بعد (الأرض)، أصبحت الرؤية الفكرية والوعي السياسي لدى شاهين واضحين،
بل أخذا يتأكدان من فيلم
إلى آخر. ففي فيلم (الاختيار ـ 1970) يتأمل شاهين
أوضاع المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً
ذاتياً، حيث يناقش قضية
ازدواجية المثقف ودوره في التفاعل مع قضايا
الجماهير. أما في فيلم (العصفور ـ 1973) فيناقش،
وبتحليل فكري ناضج، الأسباب الحقيقية للهزيمة،
ويطرح وجهة نظر جريئة جداً، بل ويعلن صراحة بأن
الشعب لم يهزم، وإن القيادة هي
التي انهزمت. إن (العصفور) هو أكثر أفلام شاهين
وعياً وجرأة، فيه يسجل اكتمال مرحلة تعمق الوعي
السياسي والاجتماعي، ويصل
به إلى خط اللارجعة، فلم يعد بإمكانه أن يرجع خطوة
واحدة إلى الوراء.
أما أفلامه الأخرى، والتي تلت (العصفور)، فقد حاول فيها ـ
ونجح إلى حد كبير ـ أن يتابع ويقدم كل ما هو جديد
ومتطور في الأوساط السينمائية العالمية، كأسلوب
وأدوات وحتى تقنية، هذا مع استمراره في تناول
قضايا سياسية واجتماعية تهم الجماهير وتهمه هو
بالذات، خصوصاً في ثلاثيته (إسكندرية ليه ـ
1978 ، حدوتة مصرية ـ 1982 ، إسكندرية كمان وكمان
ـ 1990)، ففي أفلامه هذه قدم يوسف شاهين أسلوباً
جديداً تميز بحركة كاميرا
خاصة وسريعة، وزوايا تصوير استثنائية، وحوار سريع
ومركز، إضافة إلى المونتاج الحاد السريع والنابض
بالحركة.. وهذا بالطبع شيء مربك لعين المتفرج، هذا
المتفرج الذي أصر على عدم الفهم.
وفي مرحلته الأخيرة، أو في أفلامه الأخيرة على أصح
تعبير قرر يوسف شاهين أن يقدم ما يريده هو، دون اهتمام قصدي إن
كان جمهوره سيعي أو سيتواصل مع ما يقدمه، وهذا
بالطبع حق مشروع لأي فنان، حيث إن ارتفاع مستوى
الجمهور الثقافي والفني أو عدمه، يُفترض أن لا يكون
عائقاً أمام أي فنان يسعى
إلى التجديد، وبالتالي ليس على الفنان أن
يتوقف عن إطلاق الحرية لخياله وأفكاره، لمجرد أن
هناك متفرجاً/ متلقياً لم يتطور أو حتى لم يحاول
الارتقاء بفهمه واستيعابه للفن المتجدد. وهذه
بالفعل معضلة اختلف حولها الكثيرون، ومن بينهم
مَنْ اختلف مع يوسف شاهين واتهمه بالتعالي وعدم
الاهتمام بقضايا الجماهير.
ولم يكن رصدنا السابق، لمسيرة الفنان الكبير يوسف
شاهين، إلا رداً وتذكيراً لهؤلاء، إذ إن هذا المخرج
لم يتناسَ قط قضايا المجتمع،
سياسية كانت أو اجتماعية، بل قدمها بشكل جريء
وصارخ لم يسبقه إليه أحد. ثم هل الفنان مطالب
بالرضوخ لرغبات الجمهور، وتقديم ما يريده هذا
الجمهور؟ أم إن العكس هو الصحيح؟ شخصياً، أعتقد
بأن هذا إجحاف بحق الفن والفنانين بشكل عام.
هكذا.. نكون قد حاولنا الدحول إلى عالم يوسف شاهين
الفني والفكري.. ولو أن هذا الأمر يحتاج إلى كتاب
كامل لكي نوفي حق هذا الفنان الكبير..!!
|