اختيار صوفي.. امرأة الملازم الفرنسي.. موسيقى القلب.. الساعات..
أفلام لا يمكن إلا أن تبقى في الذاكرة.. أفلام أطلعتنا على نجومية
باهرة لامرأة خالطت روح الفن بروحها وفكرها، فجاء أداؤها الدرامي
للشخصيات التي تؤديها أداء مليئاً بالحيوية والحياة. إنها النجمة
ميريل ستريب.. صاحبة الوجه المليء بالحنان والطمأنينة والثقة.
أتذكر تلك اللحظة.. عندما شاهدتها لأول مرة.. بهرني ذلك الإحساس
الطاغي بالتماهي مع هذه الفنانة فيما تؤديه من شخصية. أحقاً.. هذه
هي المرأة التي في الفيلم، أم إنها فقط شخصية خارجة عن الممثلة..
إن هذه الممثلة العملاقة، تعطيك ذلك الإحساس بالصدق الانفعالي
والنفسي لما تشاهده من شخصيات.
كيف ذلك إذن..؟! التمثيل أساساً، ليس أداء لأي شخصية حسب ما يعطى
للممثل.. إنه (أي التمثيل) دراسة للحالة النفسية والاجتماعية
للشخصية نفسها، وإيجاد ذلك الارتباط العلائقي بين الشخصية والممثل.
وهي قدرة ليست متجسدة لدى الكثير من الممثلين، أو لنقل إنها ليست
متوفرة بذات الدرجة لدى الجميع. وهذه الفنانة المتألقة تعي كل
الوعي قيمة أن تجد لها ما يبرر وجود ميريل ستريب كشخصية في داخل
الفيلم.
عندما قدمت أول أفلامها على الشاشة، في (جوليا ـ 1977)، لم تلفت
ستريب الانتباه كثيراً، باعتبار وجودها أمام العملاقتان، جين فوندا
وفانيسيا ريديجريف. ولكنها في فيلمها الثاني (صائد الغزلان ـ
1978)، أمام روبرت دي نيرو، استحقت ترشيح أوسكار أفضل ممثلة، وكان
رصيدها ثلاثة أفلام فقط. حتى جاء أوسكار أفضل ممثلة في العام 1979،
عن فيلم (Kramer
vs. Kramer)
أمام داستن هوفمان.
عقد الثمانينات مثل مرحلتها الذهبية، حيث برزت ميريل ستريب وقدمت
أدواراً مهمة وفرضت نفسها على ترشيحات الأوسكار 12 مرة وفازت
باثنتين، ولجائزة الكرة الذهبية 16 مرة وفازت بثلاث. كما أنها فازت
ست مرات بجائزة الجماهير الأمريكية. هذا إضافة إلى جائزة أفضل
ممثلة في مهرجان كان الدولي عن دورها في فيلم (صرخة في الظلام).
ولدت باسم ماري لويس
ستريب، في مدينة سوميت بولاية نيوجيرسي عام 1949، والدها هاري
كان صيدليا، وأمها كانت فنانة تشكيلية، درست ميريل في جامعة (Vassar)
وتخرجت منها في عام 1971،
وفي بداياتها، كانت ميريل مهتمة بالأوبرا فقط، وكانت تحب هذا النوع
من الفن، وتلقت العديد من الدروس والتدريبات فيه، ولكنها في
النهاية وجدت نفسها تميل إلى
التمثيل، فالتحقت بمدرسة (Yale)
للدراما.
أداء فذ وأخاذ، ذلك الذي نتلقاه من ميريل ستريب، هذه التي تستثار
أمام أي شخصية تجسدها على الشاشة.. نجدها تعيش في بحث عميق وصعب
للبحث في أعماق شخصياتها. وتسعى للتحول نفسياً وجسمانياً، لتخفيف
وزنها أو زيادته.. تتقن اللغة أو اللهجة التي تتحدث بها الشخصية..
تقرأ كل ما يتعلق بالشخصية.. إلى أن تنجح في إيصالنا كمتفرجين، إلى
حالة من عدم التفريق بين الحقيقة وبين الخيال.. بين الشخصية وبين
الممثلة.
تقول ستريب: (إذا لم يخفق قلبي بسرعة فائقة عندما أصل إلى الصفحة
15 أو الصفحة 20 من السيناريو، فإنني أضع السيناريو جانباً وأفقد
الرغبة في مواصلة قراءته. إني أبحث عن ارتباط خاص، صلة عميقة،
تفاعل عاطفي، فأنا لا أقترب من النص على المستوي الفكري فقط).
فشخصية (سارة) في فيلم (امرأة الملازم الفرنسي)، بمثابة تلخيص ذكي
لعصر كامل بما يحويه من صراع نفسي واجتماعي. فسارة عندما تقول
بأنها تبحث عن حريتها في نهاية الفيلم، لم تكن تعني بالطبع الحرية
بالمعنى الفردي، وإنما بما هو أكثر عمقاً وشمولاً.. كانت تعني
البحث عن الذات وعن أسلوب جديد للحياة في هذا المجتمع المغلق.. هذا
حتى ولو لم تكن "سارة" مدركة لذلك لفرط انهماكها في مأساتها
الشخصية.
كذلك هو الحال للشخصية في فيلم (الساعات)، تلك الشخصية الباحثة
دائماً عن متنفس لمشاعر المرأة والأنوثة وحريتها في البوح بهذه
المشاعر، وإمكانية تخلص الفرد من القيود التي تفرض اجتماعيا أو
التي يفرضها هو على نفسه، تبعاً لحالة أو مشاعر إنسانية مختلفة.
فنرى تلك المرأة القوية التي تبقى لصيقة الصلة بصديقها المريض رغم
علمها بميوله الأخرى وفقدها الأمل حتى من انتمائه لها. ثم محاولتها
المستميتة في إبقائه متصلاً مع الآخرين. وبرغم القوة الظاهرة التي
تتحلى بها هذه الشخصية، إلا أنها من الداخل تعاني هذه الهشاشة في
رغبتها الصادقة بالتحرر من كل ما فرضته هي على نفسها.
هذه المشاعر الاستثنائية، ضمن نموذجين فقط من الشخصيات التي
شاهدناها لهذه الممثلة، (ربما يجد القارئ شخصيات كثيرة مازالت
عالقة في ذاكرته)، إنما هي خير دليل لما يعطى في مفهوم صناعة
الممثل في السينما. ولا يمكننا أن ننسي بأن خبرة هذه الفنانة
الحياتية ساعدتها بالطبع في اختيار شخصياتها السينمائية المتميزة،
والنجاح أيضاً في تقديمها على الشاشة. وليست جائزة المعهد الأمريكي
للفيلم، والتي خصصت عام 2003، لهذه الفنانة عن مجمل أعمالها، إلا
تكريسا لأهمية ميريل ستريب كفنانة كبيرة متميزة.. وواحدة من أهم من
مثل، من الرجال والنساء، في تاريخ السينما العالمية.
الشاشة السحرية التي تهيئ لنا صوراً لا تنسى.. عندما تمتلئ هذه
الشاشة بصورة ميريل ستريب، نرى ذلك الوجه المدهش الآسر الذي لا
ينسى أبداً.. تلك النظرة الغامضة التي تدخلنا في عمق أسطوري يحاور
الشخصية التي أمامنا.. إنه ذلك السحر الأزلي الذي لابد له أن يستقر
في ذاكرتنا طويلاً.. طويلاً..!!
|