مهمة صعبة للغاية
تصوير فيلم روائي عن الحرب خلال الحرب، فمن الناحية الفنية سيمتزج الوثائقي
مع النص
بأسلوب 'الدراما التسجيلية' ويحتاج من يدير الفيلم إلى فهم
وقدرة على الخروج بأبطال
حقيقيين في الرؤية التي تناسب السيناريو وهذا ما نجح فيه إلى حد بعيد
المخرج
اللبناني فيليب عرقتنجي لكونه استند على خبرة 40 فيلما وثائقيا وروائيا
قصيرا الذي
توجه بالنضج الكافي في شريطه 'بوسطة' الذي كان أول الأفلام
الاستعراضية الغنائية
اللبنانية بعد الحرب الأهلية والمنتج عام 2005 ومثل لبنان في جوائز
الأوسكار لعام
2006.
يقدم عرقتنجي فيلم 'تحت القصف' ليفوز به بجائزة المهر الذهبي
لمهرجان دبي
السينمائي الدولي في دورته الرابعة وهو إنتاج لبناني ـ فرنسي ـ بريطاني
مشترك حقق
صداه الواسع في مهرجان فينيسيا الأخير حينما شاهد الجمهور أناسا من الواقع
المرير
لحرب تموز 2006 يشتركون تقريبا في كل تفاصيل الشريط بانسجام
مقبول مع أداء الممثلين
الرئيسيين ندى أبو فرحات (خطفت جائزة احسن ممثلة في المهرجان) وجورج خباز
الذي امتص
كل
قسوة الأحداث بتمثيل حي وبارع وعميق.
حقوق
الكومبارس
وقد يثير الفيلم مسألة لم تحل بعد، تخص الحقوق العامة، أولئك
الذين اقحموا في الفيلم من دون أن يعلموا أنه فيلم روائي وليس
وثائقيا وهل من
الجائز ـ أخلاقيا ـ تصوير الاضطراب الفظيع لأناس في لحظة حرجة وموتى أو
مشاهد عزاء
وتشييع وجرحى ومدرسة للاجئين وجدوا أنفسهم مضطرين لتقبل كاميرا غريبة
ومجهولة
الأهداف في خضم الكم الهائل من الكاميرات التي كانت تنقل
الحرب؟
أخلاقيات
الفن
والحرب
وإذا تم تجاوز أمر تصوير مشاهد حية تخص الناس من الناحية
الشخصية وكذلك
الموتى، فثمة أمر كريه آخر يخص الجانب الإنساني، وهو أن ندى أبو فرحات التي
تحمل
اسم زينة تعود من دبي حيث يعمل زوجها رجل الأعمال لغرض البحث عن ابنها كريم
البالغ
عمره 6 سنوات الذي تركته يقضي الصيف عند خالته في المنطقة
الجنوبية (خربة سلم) في
ظروف عائلية معقدة تسير نحو انفصالها عن زوجها لكن الحرب باغتت الخطط
العائلية غير
المواتية أيضا، تسأل الناس العاديين وكأن لديها فعلا ابنا مفقودا،
وبالنتيجة ستتلقى
عطفهم ومساعدتهم وتلك الشهامة لدى أبناء البلد، وهؤلاء الذين
لا يعرفون أن كل الأمر
ما
هو إلا فيلم روائي يشتركون في الأحداث من دون إذن وهو سؤال إشكالي يطول
الحديث
عنه لو تأملنا القضية من زاوية 'أخلاقيات الإعلام'.
تغيير
النمط
الوثائقي
تصل زينة إلى لبنان عن طريق تركيا، لأن المطار مضروب والموانئ
محاصرة نجد زينة تصرخ بلوعة (الممثلة البارعة وليس الأم التي
فقدت ابنها فعلا) في
نقطة وصولها تجمعا للسائقين: 'في حدا رايح ع الجنوب'، وسيجيبونها أن الوضع
هناك لا
يسمح لأي منهم في الوصول، وهنا ستكشف هويات أناس حقيقيين
تملصوا من مساعدة أم في
موقف كهذا.
لكن فيليب عرقتنجي يغير النمط الوثائقي عندما تعثر على توني
(جورج
خباز)
الذي يعمل سائقا لتاكسي ويوافق أن يرافقها في هذه الرحلة التي تنحصر قضية
الفيلم فيها، إلا أن دافعه في البداية كان ماديا، سرعان ما يتحول إلى تعاطف
شديد مع
قضية هذه المرأة الوحيدة التي لم تتقبله في البداية أيضا، بل
وكانت تحتقره لصفته
الانتهازية.
لا وجود
لسيناريو
ومن الواضح أن سيناريو
ميشال ليفيان لا يعتمد على حبكة معقدة أو مصنوعة أو مبتكرة، هو سهل جدا
وربما
مرتجل، لكونه اعتمد على أحداث حصلت لجميع من عاش تلك الأيام،
لم يضف إلا شيئا بسيطا
وتقريريا، وهو أن المرأة مسلمة والرجل مسيحي وهما بتعاضدهما سينجوان نحو
حافة الأمل
واللقاء مهما كانت الظروف تسبح ضدهما.
فيه بعض السياسة عبر عن رأي سائد في
لبنان، ولا يوجد أفضل أن يميت السيناريو شقيقتها (مها) ورفض (زينة)
المشاركة في
التشييع الرسمي الذي تتكاثر فيه الأعلام اللبنانية ورايات حزب
الله، مفضلة الجلوس
والبكاء لوحدها معبرة عن وجهة نظر أصحاب الفيلم بأن هذه ليست حربها.
أما توني،
فشقيقه طوحت به الحرب الأولى ليلتحق مع جيش لحد إلى إسرائيل وتبدأ عنده
احلام
الهجرة بعد أن فقد كل شيء في الوطن الخارج من الحرب والتيه.
دوافع
الإخراج
ولعل فيليب كما يقول، بدأ التصوير وكله إحساس بالكراهية للعدو،
لكنه
انتهى منه وكله حب للشهداء الذين سقطوا وهنا تعلم الدرس الذي وصفه في كلمة
واحدة في حفل توزيع الجوائز وهو أن الفن ينبغي أن يكون 'صرخة ضد الكراهية'.
يبرر
فيليب عرقتنجي تصويره للموتى في شريطه الروائي بأنه: 'أردت تقديم الحرب
بشكل مختلف
ولم أكن راغبا في عرض الموتى على الجمهور، لكنهم كانوا هناك، تحت الأحجار
والأنقاض،
لذلك عملت الفيلم لهم'.
لكن من جانب آخر، إن المخرج وكاتب السيناريو وضعا الخطوط
العامة وفي الميدان كانت الأحداث والظروف والنجاح أو الفشل
الكفيلة بتحديد مسار
الكاميرا مع الاحتفاظ بالجو الروائي العام الممزوج بتفاصيل ساذجة
كالمعلومات التي
حصلت عليها بأن ابنها أنقذه صحافيون فرنسيون (لماذا فرنسيون بالذات، هل
لكون الفيلم
إنتاجا فرنسيا مثلا؟!).
الساحة
جاهزة والابتكار
بسيط
لقد كانت الحرب جاهزة بالنسبة إلى فريق المنتجين ولم يحتاجوا
إلى
بناء مدن
وتهديمها وتفجيرات ودبابات (حتى الجيش اللبناني تم تصويره من دون علمه على
الأرجح أن ما يجري فيلم روائي)، بمعنى أن الساحة مهيئة تماما لتصوير حكاية
من داخل
الحرب وليس أسهل من ابتكار علاقة إنسانية بين مسيحي ومسلمة في
إطار لا يحتاج إلى أي
عبقرية. وعدا ندى وجورج كل الذين ظهروا في الفيلم لاجئون ومتظاهرون ومدنيون
ومسؤولو
منظمات غير حكومية وجنود وصحافيون، كل مثل دوره كما عاش لحظتها.
هذا لا يعني أن
فيليب عرقتنجي وجد الحرب بانتظاره ليصور حبكته البسيطة، فجهده جبار في تلك
الأوقات
التي لا يمكن للمرء العثور على قطرة ماء نقي، وإذا به يدير فريقا كاملا
ليقدم سينما
جادة ليست بالضرورة متفوقة فنيا، إلا أن 'تحت القصف' كان
مناسبا لهكذا شريط ظهر من
تحت لهيب النيران والغدر والبطش وتكاتف الناس العظماء والشد الرومانسي
الطاهر
وموسيقى فاعلة ومونتاج كلف دينا شراره الكثير من الطاقة والدقة
والحرفية.
صاحب
الجوائز
لم تكن جائزة المهر الذهبي
الأولى التي يحصل عليها 'تحت القصف'، حيث سبق أن حصل في غضون عرضه في أيان
فينيسيا
السينمائية على جائزتين الأولى جائزة 'إي آي يو سي' لحقوق
الإنسان والثانية 'أي آر
سي
أي' للمبدعين الشباب.
وعرقتنجي واحد من أهم المخرجين اللبنانيين المعاصرين
وقدم العديد من الأفلام التسجيلية عن حرب لبنان وأنتج البرنامج
التلفزيوني الناطق
بالفرنسية 'فسيفساء' وشارك في أكثر البرامج التلفزيونية نجاحا في فرنسا
وحصل على
جائزة لجنة التحكيم في مهرجان مونتريال عام 1995 وجائزة لجنة التحكيم في
مهرجان
بيروت السينمائي عام 1996 والجائزة الذهبية في باريس 1994
وسيرته الفنية مليئة
بالجوائز.
القبس الكويتية في 18
ديسمبر 2007
|