في ثلاثية انطونيوني المكونة من ‘’المغامرة’’ 1960
و’’الليل’’ 1961 و’’الكسوف’’ 1962 بدأ يختفي العنف الجسدي
ويبقى الشك وعدم اليقين،
وأخذت تتلاشى عناصر التوتر أو الميلودارما مثل عملية البحث عن الفتاة
المفقودة آنا
في فيلم المغامرة، وبالنسبة الى فيلم الصرخة ممكن ان تعزو
مشكلات ‘’الدو’’ الى
الفقر من ناحية وإلى عدم قدرته على الافصاح عن نفسه من ناحية اخرى.
المشكلات
الاجتماعية هنا تتوارى في الخلف، ويصبح الاهتمام منصباً على استبار الباطن
او الكشف
عن خفايا النفس، رغم ان انطونيوني يرفض كشف أي نوع من الايضاح
والشرح من تحليله
للعواطف. ففيلم ‘’الكسوف’’ لا ينتهي بمشهد تجريدي يستغرق عرض سبع دقائق
قوامه صور
عدة غير مترابطة في الظاهر، وهو مشهد يعبر عن الالم والوحشة من
دون كلمة أو عبارة
تقال.
ونهايات في ثلاثية انطونيوني دائماً مفتوحة وسببها هو التحول
من التركيز
في
العمل السينمائي من المجتمع الى التركيز على العلاقة التي تربط الشخصيات
بعضها
ببعض بكل تعقيداتها، وهي شخصيات لا تتصرف وفق النموذج الدرامي؛ لأن المخرج
انطونيوني يمقت الخط الدرامي التقليدي، ويأبى التسليم بأن
قوانين الدراما القديمة
مازالت سارية المفعول بل ظهرت لنا هذه الشخصيات بكل تناقضاتها وتقلباتها
العاطفية
الفجائية. فلم يستعن في تقديم هذه العواطف بحوار لتحديدها، كما انه لم يلجأ
الى
تنظيمها من خلال سيناريو دقيق معد سلفاً، بل التقطها تلقائياً
وقت حدوث المواجهة
بين شخصية وأخرى وسط مناظر تكتسب قيمة تعبيرية وبصرية جديدة بفضل الشاشة
العريضة.
للسينما خواص التعبير المباشر؛ لأنها واحدة من أهم خصائص الصورة الفيلمية،
هذا
الشكل المطبوع الذي سرعان ما يتيح تعبيراً واقعياً مباشراً. فأنت اذ تستخدم
آلة
التصوير الفوتوغرافية فإنك تلتقط واقعاً عيانياً مباشراً
معروفاً ومألوفاً في أدنى
درجاته، لكن توظيف المرشحات والعدسات والاضاءة ورؤية المصور الخلاقة ستقدم
شكلاً
صورياً مختلفاً عما هو عياني ومباشر. وشكلاً يحتمل كثيراً من
التأويل، ويمكن فرز
مستويات عدة للتعبير والتخلخل في ثنايا ما هو بصري الى الوسائل والادوات
التي وظفت
للتعبير، ولا تخلو هذه الخاصية في اشكال التعبير من حشد
للمعطيات الجمالية القادرة
على الارتقاء بالصورة وجعلها رسالة غزيرة بالاحالات.
هل نحن نرى
أو لا
نرى؟
التحري
عن حقيقة الواقع
في فيلم ‘’تكبير صورة’’ أو ‘’الانفجار’’ يقوم
انطونيوني فيه بنظرة فحص واختبار للون من الحياة، وضرباً من
المعاني هما بعيدان عن
متناول ايدينا، وقد عبر هو نفسه عن ذلك قائلاً ‘’اني اود ان اعيد خلق
الواقع في
صورة مجردة ؟ وحقيقة الامر اني اتحرى عن طبيعة الواقع’’. وهذه لقطة جوهرية
لابد من
تذكرها عندما نتناول الصورة في الفيلم وأبعادها، ذلك ان احد
الموضوعات الرئيسة التي
يتناولها الفيلم تكمن في هذه الفكرة. هل نحن نرى أو لا نرى القيم الحقيقية
للاشياء
بالطريقة الصحيحة والملائمة.
ومن هنا يكون أي تفسير نقدمه عن الفيلم كمشاهدين
يتوقف على ما اذا كنا نتبنى وجهة نظر البطل ام لا.
ان توماس يرى نفسه باحثاً عن
قصة حب رومانسية، فإذا به يكتشف على حين غرة وقوع جريمة، وتحولت خضرة
المتنزه الى
صور من الابيض والاسود. وغدت هذه الصور محل بحث واستقصاء
وتعرضت للتكبير، وخضعت
للتحري والتحقيق وظهرت للوجود قصة، نابعة من هذه الصور، وكأنها تستجيب
لرغبات توماس
المصدر. فهي تتشكل وتلتوي ثم تحتفي باختفاء الادلة الموجودة في الصور بعد
ان سرقت
وبعد ان اختفت الجثة بكل ما لها من وجود ملموس ومحسوس.
فالتصوير الفوتوغرافي ما هو
إلا وسيلة لاستنطاق الواقع ودفعه للتخلي عن اسراره والكشف عنها، وهي ان
الجريمة قد
وقعت وأنها سبق صحفي أو نبأ مثير يحلم به المصور الفوتوغرافي
والفضل للكاميرا في
الكشف عنها. لكن بمجرد ان نلقي نظرة على الحوادث من الخارج، حتى يتضح لنا
ما ينطوي
عليه هذا التفسير من تناقضات، ونصدم بالأسئلة التي وضعها الناقد. لماذا تم
التصوير
هناك في العراء؟
لماذا قام شريك المرأة بتنفيذ عملية القتل بعد ان اكتشف توماس
امرهما؟ لماذا لم يحاول قتل توماس؟ هل هناك احتمال ان يكون قد
ترك المرأة تطارد
توماس على مسؤوليتها؟ لكي يتمكن من ترك الجثة مكشوفة للجميع؟ ألم يكن
خليقاً بأحد
العثور عليها في فترة بعد الظهر؟ فالحوادث ابعد من ان تكون حدثت في عالم
الواقع.
ولا يمكن لها أن تحدث إلا في داخل رأس المصور توماس. هذا المشهد نفسه يقتبس
في فيلم
الحاجز لبسام الذوادي من سيناريو لأمين صالح، حيث يصور البطل مشهد جريمة
قتل، لكن
امرأة يقومها أو كما تصورها في رأسه، فالجريمة ‘’القتل’’ مختلفة في
الفيلمين الاصلي
‘’تكبير صورة’’ أو ‘’الانفجار’’ او فيلم الحاجز، ما ظهور الجريمة وارتكبها
إلا من
اجل اثبات
وجهة نظر البطل بأنه يستطيع ان يطبع عالم الواقع بخياله.
ومن هنا يكمن
الغموض واللبس. وفي مقدورنا ان نقدم تفسيراً للفيلم اما من داخل الشخصية أو
من
خارجها. فعالم الواقع بأبعاده المتعددة والكاملة يظل يراوغ ويتملص من توماس
المصور.
ففيلم ‘’تكبير الصورة’’ أو ‘’الانفجار’’ فيدور حول عملية التصوير
الفوتوغرافي ذاتها
من
مختلف ابعادها وأشكالها من اللقطة السريعة الى تركيب الصور على طريقة
السينما
الحقيقة او تصوير الموديلات من ناحية، ومن ناحية اخرى يدور حول الجانب
التقني من
التصوير مثل التحميض والطبع والتكبير، وكيفية ظهور صورة ما على
ورق حساس وكيفية
تفسيرها.
فتوماس يحاول الامساك بعالم الواقع من خلال التصوير. لكن كلما
اقترب من
الصور
التي التقطها في المتنزه التي يعتقد انها تنطوي على تسجيل جريمة وقعت هناك،
كلما جمع الادلة، وهي لا تعدو ان تكون مجرد بقعة من حبيبات رمادية أشبه بما
نراه في
لوحات زيتية فهي لا تبرهن على وجود شيء، بل قطعة من الفن
التجريدي فحسب. مثلما
ادركنا في نهاية فيلم ‘’المغامرة’’ ان البحث والتحري عن حادث اختفاء
‘’آنا’’ ما هو
إلا رحلة داخل النفس والكشف عنها. يشارك في هذه الركلة كل من حبيبها (جابرييل
فيرزتي) وصديقتها المفضلة (مونيكافيتي). ويظل لغز ‘’آنا’’ من
دون حل، حيث يضعنا
انطونيوني في حالة من التخبط والتشويش لكي نشارك شخصياته مشاركة كاملة. في
الجزء
الاخير من ثلاثية والتي عالج من خلالها انسلاخ وعزلة الفرد في المجتمع
المعاصر.
وهذا ما يتجسد في رؤيته بوضوح في المشاهد الاخيرة من فيلم الخسوف، وهي من
اروع
المشاهد
في تاريخ السينما على حد قول النقاد، وقد استأصل هذه المشاهد بعض الموزعين
على اعتبارها زائدة وغير مهمة.
وهذا الجزء عبارة عن رجل وأمراة يعجزان عن
الاتصال ولا يظهران في المكان الذي حدداه للقاء. تظل الكاميرا
وحدها تلتقط 58 لقطة
تستمر لمدة سبع دقائق في تتابع مذهل، حيث نشاهد شوارع خالية لا أحد فيها
تعبرها
الكاميرا، مشيرة الى الاماكن التي مر بها البطلان في لقائمها الاول لافتات،
ارصفة،
ظلال، اشارات المرور الضوئية، سماء معتمة ثم يهبط الليل انها
استعارة بصرية لخسوف
الانسان، وقد تقدمت سينما التحليل النفسي بهذه الثلاثية الفيلمية المهمة
الى الامام
خطوات كبيرة، فحافظت على غموض الايماءة، أو الاستجابة، اذ صورت من شخصية أو
اخرى.
وما يشهد على تأثير الثلاثية ما حدث لفيلم ‘’المغامرة’’ فبعد ان مضى على
عرضه عشر
سنوات بات
يبدو في عين المشاهد فيلماً تقليدياً بسيطاً في سرد قصته. فطريقة السرد
التي كان يجعل منها المشاهد ويقابلها بالاستهجان والصغير يوماً ويراها
خارجة عن
المألوف قد عدت الآن في نظره طريقة عادية ومقبولة.
ما قاله
أنطونيوني
ان
مشكلة المخرج تنحصر في انه يتعين عليه ان يمسك بالواقع - للحظة - قبل ان
يتجلى
ويكتشف في نفسه، ثم تقدم هذه الحركة، وهذا المظهر، وهذا الحدث بوصفه
ادراكاً جديداً
لهذا الواقع، فهذا الذي يقدمه المخرج ليس صوتاً - سواء أكان
هذا الصوت متمثلاً في
كلمات أو ضوضاء او موسيقى، وهو ليس ضرورة سواء أكانت هذه الصورة متمثلة في
منظر أو
تعبيراً أو حركة، بل هو كل متكامل لا يقبل التجزئة.
»ما
قاله برجمان عن
أنطونيوني في إحدى لقاءاته«
في احدى لقاءاته مع الناقد الاميركي جون سيمون قال
برغمان:
لعل الشيء الغريب هو انني أعجب له الآن اكثر مما كنت في وقت
سابق،
ويعود ذلك
لأفلامه ؟ لأنني فهمت فجأة ماذا يفعل. لقد ادركت ان كل شيء في عقله من
وجهة نظره ؟ في سلوكه الذاتي يقف ضد افلامه، ومع ذلك فما زال يصنع افلامه.
·
أي
افلام انطونيوني تحب اكثر؟
-
برغمان: احب ‘’الليل’’ كثيراً لأن ممثلة عظيمة عملت
فيه.
·
جان مورو ولكنه لم يعمل كثيراً معها.
-
برغمان: لا.. انه لم يعاود
الكرّة. انه لا يتصل بممثليه انهم لا يعرفون ما الذي يريده، هو لا يعرف كيف
يتخاطب
معهم.
·
لكنه عرف كيف يتحدث مع مونيكافيتي؟
-
برغمان: اعتقد ذلك، ولكن هل
تعلم، انني احب الناس الذين يقف كل شيء آخر ضدهم، وأحب اصرارهم على
المواصلة ؟
احبهم وأعجب بهم. وأعتقد انه شيء رائع ان هذا الرجل ؟ هذا
الرجل الذي لا ينام،
المعذب، المروع، الخائف. قد ذهب الى اميركا لكي يخرج فيلماً عن الاميركيين
- انه
دون كيشوت، ولقد قلت له انني لن امتلك قط شجاعة شبيهة بما يملك؛ لأنني لم
اذهب الى
اميركا بعد.. اعتقد انني لن افكر بالذهاب الى اميركا إلا بيدي
بطاقة عودة. ان عكس
ذلك يفزعني كيف توفرت لديه الشجاعة للذهاب الى اميركا. ان يختفي في الصحراء
مع فريق
فني وأن يبقى هناك. انه رجل غريب، احبه رجل رائع، وأنا اعجب به
الى حد مذهل.
·
ربما أحببت الرجل أكثر من أفلامه؟
-
برغمان: نعم بشكل او بآخر؛ لأن افلامه بدت
بالنسبة لي مملة الى حد ما.. ولكننا يجب ان ندرك.. ان الملل في
الفن شيء طيب على
نحو ما، ولكنه يزيدها قليلاً. ولكن بعد لقائي معه اختفت تحفظاتي على أفلامه
الوقت البحرينية
في 22 سبتمبر 2007
|