شعار الموقع (Our Logo)

 

 

استطاع بعض السينمائيين الالمان اثبات فرادتهم الفنية والفكرية في المواجهة مع الشركات السينمائية العالمية الكبرى في هوليوود، وحققوا مرتبة عالية من البلاغة والرصانة في اختيار اسلوبيتهم الخاصة، وقدرتهم على منافسة السينما الاميركية داخل اسواقها التقليدية، وتمكن هؤلاء السينمائيون الالمان من شق قناة خاصة بهم واستطاعوا خلال اكثر من حقبة وموسم سينمائي ان يزاحموا كثيرا من افلام السينما العالمية، ولم يحقق هؤلاء المبدعون باستعمال التقنية الكمبيوترية المتطورة في الوان السحر والخيال الجامح، وتلك القصص التي تنهض على الاساطير والميلودراميات الزاعقة، وانما بطرح اساليب وتيارات واتجاهات ومدارس السينما الجديدة وما تمثله من الوان الابداع السمعي البصري في ابتكار الالهام الخاص الفتان والتجريب، واختياراتهم التي بدت قريبة من هموم تلك القطاعات الواسعة من شعوب العالم الثالث واصطبغت اعمالهم في ملامستها لاعمال سينمائية مما اصطلح على تسميتها بالسينما البسيطة وخصوصا تلك القادمة من بلدان تركيا، واميركا اللاتينية، واسيا، وفي افريقيا.

لقد نهضت السينما الالمانية من غفوتها التي لازمتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من تقسيم لألمانيا وتشعب الابداع السينمائي وتفاوت اهميته بين حالة واخرى، وكان لبروز اسماء كثيرة في حقبة الستينات من القرن الماضي وما قدمته من تنوع مدهش في النوع والموضوع اذ استطاع الكسندر كلوج باسلوبية تتميز بجاذبيتها الخاصة من مزج عناصر الفيلم الروائي والتسجيلي كما بدا بفيلم «وداعا للامس» (1966)، وعلى غرار ذلك قدم المخرج الالماني وارنر هيرتزوغ في فيلم «كاسبر هاوزر» (1974) حياة انسان مليئة بالاسرار وملامح لتساؤلات فلسفية في مواضيع الموت والحياة.

كما قدم احد ابرز سينمائيي المانيا وارنر فاسبندر الكثير من اتجاهات التطور الخلاق في السينما الالمانية ومنحها مكانة جديدة بين السينما العالمية، وناقش فيها بجرأة شديدة صورا مدهشة للحياة في المانيا المعاصرة، مثلما كان في سائر افلامه: «صانع الاواني» (1969)، «زواج ماريا براون» (1978)، «برلين ساحة الكسندر» (1980) ومن بين افلامه ايضا «حب فيرونيكا خوس» (1982) الذي قطف عنه جائزة (الدب الذهبي) في مهرجان برلين.

وكانت المفاجأة التي حققتها السينما الالمانية في الحقبة التالية التي امتدت من الثمانينيات الى يومنا هذا ان اقتحمت الافلام الالمانية وصناع السينما الالمانية معقل السينما العالمية، وزاحمت اعمالا هوليوودية كثيرة، وصارت ايراداتها تطغى على السوق السينمائية العالمية اذ استطاع فيم ميندرز المولود بالعام (1945) ان يمتلك حساسية خاصة في تصوير افلامه العديدة التي بدت وكأنها تتبع حيوات وامكنة لها دلالاتها وتوهجها الخاص في خضم علاقات انسانية وبحث شاق عن الذات في عالم سريع التحولات وهو ما جسدته افلام «حالة الامور» (1982)، و«باريس تكساس» الذي حاز على (السعفة الذهبية) في مهرجان (كان) السينمائي الدولي العام 1982، وكرس موهبته السينمائية الخالصة بفيلمه الجذاب «السماء فوق برلين» (1987) عن علاقة لشخصية خيالية مع لاعبة اكروبات في سيرك، استطاع فيه مخرجه تقديم معالجة مبتكرة لموضوع جريء بلغة سينمائية آسرة ترنو الى شحذ تفكير المشاهد بغرائبية احداث تقوده الى مناقشة واقعه في عالم من الصور لخيال مدهش خلاق مبهر بحكاياته تشد المتلقي وتسحره باعذب الصور والاجواء لشخصيته الرئيسية الهابطة من السماء وتقديم تصورات عن الحياة والواقع والذات.

وفي هذه الفترة حقق سينمائيون جدد ايضا الكثير من موضوعات افلامهم المؤثرة، ومن بين هؤلاء المخرجة الالمانية مارغريت فون تروتا بما قدمته من افلام رفيعة وذات قدرة على العطاء المتجدد، فليس هناك ادنى شك ان من ابرز تلك الافلام فيلم «روزا لوكسمبرغ» (1986) نتيجة لما تميز به من وضوح وشغف بموضوعه الفكري والانساني لشخصيته القادمة من بطن الاحداث الجسيمة في حقبة زمنية شهدتها المانيا عبرت عنه مخرجته تروتا عن رؤيتها المتجددة في مواقف جلية نابعة من حب ومن ثقافة واسعة عاشقة لسيرة حياة بطلتها التي تميزت حياتها بالصمود الاسطوري والمعاناة والمشاركة الفاعلة في رسم الملامح الدقيقة لمستقبل مجتمعها وسعادتها، وهذا ما سارت عليه افلام لاحقة عندما قدم المخرج فرنر شروتر بفيلمه «مالينا» (1991) وهو سيرة ذاتية شبيهة لروزا لكنها مليئة بدلالات واحالات مستمدة عن حياة الكاتبة النمساوية انغبورغ باخمان.

واستطاعت باكورة اعمال ما اطلق عليه السينما الالمانية الموحدة ان تحقق من خلاله قفزة اخرى في مستقبل السينما الالمانية كواحدة من اركان الانتاج السينمائي الاوروبي المتقدم، قضايا وموضوعات الواقع بخلفية انسانية تجد صدى لها في كل مكان، وهو ما وظفه المخرج الالماني فولكنر شندروف في الكثير من اعماله.

وليس من قبيل المبالغة القول ان السينما الالمانية اليوم وخصوصا تلك التي ظهرت خلال الخمسة عشر عاما الاخيرة ان تبرز كسينما اصيلة لما عبرت عنه عن تناقضات ثقافة كاملة، وعن انهيار العلاقات الانسانية وتفككها، وعن الوحدة القاتلة التي تسيطر على الانسان في المجتمع الاوروبي، وعن المحاولات الدؤوبة للبحث عن مخرج.. وعن عبثية المقولات السائدة، وعن المصير الحالي للفن والانسان المبدع داخل عالم محاصر بالوان من الاستهلاك الدعائي والترويج التجاري المبتذل في غابة من الافلام السائدة داخل طبقات متباينة من البناء الدرامي ذات الضجيج السمعي والبصري لكن تلك النماذج المتطورة وفي مقدمتها تبرز افلام «اجري لولا اجري»، «حليب الخريف»، «في تموز»، «عيد ميلاد سعيد ايها التركي»، «اسماك قرش صغيرة»، «الرجل الانفعالي» وليس آخرها «وداعا لينين» حيث ظلت جميعها متمردة على المألوف وتعمل على قطع مشوارها الطويل الشاق الى المعرفة والوصول الى الحقيقة وجوهر الاشياء.

 * ناقد سينمائي اردني

الرأي الأردنية في  26 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

السينما الألمانية الجديدة:

رصد واقع الفن والإنسان في عالم محاصر بقيم الإستهلاك

ناجح حسن *