شعار الموقع (Our Logo)

 

 

مع كل مناسبة دينية خاصة حلول شهر رمضان المبارك، تطل علينا من الشاشة المصرية الصغيرة تلك المسلسلات التي تسمى "الدينية" والتي تحدثنا بشكل وعظي مباشر عن: كيف قهر المسلمون الكفار وكيف انتصروا على هؤلاء وأذلوهم وأذاقوهم الهزيمة تلو الأخرى رغم عدد وعدة هؤلاء الكفار الأقوياء، ودائما ما نجد شخصية غريبة في هذه المسلسلات هي شخصية "اليهودي" ذلك المداهن الضعيف الذي يهرع الكفار إليه وإلى خمره ونسائه، فيقوم هو بنجدتهم وتحريضهم على "محمد" ثم ينادي "يا معشر يهود"... فيأتي إليه عدد من أمثاله ويخبرهم أنهم سينتصرون!

تكررت هذه المشاهد في الدراما التلفزيونية كثيرا وغاب عنا أن نتساءل: هل كان العرب يرون اليهود دائما بهذه الصورة؟ وهل هي صورة حقيقية تعبر عن واقع اليهود التاريخي في جزيرة العرب في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام؟

أعتقد أن الرجوع إلى أي مرجع تاريخي سيؤكد لنا أن تلك الصورة مزيفة تماما فقد كان اليهود قبائل في جزيرة العرب وكان منهم المحاربون وكان لهم أبطالهم ورجالهم، وجاء طردهم من جزيرة العرب عقابا لهم على نكث العهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام.. لماذا إذن نطرح هذه الصورة لليهود؟

للإجابة على هذا السؤال دعونا كي نعود في رحلة زمنية إلى ثلاثينيات القرن الماضي ونتفحص معا صورة اليهود في الدراما في ذلك الوقت.

الصورة قبل الصراع العربي الصهيوني

بداية لنرجع معا إلى بداية القرن العشرين، ونتوقف عند محطة يعتبرها الناس مهمة جدا في تاريخ الحركة الصهيونية، وهي زيارة هرتزل لمصر، لقد التقى هرتزل عند وصوله بأغنياء اليهود ووجهائهم وطالبهم بمساعدته في الحصول على موافقة الخديوي لمنح سيناء والعريش لليهود لتكون وطنا قوميا لهم، وبالطبع ضحك منه اليهود المصريون، وكتب عنهم هرتزل في مذكراته بمرارة شديدة: "إنهم خونة لا يهتمون إلا بمصالحهم"!! كان اليهود في هذا الوقت جزءا من النسيج الاجتماعي المصري وينظر إليهم باعتبارهم مصريين وحسب موقعهم الاجتماعي فمنهم الغني ومنهم الفقير.

هذا لا يمنع وجود صهاينة بينهم أو حتى متجنسين بجنسيات أجنبية، ولكن في النهاية لا يتم تصنيفهم خارج الإطار الاجتماعي العام، أي لا يتم تصنيفهم كجنس غير بشري مجبول على الشر ويتآمر على البشرية منذ فجر التاريخ.

هذا التعامل أدى إلى أن صورة اليهودي في الدراما كالمسرح والسينما كانت هي الصورة التقليدية للموقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه، وتجلى هذا في مسرحية "حسن ومرقص وكوهين" لنجيب الريحاني؛ فالثلاثة تجار، أحدهم مسلم والثاني مسيحي والثالث يهودي، والصورة التي يعكسونها واحدة فالمقصود أن التاجر يستغل المستخدم لديه، وبالطبع تظهر صفات نفسية خاصة؛ فاليهودي كوهين أكثر دهاء أو المسيحي مرقص أكثر دراية بالأمور المالية والمسلم حسن أكثر شدة في التعامل، وكلها صفات شخصية يتم عكسها على الصورة العامة للفرد المنتمي لدين معين، المهم هو أن الموقع الاجتماعي -أي وجود الآخر اليهودي في النسيج الاجتماعي العام للبلد- كان المحدد الأساسي للصورة الذهنية وبالتالي لانعكاس هذه الصورة في الدراما.

لنأخذ مثالا آخر في فيلم "سلامة في خير" لنجيب الريحاني سنجد أن جيران سلامة، منهم النصارى واليهود، فحتى "حارة اليهود" المشهورة لم تكن "جيتو أوربي" أي منطقة عزل لليهود، بل سنجد داخل الحارة مسلمين ونصارى من ذات الموقع الاجتماعي، سنجد أيضا مجموعة أفلام "شالوم" من إنتاج توجو مزراحي، وهي مجموعة أفلام كوميدية من بطولة ممثل يهودي في الثلاثينيات هو "شالوم" تحمل اسمه تقليدا لشخصية شارلي شابلين، ولكن بطريقة مصرية اعتمادا على فكرة البطل الفهلوي الصعلوك. وكان معه دائما بطل مصري مسلم هو "عبده" وتكرر هذا في أفلامه الخمسة.

وبالمثل استفادت السينما بصفة خاصة من متغيرات السياسة العالمية وتأثيرها على اليهود. ففي فيلم "لعبة الست" 1946 يعمل "حسن وابور الجاز" نجيب الريحاني عند "إيزاك" اليهودي "سليمان نجيب"، ومع تصاعد خطر المحور واقتراب روميل من الإسكندرية يقرر اليهودي الرحيل لجنوب أفريقيا ويختار حسن ليبيع له محلاته التجارية "بيعا صوريا"، وهي ظاهرة حدثت في الأربعينيات حقيقة.

لعب دور الثري اليهودي صاحب المحلات سليمان بك نجيب المسلم، ولعب دور المكافح المصري "حسن وابور الجاز" نجيب الريحاني المسيحي.

صورة اليهودي تكررت أيضا في الأدوار الثانوية في أفلام عديدة، مثلا الخياطة اليهودية أو معلمة الرقص أو معلمة البيانو أو غير ذلك من مهن اعتاد اليهود ممارستها، أي أنها كانت تعكس دائما صورة الآخر المرئي الموجود.

ربما كان أوضح مثال على هذا فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" 1949 حيث يلعب محمد فوزي دور "يوسف" المستهتر الذي يوقع الفتيات في غرامه مستخدما ثراءه الفاحش، ويتعرف على راشيل اليهودية فيخبرها بأن اسمه "يوسف حزقيل" ويتعرف على ماريكا اليونانية فيخبرها بأنه رومي أي يوناني، بمعنى أنه يغير جلده حسب الفتاة.

مرة أخرى الآخر موجود أمامنا وبالتالي يتم التعامل معه تعاملا حقيقيا وتنعكس صورته في الدراما بشكل حقيقي ولا يتم تحويله إلى وحش أو صورة نمطية متكررة غير موجودة إلا في ذهنية الكاتب. وربما من المهم التأكيد على سنة إنتاج "فاطمة وماريكا وراشيل" 1949 أي بعد حرب 1948، فما زال اليهود موجودين في مصر وما زالت الصورة الدرامية تعبر عن واقع اجتماعي، رغم الخلاف السياسي ورغم ظهور خطابات سياسية معادية لليهود بشكل عام. بل وظهور أفلام فيما بعد عن قضية فلسطين وأيضا بشكل ساذج ومفبرك مثل "أرض الأبطال" لجمال فارس عام 1953، حيث البطل يصاب في فلسطين نتيجة "الأسلحة الفاسدة"، وقد استخدمت هذه القضية عدة مرات في السينما المصرية بعد 1952 كنوع من إرضاء رجال الثورة.

انقلاب مع الثورة المصرية

بعد 1956 وطرد مختلف الأجانب وتصاعد العداء بين حركة الجيش التي أخذت طابعا جذريا ومعاديا للغرب وإسرائيل، والاتجاه نحو المعسكر الشرقي، وأيضا عملية التدخل المباشر في الصناعة الإعلامية، تغيرت صورة اليهودي في الأفلام تغيرا جذريا. إذ غاب اليهود -أولا- من النسيج الاجتماعي وصارت هناك حركة معادية للأجانب بصفة عامة واليهود بصفة خاصة، وبدأت الدراما المصرية تعكس في الخمسينيات والستينيات رؤية "اليهودي الضعيف" المتخاذل المعتمد على النساء، والآخر القوي الغربي وخاصة الإنجليزي والفرنسي -أي الاستعمار القديم- بل وتخصص بعض الممثلين المصريين في هذه الشخصية مثل المرحوم حسن البارودي بتكوينه الجسماني الضعيف وصوته الأجش الخاص.

ومن الأمثلة الدالة على هذه الرؤية فيلم "الدخيل" بطولة محمود المليجي وليلى فوزي وصلاح قابيل وحمدي غيث، إخراج نور الدمرداش عام 1967، وهو يقدم بشكل رمزي مبسط فكرة الخواجة الغريب الذي يستخدم ابنته الجميلة للتحكم في قرية سعيدة معتمدا على فكرة فرق تسد وكيف يشتري أرض القرية بالخداع والخمر والنساء، وهي الصورة التي استمرت فيما بعد خاصة في المسلسلات الدينية كما ذكرنا.

الصورة هنا تعكس تأثر السينما المصرية بالموقف السياسي وبالخطاب السياسي المصري الراديكالي المتشدد الذي كان يهدد دائما بإلقاء اليهود في البحر، وانعكاس هذا في الخطاب الشعبي المستهين باليهود وبالتالي إسرائيل. حتى إن الجميع في مصر كانوا يعتقدون أن الحرب مع إسرائيل ستكون نزهة للجيش المصري عام 1967.

تظهر تلك الصورة دائما كخلفية في الحدث في الدراما التلفزيونية الدينية كما رأينا وتستخدم للتدليل على ضعف اليهود وعدم قدرتهم على الفعل، وبالطبع قدرة السلطة المصرية في ذلك الوقت.

إنه نوع من إنكار الواقع بالادعاء والقدرة على تغييره في المخيلة.

تغيرت الصورة كثيرا بعد حرب 1967 و1973 فرغم عدم وجود اليهود كعنصر اجتماعي أمام المواطن المصري فإن الوجود الواقعي لإسرائيل أصبح ظاهرة ومن ثم أصبح من الضروري ظهور حقيقي لليهودي والإسرائيلي. ففي فيلم "أغنية على الممر" لعلي عبد الخالق عام 1974، يتم إظهار الجيش الإسرائيلي كخلفية للنقطة المصرية المعزولة والجنود المحاصرين وحالاتهم النفسية المختلفة.

لكن ربما كانت نقطة التغير الحقيقي هي ما يمكن أن نطلق عليه "دراما الجاسوسية" التي ظهرت في التلفزيون ثم اتجهت إلى السينما.

ملامح الصورة اليهودية الجديدة

من أهم ملامح هذه الدراما التي تراوحت كالعادة بين ما هو جيد مثل مسلسل "دموع في عيون وقحة" لعادل إمام ومسلسل "رأفت الهجان" لمحمود عبد العزيز، وما هو رديء مثل "الثعلب" لنور الشريف "والحفار" لمصطفى فهمي، أنها أعمال تنافسية، بمعنى أنها منافسة بين المخابرات المصرية والمخابرات الإسرائيلية، والآخر اليهودي هو صورة واقعية تنجح وتفشل تنتصر وتنهزم مع الاحتفاظ بميزة النصر النهائي للأنا المصري، اليهودي لم يعد الضعيف المخاتل المعتمد على النساء، رغم أن عنصر النساء دائما كان يظهر بقوة.

أيضا سنجد أن الممثلين الذين لعبوا دور اليهودي لم يعودوا أولئك الممثلين النمطيين المتخصصين في هذا الدور، بل سنشاهد نجما مثل مصطفى فهمي يلعب دور أبو داود رجل المخابرات الإسرائيلي الذي يحاول احتواء جمعة الشوان (عادل إمام)، وسنجد أيضا الممثلين النمطيين لأن الصورة المعكوسة أصبحت نموذجا مركبا من الواقع، أي العلاقة الصراعية التنافسية بين المخابرات، ومن تراث الصورة الخيالية في الخمسينيات والستينيات والتي ظهرت نتيجة غياب الآخر.

ومن المهم أن نذكر أداء الممثل المصري الكبير "حسن عبد الحميد" في "رأفت الهجان" الجزء الأول، حيث مثل دور اليهودي الثري الذي يتمزق بين رغبته في البقاء في مصر وضرورة الهجرة إلى فرنسا وعلاقته ببناته وخاصة "ماجي" التي أحبها "الهجان" في صورة أكثر صدقا وواقعية وأداء حقيقي أدى إلى نجاح جماهيري كبير في كل أنحاء العالم العربي.

في السينما وخاصة بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ازدهرت مجموعة أفلام الجاسوسية فوجدنا إعدام ميت 1985، وبئر الخيانة 1987، ومهمة في تل أبيب 1992، وكلها من بطولة نجوم كبار مثل محمود عبد العزيز ونور الشريف ونادية الجندي، وكلها أيضا توضح تفوق المخابرات المصرية على الموساد الإسرائيلي.

الخلفية هي الوضع السياسي الجديد، أضيفت بعض الأبعاد الجديدة للصورة حيث سنجد أن ثمة إصرارا دائما على اعتبار أن كل المشاكل الداخلية المصرية سببها إسرائيل، ويظهر أحيانا كثيرة رجل المخابرات الإسرائيلي متورطا في عمليات تهريب مخدرات وشبكات جنس وأسلحة، وهي كما نرى من بقايا الصورة النمطية السلبية.

بل ذهب فيلم مثل "الحب في طابا" الذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا، إلى أن إسرائيل لديها مخطط لإغراق الشباب المصري في الجنس وإصابته بالإيدز، هذه الصورة الجديدة لليهودي صاحب المؤامرة وصاحب القدرة المالية العالية والمتحكم في إمبراطورية الدعارة والمخدرات والسلاح العالمية هي أيضا انعكاس لحالة جديدة هي ظهور الإسرائيلي في مصر بعد معاهدة السلام وعدم استطاعة صانع الدراما المصري التعامل مع هذه الحالة بحيادية وواقعية. هل يصور إنسانا عاديا فيقع في مشاكل مع النقد والصحافة والنخبة المثقفة أم يصور صورة كاذبة تماما فيقع في مشاكل مع الجمهور الذي بدأ يتعامل مع الإسرائيليين؟

تزداد الصورة تعقدا بعد الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، هل يمكن تقديم صورة لليهودي مقبولة؟ هل يمكن اعتبار أن كل اليهود أشرار ويحاولون السيطرة على العالم منذ بدء الخليقة؟ هل يمكن الكلام عن عنصر إنساني عند اليهود؟ هل يمكن الفصل بين الديانة والجنسية والمواطنة؟ أي اليهودية والإسرائيلية والعروبة؟ كلها أسئلة تطرح نفسها بقوة ويحاول صانع الدراما الإجابة عليها. ومرة أخرى نجد أن ثمة ضغوطا سياسية وثقافية وجوا عاما يطرح فكرة الإصرار على التعامل مع الدراما بوصفها أداة دعائية.

في فيلم "فتاة من إسرائيل" 1991 إخراج إيهاب راضي، بطولة فاروق الفيشاوي ومحمود ياسين نجد أن اليهودي (الفيشاوي) يقدم بشكل المتحضر ولكنه يحمل حقدا وكراهية للعرب ويحاول أيضا إغواءهم بالمال (وظيفة للابن بعشرة آلاف دولار) والنساء (الابنة ليزا الجميلة) هل يمكن حدوث هذا في الواقع؟

مرة أخرى المشكلة هي علاقة الصورة الذهنية التي تعكس نفسها في الدراما بالواقع الحياتي المعاش، وهل ستؤدي هذه الصورة إلى مزيد من فهم هذا الواقع أم مزيد من قنابل الدخان والضباب؟

موقع "إسلام أنلاين" في  20 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

صورة اليهودي في السينما المصرية

د.أسامة القفاش