، سوق السينما بالمغرب، بحث جامعي لنيل شهادة الاجازة في العلوم الاقتصادية، جامعة القاضي عياض، مراكش 1998.

2-  مولاي ادريس الجعايدي، السينما بالمغرب، منشورات المجال، الرباط .1991

3- حراج التوزاني احمد، الصناعات الثقافية : السينما بالمغرب نموذجا، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد، جامعة محمد الخامس، الرباط 1986.

4- مصطفى بن بوشتى، القطاع السينمائي بالمغرب : واقع وآفاق، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في التدبير المقاولاتي ’ المعهد العالي للتجارة وادارة المقاولات، الدار البيضاء 1985

5- خالد الخضري، المخرجون السينمائيون المغاربة : دراسة ودليل، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 1997.

6- بيير بولانجي، السينما الكولونيالية : من الاطلنتيد الى لورانس العرب، منشورات سيجير، باريس 1975.

7- مارسيل تيسيري،  الانتاج السينمائي بالمغرب، الكشف الاقتصادي والاجتماعي للمغرب، عدد 33، أبريل 1947.

8- ج. لاندو، دراسات حول المسرح والسينما العربيين، باريس 1965.

9- جريدة أنوال، عددي 1655 و1949. 

موقع "إيلاف" في  5 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

السينما بالمغرب: محاولة في التأريخ

أوشن طارق