مهما تعددت التحليلات فإن الصورة تظل قوية وفعالة، وليس بمقدور المرء
أن يصدها أو أن يصرف الانتباه عنها، نظراً لأن المرء (ربما كاستجابة
لذاكرة سلفية ذات جذور عميقة ترسخ فيها الخوف أو البهجة الطفولية) لا
يستطيع أن يقاوم جاذبية الحركة (عندما يدخل غرفة ما أو دار سينما، فإن
عينيه تنجذبان بشكل مباشر وتلقائي نحو الأشكال المتحركة أولاً) أيضاً
هو لا يستطيع أن "يقاوم" التغييرات المروعة التي سببها المونتاج:
الاقتحام المفاجئ للأشكال "داخل الكادر، تفجر الصور وتوهجها في درجة
أسرع مما يحدث في الواقع، القدرة الحسية للقطة القريبة التي تبدو
الأشياء بداخلها مضخمة ومحسوسة أكثر.
الصورة تسبق زمنياً اللغة والفكر، وبالتالي تملك القدرة على الوصول إلى
أعمق وأقدم طبقات النفس.. أكثر من الكلمة أو الفكرة. لقد كانت الصورة
مقدسة في العصور البدائية مثلما هي اليوم، وبالنتيجة كانت مقبولة ومسلم
بها كما لو كانت في الحياة والواقع والحقيقة، وهذا القبول لم يتم
بواسطة العقل بل على المستوى الشعوري. إن الإنسان يبدأ بما يراه أمامه
ثم ينطلق كخطوة تالية ليمثل الواقع ويصوره، إنه يريد أن يحتوي كل ما
يجري أمامه ضمن نطاق بصره، إن يتمثله بصرياً، ومن هنا كان الفن ضرورة
ملحة.
وبالرغم من ذلك فإن الصورة، مهما كانت جديرة بالتصديق و"موثوق بها"، هي
أساساً تحريف للواقع، ليس فقط لأنها تفتقر إلى العمق أو الكثافة، تواصل
الزمان ـ المكان، أو اللاانتقائية في تناول الواقع.. وإنما لكونها تؤكد
مظاهر معينة وتبرزها بوضوح وتركيز مقابل إقصاء المظاهر الأخرى، وذلك
يعزلها داخل إطار مركز في تسلسل متنامي باستمرار.
وأخيراً، إن قوة الصورة وفعاليتها، وعلاقتها المباشرة بالجزء الكامن
تحت عتبة الوعي عند الإنسان، وقدرتها المذهلة على تخطي التخوم وممارسة
تأثيراتها في الجماهير، وانتهاكاتها للأعراف والقوانين والقيم.ز كل هذا
جعل السينما هدفاً مكشوفاً للقوى القمعية في المجتمع: الدولة،
المحافظون، أجهزة الرقابة.
ولكن يبدو واضحاً أنه لا القمع ولا الخوف قادران على كبح الانطلاقة
العنيفة نحو سينما أكثر تحرراً، تستكشف فيها كل الموضوعات المحظورة
وتُدرس بجسارة ودون مواربة.
عن كتاب "السينما التدميرية ـ ترجمة: أمين صالح
|