في (سمع هس) يقدم شريف عرفة شكلاً فنياً جديداً ومبتكراً، لموضوع هو مزيج
بين الكوميديا الإجتماعية والفنتازيا الإستعراضية. وهو الفيلم الذي إعتبره
المخرج خيري بشارة بداية فعلية لعصر جديد للسينما المصرية.. إنه حقاً فيلم
يستحق هذا التقدير باعتباره جديداً في كل شيء.. فهو جديد في كتابته، إذ
يقوم بتعرية المجتمع بأسلوب ساخر لا يعتمد الميلودراما البكائية وإنما
السخرية والغناء والإستعراض الحركي النابض.. وجديد في إخراجه، حيث يمتاز
بجمال التكوين البصري ورشاقة الكاميرا المتحركة والمثيرة ذات الإيقاع
السريع اللاهث وراء ذلك الصراع بين الشخصيات.
يحكي الفيلم عن حمص (ممدوح عبد العليم) وحلاوة (ليلى علوي)، وهما نموذجان
للفقراء البسطاء القانعين، ويعيشان على هامش حياة يومية صعبة مليئة بعقبات
لا تنتهي.. نراهما مطاردين دوماً لسبب أو دون سبب.. أما الشيء الوحيد الذي
يملكانه ـ الى جانب الصدق والحب ـ فهو أغنيتهما التي يتغنيانها في السيرك
والأفراح وفي كل مكان يتواجدان فيه.. وهي أيضاً مصدر رزقهما الرئيسي. ويحدث
أن يسرق لحن أغنيتهما هذه وينسب الى آخرين أغنياء وذوي سطوة اعلامية، حولوا
اللحن البسيط الى أغنية وطنية تكسب إحترام الجميع، على الرغم من لحنها
المسروق.
في (سمع هس) يقدم الثنائي شريف عرفة/ ماهر عواد نموذجاً لذلك الظلم
الإجتماعي الواقع من كبار اللصوص على صغار الشرفاء، وذلك من خلال عرضهما
لشخصيتي حمص وحلاوة، وقضية سرقة لحنهما من قبل المغني غندور (حسن كامي).
ويمتاز هذا الفيلم بأنه لا يروى، شأنه في ذلك شأن كل الأفلام التي تخاطب
العقل والوجدان.. حيث لا تكفي روايته بل يجب أن يسمع ويشاهد، فبالرغم من
بساطة فكرته، إلا أن مخرجه إستطاع أن يجعل القضية التي يطرحها تتسرب الى
عقل المتفرج ووجدانه ليتفاعل معها بهدوء ودون صخب، حيث كان من السهل على أي
مخرج آخر أن ينزلق في معالجته لموضوع كهذا الى مزالق الخطب النانة والحوار
الزاعق.
لقد نجح السيناريست عندما مزج ـ في صياغته للأحداث ونسيجها الداخلي ـ بين
الحس الدرامي والتعبير الموسيقي. فنراه يقترب بذلك من هموم البسطاء ويدخل
عالمهم من أوسع الأبواب، ليعلن عن واحدة من قضاياهم التي لم تصل الى
المحاكم ولم يناقشها قضاة، بالرغم من أنها إخترقت المسامع وتداولتها الألسن
بالشفقة حيناً والسخرية والستهتار في أحيان كثيرة. فالسيناريو يغوص داخل
أعماق القضية من جانب فني، متجاوزاً ممنوعات الرقابة.. وذلك عندما إختار
عالم الفن الواسع مدخلاً الى قضية ثرية كهذه، مسلطاً الأضواء حولها عبر
رؤية جادة ومبتكرة، فيها دعوة واضحة للتصدي وعدم القبول بالواقع الذي فرضه
قادرون.
إن الإستعراض الغنائي في فيلم (سمع هس) بشكل عام جاء معبراً ويشكل جزءاً
هاماً من نسيج العمل الدرامي، وليس مقحماً على الأحداث.. وهو أيضاً
إستعراضاً له كل مقومات الإستعراضات الناجحة، من دقة في التكوين الجمالي
للكادر، وسرعة في الإيقاع، وتناسق في الأداء الحركي. هذا إضافة الى ذلك
التفاعل والإنسجام فيما بين شريط الصوت والصورة السينمائية.. فالأغنية
الوطنية مثلاً قد قدمت نقداً لبعض سلبيات المجتمع بشكل كوميدي طريف..
فبينما كان الصوت يردد (سندافع عنك يا وطن ونحميك....)، كانت الصورة تقدم
لنا رجالاً في المقاهي يلعبون ويدخنون الشيشة شاردين في عالم آخر، غير
آبهين لمن يسرق من. ومن الصور البصرية المعبرة التي قدمها المخرج للتعبير
عن حالة بطليه وأزمتهما، إنتقاله بالكاميرا مباشرة ـ بعد موقف سرقة اللحن
منهما ـ الى مبنى قبر الجندي المجهول، حيث إقتربت الكاميرا مركزة على عبارة
(الجندي المجهول) تأكيداً على حقهما في اللحن، وتأكيداً على وجود جنود
مجهولين آخرين في مختلف المستويات. ومن الإستعراضات البارزة في الفيلم،
إستعراض الفلوس، والذي يمثل حلم البطلين. وقد جاء تنفيذه جيداً، تمازجت فيه
ألحان مودي الإمام وموسيقاه الدرامية المؤثرة مع كلمات بهاء جاهين المعبرة،
وخطوات الراقصين الإيقاعية الرشيقة مع إضاءة محسن أحمد الدرامية ومونتاج
عادل منير الراقص، إجتمعت جميعاً لتخرج لنا مشهداً قوياً وراقياً، نجح شريف
عرفة في تجسيده. كما لا يفوتنا الإشارة الى إستخدام المخرج الموفق لاحدى
الفرق الشعبية للتعليق على الأحداث، سواء بالعزف على الربابة وحدها تعبيراً
عن تصاعد الأحداث، أو بالغناء الشعبي الذي يعلق فيه مطرب الربابة على ما
يجري أمامه من أحداث.. وقد جاء هذا الإستخدام في بناء درامي قوي ومتماسك.
إن (سمع هس)، إضافة الى ما قدمه من شكل فني جيد ومبتكر، يعد بمثابة إعادة
إكتشاف لطاقات ممثليه الأدائية، خاصة بطليه.. فالفنان ممدوح عبد العليم
إنتقل بدوره في هذا الفيلم من مجرد ممثل لامع على شاشة التليفزيون الى نجم
سينمائي شامل، يمثل ويرقص ويغني، وقد أجاد في جميعها. كذلك ليلى علوي التي
كانت في نظر غالبية المتفرجين مجرد وجهاً جميلاً فقط، أصبحت بهذا الدور
ممثلة تمتلك قدرات أدائية وتعبيرية تلقائية صادقة، إضافة الى المرونة في
الجسم رغم إمتلائه. |