بعد اللقاء مع الرئيس الأمريكي في فيلم (أن تكون هناك
BEING THERE)، تتفتح أبواب الشهرة لهذا الرجل البسيط، وتثار ضجة إعلامية حوله
وتسعى كبريات الصحف والمحطات التلفزيونية لإجراء مقابلات معه، يمر
خلالها بمواقف كوميدية، يفترض أنها محرجة، إلا أنها تفسر بشكل
مغاير تماما لحقيقتها وينتهي الفيلم، دون معرفة الجميع لشخصية
"تشانس" الحقيقية ماعدا طبعا، الطبيب الذي يتوصل لمعرفة الحقيقة من
المحامي. لكنه لا يجرؤ علي البوح بذلك، عندما يرى أن الضجة
الإعلامية حول "تشانس" قد بلغت حدا لا يمكن لأحد أن يصدق معلوماته
عن هذه الحقيقة.
يتناول
الفيلم نموذجين من المجتمع الأمريكي، الأول ويمثل مراكز القوى
السياسية والاقتصادية التى تتحكم في مصير المجتمع الأمريكي، بكل ما
يحفل به هذا النموذج من صراعات وتعقيدات، تتناقض تماما مع النموذج
الثاني الذي يمثله "تشانس"، بكل ما يرمز إليه من
طبيعة إنسانية بسيطة وصادقة ذات فطرة نقية وسليمة وهي صفات
اختارها الفيلم ليس بشكل
اعتباطي، وإنما لإثبات مدى صلاحيتها لتسود
بين أفراد المجتمع الأمريكي. حيث أنها
صفات يفتقد إليها التركيب النسيجي للنموذج
الأول. فالفيلم في نهايته، وبموت
الرأسمالي العجوز، يؤكد على ضرورة التخلص
من الآثار الاجتماعية التى خلفتها سيطرة
النموذج الأول. مع ملاحظة إن الموت حدث في جو خريفي باهت بينما بقى
"تشانس" البسيط
تاركا مراسم الدفن، ليعتني بشتلة خضراء صغيرة وسط تلك الغابة
الجرداء. هنا تأكيد
واضح على أن النموذج الثاني هو الإصلاح،
ولابد له أن يجري في عروق المجتمع الأمريكي ويتأصل فيه، هذا إذا
أراد الاستمرار وتوفير مستقبل افضل.
يعد هذا الفيلم من
الأفلام الكوميدية الهامة. وذلك لأن الكوميديا فيه تعتمد علي
مواقف طبيعية، لم تكن
مفتعلة بغية الإضحاك الرخيص والمبتذل،
وإنما لكونها كوميدية تعد انعكاسا طبيعيا
لشخصية من نوع شخصية "تشانس"، وهذا - بالطبع- قد ساعد كل من كاتب
السيناريو والمخرج
والممثل علي- استثمار ذلك في كشف عيوب المجتمع الأمريكي.
فعندما تصدر مثل هذه
المواقف من رجل بسيط مثل "تشانس" فإنها لا
تثير الاستغراب أو التشكيك، بل إنها تعكس
توظيفا صحيحا للكوميديا، حيث إنها تقوم بذلك الدور الناقد والفاضح
من خلال عيون
نقية ومحايدة وفطرة سليمة مما يكسبها مصداقية لدى المتفرج.
وعند الحديث عن فيلم "أن تكون هناك" لا يمكن إلا أن نتحدث عن
الأفلام الأمريكية، فالقفزة السريعة التى
انتقل بها "تشانس" من رجل مغمور الى شخصية
فاقت شهرتها الأوساط العامة في المجتمع
إلى آفاق الدوائر الهامة في الدولة، دون أن تكون لديه المعرفة أو
حتى الرغبة في
ذلك. هذه تشكل بالفعل إدانة واضحة ومباشرة للصناعة الإعلامية
الأمريكية، التى وان كانت تمتلك تقنية وإمكانيات فائقة إلا إنها
علي الأغلب تتعامل مع الضواهر الاجتماعية من قشورها فقط، دون النظر
والتعمق في بواطنها، وبذلك تثير في معظم
أنشطتها فقاعات إعلامية ليس إلا.
أخيرا، لابد من الإشارة بان فيلم "أن تكون
هناك" لم يستمد أهميته وتميزه من مضمونه
الفكري فحسب، وإنما جاء ذلك أيضا بسبب وقوف كادر فني وتقني جيد
وراء هذا المضمون. فهناك الممثل القدير "بيتر سيلرز" الذي أدى
دوره بإتقان وتميز لدرجة جعلتنا لا نتصور إن ممثلا آخر قادر على
أداء هذا الدور. وهناك أيضا التكامل في النواحي الفنية الأخرى الذي
وفره لنا المخرج علي مدى اكثر من
ساعتين.
|