غياب مخرج متميز كخيري بشارة عن الساحة السينمائية، له دلائل متعددة. فهذا المخرج عندما قدم باكورة أعماله السينمائية الروائية مع بداية الثمانينات، أحدث انقلابا خطيراً في الحركة السينمائية. حيث أعتبر فيلمه (العوامة رقم 70) إنتاج عام 1982، بداية لمرحلة جديدة في تاريخ السينما المصرية، أطلق عليها فيما بعد اسم "تيار السينما المصرية الجديدة". هذا التيار الذي أعطى روحاً جديدة للسينما المصرية، بعد أن كادت أن تفقد وعييها. لولا بروز قلة من فرسان السينما أمثال المخرجين محمد خان وعاطف الطيب وداود عبد السيد ورأفت الميهي. نجحوا في انتشال هذه السينما من الغرق. خيري بشارة إذا وبفيلمه (العوامة 70)، كان قد أعلن عن وجود هذا التيار الذي يعتبر نقلة نوعية بالنسبة للسينما المصرية.. إذن أين هو الآن هذا المخرج.. ماذا حل به؟!

منذ أسابيع قليلة مضت، طالعتنا الأخبار، عن عودة خيري بشارة في فيلمه الجديد (ليلة في القمر)، بعد توقف دام أكثر من سبع سنوات، بعد أن قدم فيلمه الأخير (إشارة مرور) عام 1996. وبالطبع فهي عودة طال انتظارها. فصاحب (الطوق والإسورة) لابد أن يكون متواجداً في الساحة السينمائية. علماً بأن الوسط السينمائي المصري في السنوات الأخيرة انتابته موجة من الأفلام السهلة، إن لم نقل الهابطة، التي اعتمدت على التبسيط في الطرح وطغيان الكوميديا والتهريج على غالبية الإنتاج، ضناً من صناعها بأنها تلبي مطلب المتفرج وتجلب انتباهه.

تواجد مخرج كخيري بشارة في ظل ظروف السوق السينمائي الغريب نوعاً ما، سيكون بالطبع ذا فائدة في تحريك الجو السينمائي مع قلة من المخرجين الذين حاولوا قدر المستطاع عدم الانصياع لمتطلبات السوق السينمائي، وتقديم فن سينمائي حقيقي. هذا إذا افترضنا بأن غياب خيري، كان أساساً بمثابة احتجاج على ما هو متوفر من مادة سينمائية في السنوات الأخيرة.

فخيري بشارة، الذي مرت تجربته السينمائية بمرحلتين مختلفتين، الأولى، وهي الأهم، قدم فيها (الأقدار الدامية، العوامة 70، الطوق والإسورة، يوم مر يوم حلو، رغبة متوحشة).. وهي مرحلة تميزت بتقديم الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وكشفت عن فنان أصيل يهمه الواقع الصعب الذي تعيشه الطبقة المتوسطة والفقيرة. والمرحلة الأخرى التي قدم فيها (كابوريا، آيس كريم في جليم، أمريكا شيكا بيكا، حرب الفراولة، قشر البندق، إشارة مرور). وهي المرحلة التي كشفت عن شغف خيري بعالم آخر يريد هو أن يصوره ويحكي عنه. مرحلته هذه تميزت بتقديم السهل الممتنع، وتناولت أفكاراً بسيطة ذات أبعاد اجتماعية هامة. وقد كانت هذه المرحلة مثار جدل ونقاش لم يهدأ إلا بتوقف خيري بشارة عن الإخراج.. مرحلة استنكرها الكثيرون من خيري، فقط لأنها كانت النقيض لما قدمه من قبل. لم يهتم أحد بما يريده هو كفنان، كان الجميع منشغل عما يريده خيري كمخرج وكإنسان.

عودة خيري بشارة من جديد للإخراج، محفوفة بالمخاطر، فأما أن يكون قادراً على تخطي المناخ السينمائي السائد، وتقديم المختلف، وبالتالي سينجح في الاستمرار.. وأما أن يساير هذا المناخ، وبالتالي ستكون هذه الرجعة هي مقتله بالفعل.