* بين اثنين *
لم يحقق مخرج عربي ما حقّقه يوسف شاهين من انتصارات وإنجازات
سينمائية متبوّئاً مركزاً مهمّاً بين سينمائيي العالم، ومعبّراً عن جيل
كامل من المخرجين العرب وطموحاتهم من خلال أفلام رصدت - وعلى نحو متواصل -
الذاتي والعام والقضايا المصيرية التي مازالت تعصف بهذا الجزء من العالم
منذ عشرات العقود.
يوسف شاهين أخرج نحو أربعين فيلم في حياته العملية وأول ما
نلحظه في مجمل هذه الانتاجات أنها كانت التعبير الصادق عن حركة المجتمع حتى
حين انشغل المخرج الكبير حين أخذت أفلامه تتحدّث عنه وحياته ومراحله
العملية في سلسلة من أفلام التأريخ الذاتي. كذلك نلحظ كم أن هذا المخرج
الذي انطلق للعمل شابّاً في السادسة والعشرين من عمره حافظ على استقلاليّته
الفكرية والفنية ومبادئه الفكرية، ولم يرض التنازل عنها مطلقاً بالنسبة إلى
كثيرين يوسف شاهين هو عنوان للسينما العربية الطموحة جيلاً وراء جيل.
وُلد يوسف شاهين في العام 1926م في الإسكندرية، من أب سوري
الأصل يعمل محامياً وأم مصرية، وأمّ كلية فكتوريا حيث أخذ يحلم بالسينما
وهو لا يزال فتى صغيراً. هذا الحب قاده سنة 1946م إلى كاليفورنيا ليدرس
الفن في معهد (باسادينا بلايهاوس). وحين عاد بعد نحو عامين كان عقد العزم
على أن يصبح مخرجاً وفي العام1950م أخرج بالفعل أول أفلامه (بابا أمين)
ليتبعه بسلسلة من الأفلام الدرامية وطّد بها خطواته الأولى من بينها (أنت
حبيبي) (1951م) و(إبن النيل) (1951م) ومن ثم أول أفلامه التي حظت بتقدير
النقّاد (صراع في الوادي) (1954م). هذا التقدير ارتفع إلى سقف لم يكن بلغه
من قبل بفيلمه (باب الحديد)
Cairo
Station
سنة 1958م حيث لعب فيه دور بائع الصحف قنّاوي الصبي الأعرج الذي ينظر إلى
أنثوية هند رستم وفحولة فريد شوقي بغيرة مزدوجة تدفعه إلى نهاية بائسة. هذا
الفيلم عُرض في مهرجان برلين حيث استقبل جيّداً، وحيث يذكر شاهين أنه حين
صعد المسرح اكتشف أن الحاضرين كانوا توقّعوا أن يكون أعرجاً بالفعل.
بعد هذا الفيلم عمد يوسف شاهين إلى الأفلام التاريخية
والموسيقية، إذ حقق (الناصر صلاح الدين) سنة 1963م و(بيّاع الخواتم) في
العام 1964م. لكنه بعد خمس سنوات عاد إلى الواجهة العالمية بأول فيلم من
سلسلة سياسية تبحث في أوضاع الوطن عبر حقبات متعاقبة. هذا الفيلم كان
(الأرض) في 1969م الذي شحن فيه الأجواء بمشاهد استماتة الفلاح بأرضه تحت
عبء الإقطاع الذي كان سائداً وقت أحداث الفيلم (قبل الثورة). في (العصفور)
العام 1971م نقل شاهين الأحداث إلى الفترة التي سبقت وتبعت استقالة الرئيس
الراحل جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967م وعودته عن تلك الإستقالة. فيلم
(العصفور) بقدر ما كان مؤرخاً لتلك الفترة بقدر ما كان تحذيراً من نتائج ما
حدث في فترة سادت فيها الأحلام الكبيرة على الرغم من خروج الناس إلى
الشوارع للتعبير عن رفضهم للهزيمة وللاستقالة معاً.
هذا المد السياسي تابعه المخرج في (الاختيار 1974م) وفي (عودة
الابن الضال) وكلاهما جاء محمّلاً بالرمزيات الفاضحة لمشاكل المجتمع بصرف
النظر عن الفترة الزمنية التي يتناولها كل فيلم.
مع (الإسكندرية ليه؟) بدأ يوسف شاهين مسيرة مختلفة تحوّل فيها
إلى سلسلة من الأفلام الذاتية المنشأ ولو أنها تتعرّض بالطبع إلى المحيط
الاجتماعي. هذه السلسلة أنجبت (حدوتة مصرية) سنة 1982م (إسكندرية كمان
وكمان) في 1990م ثم (إسكندرية... نيويورك) (2002م) لكنها تقاطعت مع سلسلة
متنوّعة من الأفلام مثل (وداعا بانابرت) (1985م)، (اليوم السادس) (1987م)
و(المهاجر) 1994م.
علاقة يوسف شاهين بالمهرجانات العالمية التي انطلقت بعرض (باب
الحديد) في مسابقة مهرجان برلين استمرّت لاحقاً، فمعظم أفلامه اللاحقة عرضت
في واحد من المهرجانات الكبيرة خصوصاً (كان) و(فنيسيا) وشهرته العالمية
بدأت هناك، وتتوّجت بقيام مهرجان (كان) بمنحه جائزة خاصّة عن مجمل أعماله
بمناسبة دورته الخمسين سنة 1997م، وهي السنة التي عرض فيها المخرج فيلمه
التاريخي (المصير) على شاشة ذلك المهرجان.
أفلام يوسف شاهين تميّزت بخطوط عديدة تشكّل اليوم العناصر
الرئيسية لقراءة سينماه. فعلى صعيد المضامين تراوحت بين الخاص والعام في
عناصر ممتزجة على نحو خال من الافتعال. وعلى الصعيد نفسه، شهدت أفلامه منذ
أعماله الأولى أيام (ابن النيل) و(صراع في الوادي) ثم (صراع في الميناء)
و(باب الحديد) ذلك الخيط الخاص المتعامل مع المرجعيات النفسية لشخصياته. من
تلك الأفلام المبكرة عمل شاهين على بث مضامين في العلاقات العاطفية؛ حيث
المرأة هي الغالبة والشاب هو المفتون وقد يكون الموزّع بين إعجابه بالمرأة
وإعجابه بنموذج رجالي أقوى.
على صعيد آخر، فإن اختياراته من الأفلام السياسية لم يكن
ظرفياً او انتهازياً. من أيام (جميلة بو حريد)، الفيلم الذي حققه في مطلع
الستينات عن المناضلة الجزائرية الأشهر، حاول نقل ملامح من العلاقة بين
العرب وسواهم وهو كرر هذه المحاولة في (صلاح الدين) ولاحقاً في (الناس
والنيل) و(اليوم السادس). لكن هذا الخط شكّل منعطفاً حاسماً حينما أخرج
فيلمه (الأرض) الذي وإن خلا من مضامين العلاقة العربية - الغربية الا أنه
تحدّث عن أوضاع تتعلّق بالمصري وتربته وعنصره المقاوم والأصيل. والى أن حان
موعده مع (العصفور) و(الاختيار) كان أشبه بمن يؤرخ لمصر في هاتين المرحلتين
قبل أن ينتقل بالموضوع مرّة أخرى إلى محيط الصراع لإثبات الهوية العربية
وعلاقتها بالغرب كما في (وداعا بونابرت) و(المصير) ثم (الاسكندرية
نيويورك).
حين وطأ المخرج أرض الحكايات الذاتية التي تدور عنه شخصياً،
وذلك في السلسلة التي بدأت عام 1978م، فإن المخرج لم يحاول إخفاء شيء لا عن
علاقاته العاطفية ولا عن تأثير المرأة في حياته ولا عن ازدواجية العلاقات
البشرية وعمل على رسم خطين متوازيين في تلك الأفلام واحد عنه وواحد عن
الحقبة الزمنية في الفترة التي يتحدّث فيها.
بالتالي، أفلام يوسف شاهين تشكّل عالماً بارعاً من الحياة على
الشاشة حياة الفرد؛ سواء أكان هذا الفرد هو أو ممثّلاً بالآخر (بصورة
القناوي في (باب الحديد) أو بصورة الشخصية التي لعبها عمر الشريف في (صراع
في الوادي)) وحياة المجتمع في الفترات كافّة. ففيلم (المهاجر) يعود إلى
حكاية النبي يوسف (عليه السلام) و(المصير) يتحدّث عن الأندلس الضائع،
(وداعا بونابرت) يعاين العلاقة المصرية - الفرنسية بينما يتناول
(الإسكندرية ليه؟) فترة الاستعمار البريطاني كما تناول (العصفور) فترة
أواخر الستينيات.
السينما، من حيث كونها الحب الحقيقي في حياة المخرج شاهين،
لعبت أيضاً الدور الكبير في أفلامه. ليس فقط أن أفلامه الذاتية المذكورة
أتاحت له الحديث عن السينما من نواحي متعدّدة، بل كذلك نجد أن (سكوت... ح
نصوّر) يتطرّق إليها والى الموقف المتطرّف من الحب ومنها معاً. أما (الأسكندرية...
نيويورك) فكان كلّه عنها كونه عكس مرحلة حياة شاهين في الولايات المتحدة
حين زارها للدراسة.
التطرّف الديني أصبح لاحقاً مسألة ملحّة في سينما يوسف شاهين
فانتقده في أفلام عديدة له حتى في تلك التي دارت في رحى التاريخ. في
(المصير) عبر مشهد حرق كتب ابن الرشد وفي (الآخر) (2002م) عبر الموضوع
الآني ذاته أو في فيلمه الجديد (هي فوضى) الذي يسعد مهرجان دبي السينمائي
الدولي بتقديمه إلى المشاهدين تعبيراً عن العلاقة المتينة التي ربطت هواة
السينما ومحترفيها مع المخرج يوسف شاهين وكل ما رمزت إليه تلك السينما
وحوته من مقاليد ومشاغل.
تنسيق
مهرجانات الدنيا
إذ ينجز مهرجان دبي دورته الرابعة تتعالى في الآفاق مهرجانات
أخرى من دون أن ينقطع التواصل مع الموسم الحافل بالجوائز الأخرى.
في الأساس، كانت هناك مناسبات مهمّة قبل ولادة مهرجان دبي في
هذه المنطقة من العالم. كان هناك مهرجان القاهرة أساساً، ومع مطلع العام
الجديد، من كل عام، هناك أيضا جوائز الغولدن غلوب وجوائز الأوسكار ثم
مهرجاني روتردام وبرلين وفي الولايات المتحدة مهرجان بالم سبرينغز وسندانس.
وليست هناك من طريقة للفصل بين المهرجانات المذكورة بفترات
زمنية متباعدة، ولو على سبيل التمنّي، لأنه في كل شهر هناك مهرجان كبير أو
مناسبة واحدة على الأقل وتأخير بعضها إلى الربيع - مثلاً - سيضعها في زحمة
مهرجانات أخرى فالربيع ملك مهرجان (كان) في أوروبا ومهرجان ترايبيكا وسان
فرانسيسكو في الولايات المتحدة.
لكن هذا لا يمنع من بعض التنسيق خصوصاً في هذا الجزء العربي.
والتنسيق لا يعني أن كل مهرجان يتوخى درباً لا ينافس فيه الآخر - في ذات
الوقت يعني عدم التضارب في الموا عيد من دون داع.
خذ مثلاً وضع مهرجان مراكش السينمائي الدولي. لقد صٌمّم هذا
العام لكي يقع في ذات الأيام التي يقع فيها مهرجان دبي السينمائي الدولي
وذلك من دون سبب على الإطلاق سوى محاولة التأثير عليه أكثر من ذلك، تم
توجيه دعوات مغرية لمجموعة كبيرة من الفنانين المصريين لحضور المهرجان
المغربي في هذه الأيام بالذات وفتح بانوراما كبيرة للسينما المصرية بمناسبة
ميلادها المئوي.
هذا حسن، لكن هل كان من الضروري أن يختار المهرجان المرّاكشي
هذه الأيام بالذات لكي يقع؟ لقد أنطلق في سبتمبر وانتقل إلى أكتوبر ثم إلى
نوفمبر والآن إلى ديسمبر. لكن النقطة الحاسمة هو أن رغبته التأثير على
مهرجان دبي لم تأت ثمارها: إذ لم يخفق مهرجان دبي في دورته الحالية في
الحصول على أي فيلم مصري اختاره للمسابقة ولا في جلب عدد كبير من
السينمائيين المصريين ممثلين ومخرجين ومنتجين. بكلمة ليس هناك من تأثير على
الإطلاق .
أحد الزملاء القادمين من المغرب ذكر لهذا الناقد أن منسّقاً في
مهرجان مرّاكش هو الواقف وراء كل هذه المحاولة أساساً. فإذا كان هذا صحيحاً
فإن ذلك يعني أنه يسهر كثيراً ويتعب نفسه بلا نتيجة.
شاشة
عالمية
من بين أكثر من عشرين فيلما تسجيليا عربيا وأجنبيا تعرضها
الدورة الحالية من مهرجان دبي السينمائي الدولي، اخترت ثلاثة أفلام تعكس
جوانب سياسية مختلفة تنطلق من هذا الوضع الذي يمر به العالم العربي.
أنا
فلسطيني
فلسطين - بريطانيا - كوبا.
إخراج: أسامة كاشو
رحلة موسيقية إلى داخل السياسة في كوبا اليوم.من خلال قيام
المخرج بتصوير حياة موسيقي كوبي مشرد وكيف ارتبطا بصداقة تكشف عن وجود
عنصرية غير ملحوظة ضد الكوبيين الفقراء إذ يطلق عليهم الآخرون كلمة:
فلسطينيين. يقول المخرج أسامة كاشو حول هذا الموضوع: (أخيرا وبعد طول
انتظار وصلت في العام الماضي إلى كوبا هذا البلد الذي كان دائما ومازال
داعما للقضية الفلسطينية. كفلسطيني, لطالما حلمت بزيارة هذا البلد خلال تلك
الزيارة أصبحت جزءاً من قصة اعطتني نظرة غير عادية حول التعقيدات التي تعصف
في مجتمع يقف على حافة التغير في اوقات عصيبة ومشحونة بالتوترات السياسية.
وعندما قدّمت نفسي كفلسطيني حملق الناس بي بدهشة واستهجان).
***
ظل
الغياب
فلسطين - تونس
إخراج: نصري حجّاج
يحاول هذا الفيلم الاقتراب من هاجس يعيشه الفلسطينيّون وخاصّة
أولئك الذّين اقتلعوا من أرضهم وعاشوا في الشّتات. هذا الهاجس هو هاجس مكان
الدّفن الذّي يكمن وراءه حلم العودة إلى الوطن الذّي هو حلم ومشروع إعادة
الذّات المشتّتة والمهدّدة دائما، إلى جذورها. هاجس مكان الموت هو هاجس
تعويض لمكان الحياة.
يقول المخرج نصري حجّاج عن هذا الموضوع: (عاش معظم
الفلسطينيّين انفصالا للحياة عن المكان المؤسّس لها (الوطن) وهو انفصال حدث
قسرا. وكان ردّ الفعل الطّبيعي لديهم إيجاد اتّصال روحي ذاتي بذلك المكان
المفقود في غياب الاتّصال المادّي ومن ذلك أنّ هاجس مكان الموت والدّفن في
الوطن هو هاجس تعويض عن غياب الاتّصال بالمكان المؤسّس للحياة.
***
إعادة
تكوين
الأردن - الولايات المتحدة - ألمانيا - هولندا
إخراج: محمود المسّاد
(العرض العالمي الأول لهذا الفيلم المختلف في تناوله موضوعاً
له علاقة بالدين والتديّن، والقضايا الجوهرية المحيطة بنا اليوم. صوّر
المخرج محمود المسّاد الفيلم في أماكنه الطبيعية واستخلص مشاهد آسرة. فيلم
عن متديّن من مدينة الزرقاء الأردنية يكاد يميل إلى التطرّف لولا أن
المشاكل الاقتصادية والمعيشية التي تدفع العديدين من الشبّان إلى التطرّف،
هي ذاتها التي تجعله يقرر الهجرة إلى الغرب لينخرط في حياته ليعيل عائلته.
يقول المخرج: (تعرّفت على ذلك الرجل عبر صديق مشترك وتتطلب الأمر وقتاً
طويلاً لإقناعه، كما تطلّب الفيلم نحو ثلاث سنوات من العمل. الآن هذا الرجل
(أبو عمّار) موجود في فنزويللا بعدما أخفق في الحصول على تأشيرة إلى
أميركا).
الجزيرة السعودية في 14
ديسمبر 2007
|