سنة 1978 ذهبت إلى بيروت بناء على دعوة من صديقة اسمها ريما سالم كان
زوج شقيقتها أحمد عبدالرحمن في منظمة التحرير الفلسطينية، قالت لي: "ما
تيجي تعمل فيلم علن الأطفال الفلسطينيين، ونقدر ندبر لك تمويلاً".. كان
أيامها عام الطفل، ذهبت إلى لبنان هاديء جداً وبريء جداً، ولكن عندما
دخلت في إطار مؤسسة السينما الفلسطينية وجدت جنوناً تاماً. حاولت أن
أعمل فيلماً عن أطفال تل الزعتر والشباب الذي حضر مذبحة أيلول الأسود.
وكانت الفكرة هي أن تبعية النضال الفلسطيني للأنظمة العربية هو الذي
يجعل مذابح مثل هذه تحدث.. طبعاً لم يتم عمل الفيلم.
في هذه الأثناء استقال الناقد إبراهيم العريس من جريدة السفير فعرضوا
علي أن أكتب مقالات أسبوعية فكانت فرصة لأني لم أكن آخذ نقوداً من
منظمة التحرير، وكنت أعتبر ما أعمله جزءاً من التزامي الثوري تجاه
قضايا النضال العربي، وسمح لي عملي في السفير أن أبقى في بيروت لكي
أكمل الاستطلاع الذي كنت أعمله لنفسي، لكي أعمل الفيلم الذ لم يُعمل
أبداً. كانت بيروت مكاناً خرافياً، عشت فيها أربع سنين من 1978 حتى
19882.
سنة 1982 ـ السنة التي حدث فيها الغزو الإسرائيلي لبيروت ـ بدأ التعب
يظهر ويزداد الإحساس بالهزيمة، وما زاد إحساسي بذلك هو عملي مع المخرج
السوري المعروف عمر أميرالاي كمساعد في فيلم تسجيلي اسمه "مصائب قوم"
عن حانوتي شيعي يشغّل سيارته كـ"تاكسي" حينما لا يكون هناك أموات..
الشخصية ظريفة جداً، وتجربة الفيلم نقلتنا من مكان لمكان فبدأت أشعر أن
هناك أشياء لم تعد "ماشية".. لم تعد "نافعة". السينما وسيلة معرفة،
تستشعر من خلال نشاطك كسينمائي أسياء، بالمتابعة تبدأ في الإحساس بها.
عندما جئت إلى مصر في مارس 1982 قابلت يوسف شاهين. قال لي يوسف شاهين:
"أنت إيه اللي مقعدك في بيروت ما تيجي مصر"، وهذا ما كنت أتمناه، فرجعت
إلى بيروت و"وضبت" أوضاعي وعدت إلى مصر في 30 مايو، ولمدة شهر لم يكن
يوسف شاهين موجوداً، فلم أكن أعرف ماذا أفعل، ولا أدري إذا كنت سأجد
عملاً في السينما أم لا، المهم.. رجع يوسف شاهين وكان يريد أحداً يعمل
معه كمنقح لسيناريو "الوداع يا بونابرت" للغة وللتركيبة نفسها، "يوضب"
له أوراقه وأشياء كهذه ـ مثل السكرتير ـ فعملت هذا العمل وبالتدريج
وجدت نفسي قادراً على العمل مع يوسف شاهين كمساعد إخراج، لأني كنت قد
أصبحت عارفاً بالموضوع جيداً، عارفاً بتفاصيله، وعملت مع يوسف شاهين
المعاينات.. إلخ. فوجدت نفسي من الشارع مساعد أول في "الوداع يا
بونابرت" ومعي أحمد قاسم، وكانت هذه التجربة مغامرة خرافية تعلمت ن
خلالها ما معنى السينما، ماذا يعني الإخراج، ماذا يعني أن تجد مكاناً
للتصوير.. عندما تعمل فيلماً ـ هذا أكثر شي تعلمته من يوسف شاهين ـ كيف
تحول مكاناً موضوعاً وشخصيات إلى أشياء تخصك، تشعر بالراحة لها مثل
علاقتك ببيتك، وهؤلاء الناس الذين تعمل معهم هم أهلك، وإلى أي مدى لابد
أن تكون متواضعاً أمام عملك، ومباشرة بعد "الوداع يا بونابرت" بدأت
أكتب في "سرقات صيفية".
عن مجلة "ألف"ـ العدد 15 ـ 1995
|