القراءات المتفرقة والتفكير العميق بطبيعة الصورة
السينمائية، أنتج في داخلي هذا التساؤل، الذي أراه
موضوعيا ومنطقياً.. هل على الصورة السينمائية أن
تتخذ من القص أسلوباً لها..أم ماذا؟! وهل من
الضروري أن نطلب من الفيلم السينمائي أن يحكي لنا
قصة أو حكاية..؟!
إذا وافقنا على طبيعة هكذا تساؤل.. فهل يعني هذا
بأن المتلقي كان عليه أن يلجأ إلى الرواية أو
القصة كأصل، ليستقي منها الحكاية.. أم أن السينما
والصورة خصوصاً، لابد أن تعطيه شيئاً آخراً.. غير
ما أعطته الرواية؟!
أعتقد بأن فن الصورة السينمائية، عليه أن يكون
مستقلاً بذاته.. أي أنه لابد أن يعتمد أسلوباً
خاصاً للسرد.. ولا يعتمد أسلوب السرد القصصي
التقليدي.
خلال الكثير من القراءات لدراسات وبحوث في هذا
الجانب.. كانت جميعها تمثل محاولات للوصول إلى
صيغة مغايرة.. فشلت ـ للأسف ـ في غالب الأحيان، من
وضع تصور واضح لماهية الصورة والسرد السينمائي
بشكل عام.. تصوراً مستقلاً عن بقية الفنون الأخرى.
ففي كتابه "لغة الصورة في السينما المعاصرة" ـ
ترجمة سعيد عبدالمحسن ـ يتحدث الكاتب "روي آرمز"
عن الحداثة في السينما وإسهامات الكثير من
السينمائيين الحداثيين في خلق توازن فني وخاصية
محددة للسينما.. ويصل إلى نتيجة أن للقص تأثيره
الأقوى على الصورة والسرد السينمائي، هذا عندما
يؤكد بـ:
"إن الاهتمام بالقص ـ سواء في صورة فيلم من أفلام
الإثارة أو الو يسترن، في فيلم عائلي كوميدي أو
عاطفي ـ هذا الاهتمام لا يزال قوياً ولم تبد عليه
سيماء الوهن أو الضعف. سوف يظل للفيلم دور الممون
الذي يزودنا بالقصص. ويبدو مؤكداً أن تظل الكاميرا
أداة تُستخدم لاستكشاف العالم الذي نعيش فيه
بالطرق التسجيلية (...) وأي بحث يجري في وقتنا
الحاضر في نطاق العلاقة بين الفيلم والأدب لن يضع
ضمن أوليات اهتمامه مشكلة الاقتباس (كأن يعقد
مقارنة بين الأفلام المقتبسة عن ديكنز والروايات
الأصلية) ولكنه قد يضرب أمثلة بأفلام بازوليني
ودوراس وروب جرييه وهي الأفلام التي تبين لنا في
جلاء وحسم أن الرواية والفيلم عند الفنان الحديث
كلاهما وسيلة تعبير لها نفس القدر من الصلاحية
ونفس القدر من الثراء في التعبير، وأي مقارنة تعقد
في وقتنا الحاضر بين السينما وأشكال الفن الأخرى
إنما تعقد انطلاقا من مسلمة أساسية قوامها
المساواة بين هذه الأشكال جميعاً، ولا يتناقض مع
هذا أن تعد السينما عنصراً حيوياً، بل هي في بعض
الأحيان الشطر المهيمن في الثقافة المعاصرة".
على الرغم من ذلك البحث المتعمق والرصد الشاخص
والنقد التحليلي للكاتب "روي آرمز" في كتابه سابق
الذكر، إلا أن كل ذلك قد أدى إليه بنتيجة حتمية
واحدة.. وهي قوله: "سوف يظل للفيلم دور الممون
الذي يزودنا بالقصص".
ويقول أيضاً: "إذا عدنا بفن الحداثة الذي شاع في
الخمسينات والستينات إلى أصوله الأولى في فترة
الحرب العالمية الأولى لظهرت لنا الروابط جلية
بينه وبين التطورات التي حدثت في السينما
المعاصرة. ومن البين أن الحداثة وقد انعطفت على
ذاتها خلال السنوات الأخيرة اكتشفت أن تغيراً طرأ
على أفكارها الرئيسية. فإحدى الخصائص الرئيسية
للحداثة في العقدين الثاني والثالث تتمثل في فتح
مجال جديد للتجربة، وارتياد مجال اللاشعور بصفة
أخص، تلك خصيصة من شأنها أن توجد رابطة تربط بين
رواية "يوليسيز" لجويس وروايات فرجينيا وولف،
وأخرى تربط بين التعبيرية في تشويهها للأشكال
والسريالية في استكشافها للأحلام، كما تربط بين
القطعة الموسيقية "انتظار" لشونبرج، و"طقوس
الربيع" لسترافنسكي، ثم تربط بين لوحات كليه
ولوحات كاندنسكي".
"على حين كانت السينما طوال الفترة ذاتها معنية
بأداء مهمة أخرى مختلفة تمام الاختلاف، إذ كانت
معنية بالعمل على تطوير أساليب السرد السينمائي
لتصبح صالحة لترجمة عالم الواقع ترجمة مقنعة سواء
بالنقل عنه (كما هو الحال مع "فلاهرتي"
أو"شتروهايم" في فيلم "جشع") أو بخلق عوالم هي
صورة طبق الأصل منه (ويتمثل ذلك في استوديوهات
هوليوود). ومع ذلك كان المحور الذي تدور حوله كل
من السينما والفنون الأخرى في فترة الخمسينات
والستينات محورا واحدا، حيث أخذ عنصر الخيال يحتل
مكان الصدارة باعتباره قطب الرحى في الحداثة. وهذا
يعني أن أي عمل من أعمال الحداثة في أي فن من
الفنون في يومنا هذا لابد وأن ينطوي ـ في كثير من
الأحيان ـ على قدر من التفاعل بين ما هو واقع وما
هو خيالي، بين الحقيقة والمجاز، أو أن يتناول
بالمعالجة أوجه التضاد بين الفن والحياة".
(... ينطوي الفن على ثورة ضد كل ما هو زائل وناقص
في هذا العالم. ومن هنا لم يكن له من هدف سوى منح
الواقع شكلاً غير شكله، وإن قيض لهذا الواقع أن
يظل مصدراً لما في الفن من مشاعر... إن الفنان
ليعيش حالة اللبس والغموض، فهو غير قادر على إنكار
الواقع، ومع ذلك لا يملك إلا أن يضعه دوماً موضع
التساؤل، لما في هذا الواقع من نقص دائم...)..
البير كامي ـ 1957
هذه المقولة صدرها الكاتب "روي أرمز" كتابه،
تأكيداً على أهمية أن للسينما اتصال وثيق وفريد
بعالم الواقع. وهو هنا يواصل بحثه في توصيفه
للقواعد السينمائية التي طبقها على أمثلة كثيرة،
لتأكيد مقولته هذه.
فهو يقول بأن: "القواعد السينمائية التي تطورت على
يد مخرجين ممن تلقوا دراسة أكاديمية ـ مثل ديفيد
لين ـ انطلاقا من أساليب الفيلم الصامت، قد اعتادت
أن تستخدم أشياء مثل تحريك الكاميرا من أسفل إلى
أعلى لكي تعبر عن رد فعل يشي (بالرهبة أو التفوق)
وهي طريقة مفرطة في التبسيط خشية الوقوع في
الالتباس أو الغموض. لكن يظل للصورة السينمائية
حيادها الأصلي، وللتغلب على هذه الحيادية جاء
تركيب الدراما السينمائية على نسق الميلودراما
عادة، مع استخدام موسيقى مسجلة تمسك بقيادة
المتفرج وتشكل رد فعل مشاعره إزاء الأحداث التي
تفرضها الصور. ولقد طرحت السينما الحديثة الكثير
من قواعد السينما ونبذت بصورة أشد الميلودراما.
وبدلاً من العمل على تضييق نطاق الالتباس، لجأ
إليه كثير من المخرجين من أهل الحداثة واستخدموه
بوعي تام في أفلامهم، وثمة أمثلة واضحة لهذا
الاستخدام درست بإفاضة نجدها عند "بونويل" في فيلم
"تازاران" أو عند "ملفيل" في فيلم "ليون موران" أو
فيلم "القس" أو "الساموراي" أو عند "فراري" في
فيلم "ديلنجر لقى حتفه". كما أن ما أسماه "برسون"
بالتزييف المسرحي ورفضه له إنما ينطوي في الحقيقة
على رفض لكل التفسيرات السيكولوجية للأفعال
الصادرة عن شخصياته، ويكتفي بتقديمها لنا دون
تعليق".
"في حين يجعل "أنطونيوني" من الغموض الذي يكتنف
صوره، وعدم القدرة على فك طلاسمها محوراً يدور
حوله فيلم "تكبير صورة". فالصورة هنا تصبح رمزاً
لبطل الفيلم الذي فقد القدرة على الاتصال بعالم
الواقع إذ يراه بعيد المنال. نفس الفكرة نجدها عند
"جودار" في فيلم "بيرو المجنون". والمحصلة
النهائية لكل هذا أننا بإزاء شكل من أشكال السينما
يقدم لنا سلوك الناس بقدر من الحياد، وبقدر من
التأنق البارد الذي ينحو نحو التجريد عند كل من
"يانشو" و"إيشيكاوا".
يواصل "آرمز" حديثه عن الصورة والكاميرا، وجهود
المحدثين من سينمائي أوروبا في تطوير صورتهم، حين
يقول بأن: "حياد الكاميرا يؤدي بالضرورة إلى
شفافيتها، ومع أن مجال رؤيتها للأشياء يحدده
المخرج بعينه ويده نظراً لطبيعة عملها كأداة تسجيل
ميكانيكية، إلا أن الصور ذاتها تصدر عنها دون
وساطة الوعي البشري. وشفافية الكاميرا هذه هي التي
استعان بها بعض النقاد في الماضي كوسيلة لتبرير
نزعتي الواقعية والتسجيلية في الإخراج السينمائي،
وهو تبرير ينم عن المغالاة في التبسيط، وهي أيضاً
ـ أي شفافية الكاميرا ـ نفس السمة التي استعانوا
بها في تشويه سمعة الأساليب التعبيرية أو الأساليب
المسرحية تشويهاً لا مبرر له (...) والحداثة بصفة
عامة ترفض تقنيات الأستوديو وتتبنى نظرة أقل
تحفظاً إزاء الأساليب التي كان ينظر إليها فيما
مضى على أنها متنافرة ويناقض بعضها بعضاً.
ويؤكد "آرمز" في ختام كتابه الهام هذا: "إن
المخرجين السينمائيين المحدثين قد تصدوا ـ بطريقة
مباشرة ـ لكثير من المشاكل مما يصادفنا في حياتنا
الشخصية أو في علاقاتنا الاجتماعية أو السياسية.
ولعل السبب في ذلك أن وسيلة التعبير هنا ـ وهي
السينما ـ على اتصال وثيق وفريد بعالم الواقع. ومع
ذلك فإنهم يقرون ويعترفون بأن حقائق القرن العشرين
لا يمكن التعبير عنها من خلال أشكال السرد الخاضعة
لقواعد القرن التاسع عشر، وعلى أساس من هذا
الاعتراف قامت أفلامهم. إن للسينما الحديثة ذلك
البعد الإيجابي والإبداعي الذي اعتبره "كامي" هاما
للغاية، فهذه السينما تقر بأن الأساليب الجديدة
ضرورة لابد منها لتجسيد المدركات الجديدة. إن
الحداثة لتكشف عن وعي شديد بما في الحياة من تنافر
ومصاعب وعدم تواصل، وتناقض. على أن الأفلام التي
أنتجتها تقدم لنا في نفس الوقت تجربة ـ هي في حد
ذاتها ـ تجربة مجزية للغاية، ذلك أن العمل على
إيجاد تعبير متسق البنية ـ وإن يكن معقد الشكل ـ
عن هذا الوعي، مثل هذا العمل إنما هو ضرب من
الكفاح قوامه الإيمان الحقيقي بالفن وبالحياة".
من هنا يمكن اعتبار دعوة الكاتب "روي آرمز" إلى
مواصلة البحث عن مفهوم واضح ومحدد للسرد والرؤية
السينمائية، لهي دعوة متفائلة يشوبها الكثير من
الأمل بالغد السينمائي المفتوح، ودعوة لكل
المغيرين والهادمين للأطر والقوالب الجامدة، في
إطلاق العنان لخيالهم الخلاق واستحداث ما هو كفيل
بإعطاء السينما خصوصيتها.
السرد السينمائي
رؤية خاصة
عندما يخبرني أحد الأصدقاء عن فيلم شاهده مؤخراً
وأعجبه.. ويبدأ في سرد حكايته.. أشعر بعدم الرغبة
في سماعه.. بل إنني أحياناً أستوقفه وأشير إليه
بأنني لا أحبذ سماع حكاية فيلم.. فما وراء هذا
الإحساس..؟!
أعتقد بأن الموضوع السابق الذي طرحناه في هذه
الزاوية، وعلى مدى أربع أسابيع، له علاقة جدلية
بالإجابة على إحساسنا هذا.. السرد السينمائي
وخصوصيته.
أولاً.. لإحساسنا بأن الفيلم ليس حكاية تحكى،
فقط.. وإلا لماذا كلف المنتج والمخرج وطاقم الفيلم
بكامله كل جهودهم هذه، لصناعة فيلم.. يمكننا أن
نقرأه من كتاب أو رواية بالتحديد..؟!
ثانياً.. وهو محور حديثنا.. هل يمكنني كمتفرج أن
أقبل فيلماً سينمائياً بلا حكاية.. بالطبع سيكون
صعباً علي وعلى أي متفرج من عامة الجمهور.. هذا
لأن تركيبة تفكيرنا وأعيننا قد تعودت على أن نتابع
للفيلم حكاية.. وإذا لم نجد تلك الحكاية.. ننفر من
الفيلم.. بل ونعلن صراحة بأن الفيلم ليس به
حكاية.. ترى هل صحيح بأن الفيلم ليس به حكاية؟!..
أم أن طريقة السرد للحكاية جاءت مختلفة عما تعوده
المتفرج أثناء تناوله للرواية والقصة؟!
من هنا نلاحظ بأن المتفرج الذي لا تعجبه أفلام
فسكونتي وأنطونيوني وغودار وتاركوفسكي وآخرون،
حاولوا الخروج من تلك القوالب التقليدية للسرد
السينمائي، وابتكروا لهم أسلوباً خاصاً رأوا بأنه
الأمثل للفيلم السينمائي، بعيداً عن القص الأدبي..
هذا المتفرج بالطبع له العذر في ذلك.. فهو لم يوجه
ولم يثقف على هذا النحو.. لم يقل له أحد بأن
السينما شيئاً آخراً غير الأدب.. إذن فهو ليس
المسئول عن هذا الخطأ.. السينمائيون أنفسهم هم
المسئولون.. السينمائيون الذين لم يكلفوا أنفسهم
في البحث عن بديل وعن خصوصية للسرد السينمائي..
وهم كثيرون بالطبع.. ساهموا في إعطاء صفة القص
الأدبي للسينما.. وأثروا، بما لا يدع مجالاً للشك،
على طبيعة الجمهور العريض في كيفية فهم السرد
السينمائي.
شخصياً.. وقعت في نفس الخطأ في غالب الأحيان..
هناك أفلام لم تعجبني في مشاهدتي الأولى لها..
وحسب زعم أنني من المتخصصين في متابعة النقد
السينمائي وممارسته.. كان علي أن أراجع الفيلم مرة
ومرات.. حتى يتسنى لي الخروج بنتيجة إيجابية
أفادتني كثيراً في إعطاء رأي نهائي عن هذه الفيلم
أو ذاك. |