فيلم (رسائل البحر - 2010)، تمكنت أحداثه وشخصياته من التأثير بشكل جلي،
علي وعلى مشاعري.. كنت حريصاً على مشاهدة الفيلم قبل رفعه من صالات العرض
في البحرين.. باعتبار أن الفيلم العربي في صالات البحرين لا يستمر أكثر من
أسبوع، خصوصاً إذا كان من هذه النوعية من الأفلام الفنية.. وفي نفس الوقت
حرصت - بعد المشاهدة - أن لا أناقش الفيلم مع أي شخص.. وذلك لاعتقادي بأن
ذلك سيفسد علي الكثير من متعتي الشخصية بالفيلم وشخصياته.. وبالفعل حدث ما
أردت.. خصوصاً بأن المقربين مني فاتهم الفيلم ولم يشاهدوه قبل رفعه من
صالات العرض.. المتعة الشخصية التي أتحدث عنها، هي متعة فنية جمالية خالصة،
بما جاء به الفيلم من مضمون وشكل فني خلاق.. سيطر على إمكانيات التلقي
لدي.. إمكانيات المشاهدة والتفاعل والانسجام والتأثر..!!
حالة النشوة والمتعة الفنية التي كنت فيها بعد مشاهدتي لفيلم (رسائل
البحر)، لم تتركني حتى اللحظة.. لحظة الكتابة عن الفيلم.. وبما أني لازلت
أعيش هذه المتعة، فمن الطبيعي أن أتقاضى عن بعض الإخفاق في سرد الأحداث
وتتابعها، كما بعض الأخطاء في التنفيذ التقني.. المهم أن هذه الأشياء لم
تفسد متعتي في المشاهدة.. وهذا هو المهم..!!
فمن يريد أن يستمتع بفيلم عبدالسيد الأخير هذا، عليه أولاً أن يشاهد أفلامه
السابقة.. فهي التي ستعينه على تتبع جميع الأفكار والمعاني النفسية
والأخلاقية التي يضمنها أفلامه.. منذ فيلمه الأول الصعاليك، وحتى فيلمه
هذا..!!
فعبدالسيد يشكل حالة خاصة في السينما المصرية، باعتباره فنان بدرجة مفكر
سينمائي، بمعنى أن أفلامه تحمل في طياتها أفكاراً فلسفية ونفسية عميقة..
فهو يكتب أفكاره ويترجمها بالصورة والصوت، من خلال شخصيات يحيطها بالكثير
من التفاصيل والظروف الخانقة، ويتركها تختار طرقها وتختار قراراتها، التي
بالطبع ستؤدي إلى حالات من التفاعل بين الخطأ والصواب.. وهو - بالتالي - لا
يحاول أن يدين هذه الشخصيات أو يطلق ضدها الأحكام.. فقط يتركها في خضم تلك
الظروف والمتناقضات، لكي تصل إلى مرحلة الحسم أو الانتصار.. هذه هي طبيعة
شخصيات عبدالسيد في جميع أفلامه..!!
فاز فيلم (رسائل البحر) بالجائزة الأولى في مهرجان الإسكندرية السينمائي
هذا العام.. كما تم اختيار الفيلم عن طريق لجنة فنية مصرية، للمشاركة في
ترشيحات جوائز الأوسكار القادمة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي.. وهذا بالطبع
يزيد من رصيد الفيلم الفني والجماهيري.
يتحدث عبدالسيد عن فيلمه، فيقول:
(...الفكرة كتبتها عن طريق علاقة وجدانية بحتة مع شخصيات داخلي أردت أن
أعبر عنها وأتعايش معها، فالفيلم حكاية أحبها وشخصيات أريد أن أوضحها،
وشعرت بشحنة داخلي تدفعني للتعبير عن هؤلاء البشر وكيف يعانون في المجتمع
وكيف يواجهون المشاكل ويحبون أنفسهم ويتصالحون مع ذواتهم، وكيف يتصرف معهم
القدر وبصراحة، لم يكن لدى هم اجتماعي أو سياسي بل مجرد أحاسيس وجدانية
فقط...).
في فيلمه الأخير (رسائل البحر) يقدم داود عبدالسيد جرعات متلاحقة من
الشاعرية والواقعية في آن، شاعرية تحكي عن شخصيات تواجه واقعها بلامبالاة..
وواقعية تعيق هذه اللامبالاة وتحيل كل شيء أمامها إلى عوائق ومنقصات
اجتماعية ونفسية.. شخصيات عبدالسيد في فيلمه الأخير هذا.. تنطق بالكثير من
المحظورات.. وتتحدث حول المحرمات الاجتماعية والأخلاقية التي يزخر بها
المجتمع من حولها.
والرسائل التي يقدمها عبدالسيد في فيلمه هذا، مليئة بالإيحاءات والألغاز
والمتناقضات، ولم يقدمها بلغة تقريرية وسطحية جافة.. إنما هي تلك الرسائل
والمداخلات الشعورية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية، التي ينثرها
عبدالسيد عبر أحداث فيلمه، بشكل درامي وبلاغي خلاق وغير مباشر.. رسائل
يتعلم منها شخصياته الكثير.. بل أنه (عبدالسيد) لا يهتم كثيراً في كشف سر
الرسالة التي يجدها بطله في قارورة بالبحر..!!
(...أنا لا أوجه رسائل مباشرة، وإذا اعتبرنا المباشرة هي المضمون فماذا
نستفيد عندما نسمع الموسيقى التي تخلو تماما من أي رسالة موجهة، والذين
يريدون رسائل واضحة ومواعظ مباشرة عليهم متابعة نشرات الأخبار فهذا أفضل
لهم وأكثر مباشرة، ولا أعتبر الكلام عن أن صورة الفيلم أو شكله أعلى من
مضمونه لان في السينما الشكل هو المضمون، والمضمون هو الشكل...).
(...للأسف الناس تعودوا على أن يدخلوا الأفلام ليخرجوا بمضمون أو مورال،
وهذا خطأ كبير، فليس من المعقول أن نلخص كل مسرحيات شكسبير مثلا في عدة
نقاط ونختصر إبداعها الفني، ودور الفن أن يقدم عملاً عميقاً ويتركك تكتشف
هذا العمق بنفسك مثلما تشاهد البحر وتشعر أنك تريد أن تعرف ما في أعماقه،
وفى «رسائل البحر» أحكى عن شخصيات وأقدار، وعلى الناس اكتشاف المعنى
والشعور فيه، وأعتقد أن العلاقات الإنسانية هي مضمون الفيلم، وليس شيئا
آخر...).
أما إذا بحثنا عن الحكاية في فيلم عبدالسيد هذا.. فهي جداً عادية.. بل
بسيطة، تحكي عن ذلك الشاب يحيي (آسر ياسين) الذي تخرج من كلية الطب
بامتياز، إلا أنه توقف عن ممارسة الطب بسبب عيب خلقي في النطق، يجعله سخرية
من الجميع.. ويختار أن يصبح صياداً للسمك، بعد وفاة والدته وهجرة أخاه إلى
أمريكا.. واختياره للعيش في شقتهم القديمة بالإسكندرية.. في تلك الشقة
يختار أن يصبح وحيداً، إلا من صحبة جارته الإيطالية الأصل وابنتها التي
تربى معها أيام الطفولة والصبا.
(...هناك فرق كبير بين الفهم والإدراك وأعتقد أن الناس مدركة لمعاني الفيلم
والرسالة
التي يريد أن يرسلها الفيلم فكرة التصالح مع الآخر وقبوله لأنه شئنا أم
أبينا
هو موجود معنا بكل ما يحمله من اختلاف ولكن في النهاية يكون الفهم مختلفا
باختلاف كل واحد وثقافته وطريقة استيعابه لهذا الفيلم لأن الفن ده حاجة
واسعة
جدا...).
يحيي في (رسائل البحر)، إنسان رومانسي يمتلك شفافية حادة وبراءة أخاذة في
تعامله مع الآخرين.. الآخرين الذين دخلوا حياته بشكل تلقائي بعيد عن
الترتيب.. فبالإضافة إلى جارته الإيطالية فرانشيسكا (المخرجة التسجيلية
نبيهة لطفي) وابنتها كارلا (سامية أسعد).. كان هناك قابيل (محمد لطفي) الذي
اعتنى به عندما فقد وعيه من جراء نوبة سكر شديد.. وقابيل هذا، الذي يعمل
بودي جارد رغماً عنه، لأن ملامح وجهه وعضلات جسمه حبسته في هذه المهنة،
ليبدو كالوحش شكلاً، إنما في داخله إنسان حساس، أبى أن يواصل ثورة الوحش في
داخله، بعد أن قتل شخصاً في الماضي، بعد ضرب أودى إلى الموت، فأقسم على ألا
يضرب أحداً مرة أخرى.. نراه أيضاً يرفض إجراء عملية ضرورية في المخ،
ستنقذه ولكنها أيضاً ستحرمه من ذاكرته، لذا يصر على أن يلقن كل ذكرياته
لحبيبته بيسه (مي كساب)، لتذكره إياها بعد العملية. كذلك شخصية نورا (بسمة)
التي كانت مثل النسمة التي تعلم منها حب الموسيقى دون علمه بشخصيتها
الحقيقية.. وجميعها شخصيات تقاطعت بشكل نفسي مع شخصية يحيي.. شخصيات أثرت
وتأثرت بهذا الجو المليء بالحزن والشجن الذي يعشه هذا الشاب المثالي..
شخصيات يجمعها الحب، أو أن الحب يصبح الملجأ الأخير الآمن لكل منها.
في فيلم (رسائل البحر)، نحن أمام شخصية يحيي، ذلك الطفل الكبير العاشق
للموسيقى، بمعناها الروحي والحسي، تلك الموسيقى التي تسحره، بل ويشعر
بالزهو والأمان وهو يسمعها.. فنراه يسعى إليها كل ليلة، حتى وإن كانت
الأجواء الطبيعية غير ملائمة.. مثلها في ذلك مثل الحب الذي يلجأ إليه
لينقذه من وحدته وتوهانه.. ذلك الحب الذي وجده أولاً في ذكريات الطفولة
والصبا مع ابنة جارته كارلا.. وثانياً مع نورا، المرأة المتزوجة التي تشعر
في قرارة نفسها بأنها مومس، وليست زوجة ثانية.. وتستمر في تعذيب نفسها،
عندما تطلب الطلاق ولكنها لا تصر عليه، بل تختار أن تواصل علاقتها مع يحيي
الذي تحبه..
أما البحر في (رسائل البحر).. فهو شخصية فاعلة درامياً، وليس فقط مكاناً
تشغله الشخصيات وتعيش فيه.. فالبحر هنا شخصية أساسية حملها عبدالسيد مناحي
درامية مؤثرة في الحدث والشخصيات.. في البداية كان ملجأ يحيي عندما رفضه
الآخرين، يجلس أمامه يصطاد ويتأمل كل أسراره.. وهو أيضاً منبع الرزق لديه
عندما يبيع أسماكه لكي يعيش.. حتى أنه يناجيه عند ثورته ويعلن عصيانه عليه
عندما تتلاطم أمواجه على الصخور مصحوباً بالأمطار الغزيرة.. كما أنه
(البحر) يصبح ملجأ يحيي الأخير مع حبيبته في النهاية عندما يرفضه المجتمع
بعد طرده من شقته..!!
هكذا تكون النهاية.. نهاية مفتوحة على الأفق الرحب، في مشهد نوراني، يقيض
بالكثير من المعاني.. عندما يجمع البحر يحيي وحبيبته في قارب أبيض وسط
البحر والسمك الميت يحيط بهما من كل جانب.. فبالرغم من الحالة الرومانسية
التي تحميهما من كل الشرور، إلا أن هذا الشر والقبح والديناميت موجود ويحيط
بهما، لمحاولة قتل كل هذا الجمال والحب..!! |