غيب الموت المخرج والكاتب والشاعر والفنان التشكيلي الايطالي
ميخائيل آنجلو انطونيوني عن عمر 89 عاما،حيث توقف قلبه عن النبض، وهو على
كرسيه في بيته وسط العاصمة الايطالية، وكانت تجلس بالقرب منه زوجته الشابة
انريكا فيكو. وقررت بلدية مدينة روما وضع جثمانه في مدخل المبنى التاريخي
للكامبيدوليا لالقاء نظرة الوداع الاخير من قبل الجمهور الايطالي، وشيع
جثمانه في مدينة فيرارا التي ولد فيها.
انطونيوني الذي حصل على البكالوريوس من جامعة بولونيا في
الاقتصاد، عمل كناقد سينمائي وتشكيلي في عدد من الصحف المحلية، الا انه
سرعان ما قرر الانتقال الى مدينة روما ليبدأ العمل كمساعد مخرج مع كبار
السينمائيين الايطاليين، امثال روبريرتو روسلليني في فيلم" عودة الطيار"
وجوزيبا دي سانتيس في فيلم" صيد تراجيدي"،1946ومع فلليني الذي عمل معه
كمساعد مخرج في فيلم " الشيخ الابيض" 1952.
يعتبر انطونيوني واحدا من ابرز مخرجي السينما في العالم والذي
حاز في العام 1995 على الجائزة الاوسكار التقديرية واعتبره االنقاد بانه
ابرز من ترك علامة فارقة في السينما العالمية في فترة الخمسينات والستينات
من القرن الماضي. كان احد نقاد مجلة " السينما" ومخرجا تسجيليا ومساعدا
للمخرج الرائد مارسيل كارنيه في فيلم"زوار المساء" قبل ان يقدم فيلمه
الروائي الاول" يوميات حب" عام 1951، وقد عالج هذا الفيلم وما تلاه من
افلام متاعب الطبقة البرجوازية الايطالية التي كانت تشهد صعودها السريع،
عبر تأملات لواقع المجتمع الايطالي المعاصر، فقد تناول بالفحص والتدقيق
حالة القلق واليأس والتصدع التي تعيشها شبيبة هذه الطبقة، ثم اعقبه بفيلم"
المنهزمون" 1952 وبعده فيلم" سيدة بلا زهور الكاميلا" 1953 وفيلم " المحبة"
1955، ثم جاء فيلمه الشهير" الصرخة" ليحكي من خلاله قصة رجل يبعد عن زوجته
ويتشتت في طريق وادي نهر " البو". الا ان انطونيوني" في فيلمه "المغامرة"
1960 الذي يعتبر واحد من افضل عشرة افلام في تاريخ السينما العالمية،اكتمل
اسلوبه المتميز والشديد التفرد، لتتأصل ملامح التعبير السمعي البصري
بالتلازم مع موضوعه المباشر والمفتوح على حركة وقلق شبيبة الستينيات من
القرن الماضي ومظاهر معاناتهم تحت اشكال عديدة من الوان الهيمنة التي يحاول
المجتمع الايطالي الجديد الخارج لتوه من قيود الاعراف والقيم والتقاليد
الريفية، فهو لم يعر نبض الشارع والحياة اليومية كما فعل زملائه اصحاب تيار
الواقعية الجديدة في اقترابهم من حدود الميلودراما لينتجوا افلاما تغوص
عميقا في وجدان الناس وافئدتهم اكثر مما تغوص في عقولهم، فهذا الفنان
استخدم ببراعة الفنان هشاشة العواطف الانسان الجديد وهو يواجه المتغيرات
الكبيرة التي يعيشها العالم الجديد، ليس في تقدمه التكنولوجي المتسارع فقط
وانما فيما تركه من آثار على البشرية من عزلة واحباط وشعور بالاغتراب. وهذه
الاهتمامات تابعها انطونيوني في الافلام التالية مثل" الليل" 1961 و"
الكسوف" 1962 و" الصحراء الحمراء" 1964 والذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في
مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1965 و" الانفجار" 1966 الذي حققه في
بريطانيا وتناول فيه حالة الضجر والقلق التي يعيشها الشباب الجديد، واعتبر
بمثابة الجزء الاول في ثلاثية تشمل الجزء الثاني وهو فيلم " نقطة زيربريسكي
عام 1970، الذي تناول فيه الثورة اللطلابية في قالب بوليسي.اما الجزء
الثالث فهو" المهنة مخبر" عام 1975 الذي قام ببطولته الممثل الامريكي جاك
نيكلسون مع الالمانية رومي شنايدر، وصوره ما بين اسبانيا والمغرب. وقبل هذا
الفيلم انجز رائعته" بلو اب" عن قصة لخوليو كورتارثار. وكان اخر افلامه قبل
مرضه العصيب بسبب جلطة دماغية جعلته نصف مشلول، هو فيلم هوية امرأة" عام
1982، لينهي تجربته الهوليودية ويعود الى ايطاليا بعد ان ذهب الى الصين
مكتشفا ذلك العالم الخفي المعلق ويصور فيلما وثائقيا طويلا، يغيب فيه
الكلام كما هو الحال في العديد من اعماله ليركز على الصورة والحركة كوسيلتي
تعبير مثاليتين لديه، بحيث يبدو الكلام والحوار مجرد اضاءات تزينية.
في عام 1980 يقدم للسينما "سراوبرولد" مع الممثلة مونيكا فيتي
التي ساهمت بالعديد من افلامه وشاركته حياته لسنوات طويلة. عام 1982 يقوم
باخراج فيلم فيديو للمغنية الايطاية جانا نانيني، بعدها يعود ومن جديد
للسينما عام 1982 امراة بلا مواصفات مع توماس ميلان، وكريستينا بويسون.
يقوم باخراج فيلم وثائقي عن روما التي احبها بعمق عام 1990.
الملاحظة الاولى التي تتبادر الى ذهن اي متابع لعالم السينما،
بان هذا الفنان الذي لم يخف ميله اليساري الانساني في كيفية تعاطيه مع شؤون
الناس وشجون المجتمع الذي يقيمون فيه. ذلك ان ولعه في رسم الملامح القاسية
للمعاناة التي تتخبط فيها شخصيات افلامه، او بالاحرى اختياره هذه الشخصيات
من وسط المجتمع المسكون بالف خيبة والم واحباط، فهو يشير الى رغبته في
اعادة تشييد هذه العمارة الانسانية المكونة من مشاعر فياضة طافحة بالقلق
والمحبة والامال المنكسرة.
لقد سعى انطونيوني في معظم افلامه الى ان يروي بجمالية تكاد
تكون متميزة شبه توثيقية كيف ترسم الحدود الداخلية للنفس البشرية في الاطار
الذي يتطور ويسير فيه التاريخ الانساني، عاكسا لحظات تاريخية في اعماق
النفس البشرية، مما يجعل العديد من اعماله وكانها موضوعات ساخنة في قراءة
القلق الانساني.
والأستاذ الذي ظل حضوره يتسع يوما بعد آخر، حتى اخر ايام حياته
حيث اقام معرضا فنيا لاعماله التشكيلية في احدى القاعات المرموقة في
ميلانو، يستدعي استرجاع إنجازات وإبداع فنان يعتبر أحد بناة السينما
الأوربية التي توسمت لنفسها منحى ولغة متميزة غير تقليدية اقتربت من حياتنا
اليومية المعاصرة بكل دلالاتها ورموزها ومجازياتها، اعتمدت على توظيف
ملامحها الجمالية لتقدم للمواطن كشوفات وقضايا ومواضيع فنية لم تجرؤ
السينما من قبل على الاقتراب منها.
انطونيوني الذي برز في الستينات كان من رواد جيل السينما
الجديدة التي بدت آنذاك اكثر تواضعا في مطالبها الاقتصادية للتخلص من
دكتاتورية الجمهور العريض، وهي اكثر طموحا في نزوعها الإبداعي، فكانت تقصد
جمهورا خاصا يهتم بالقيم الفنية العالية، ولهذا ضمنت لنفسها البقاء وكان
المستقبل لها مع انها ظلت نخبوية في توجهها العام، اذ وضعت مشاهدها أمام
دور جديد يستدعي الاهتمام الذاتي والتركيز الذهني والنفسي في عملية مواجهة
العمل الفني المبدع.
وكانت أعمال انطونيوني وكأنها قراءات متجددة لنفس الموضوع
المتعلق بفلسفة الوجود الإنساني. كل فيلم هو قراءة وكل قراءة هي إعادة
كتابة مختلفة، تفتح افقا جديدا، وترسم معالم رؤية اخرى، وتستشرف تخوم عالم
جديد، وكانت أسئلة صعبة في واقع صعب يجيب عنها انطونيوني الذي اندرج في
الظاهرة التي أثارتها الفلسفة الوجودية في أوربا، فقد قال" اطمح ان اتتبع
شخصياتي الى ما وراء اللحظات التي تعتبر تقليديا لحظات مهمة لاظهرهم حتى
عندما يبدو ان كل شيء قد قيل".
وبعد فترة صمته الطويل بسبب مرض الشلل النصفي الذي أقعده اكثر
من عشرين عاما لا يتكلم ولا يستطيع تحريك ذراعه لحد يوم وفاته، كانت تحفته
( فوق الغيوم) 1995 حيث وظف أربعة قصص تقع أحداث اثنين منها في إيطاليا
واثنين في فرنسا، وهي مأخوذة من مجموعته القصصية التي كتبها في مطلع
الثمانينات تحت اسم (كرات البويلينغ على نهر التيفر) ليقوم بإخراج هذا
الفيلم يساعده المخرج الألماني فيم فيندر، واخر ما قام باخراجه هو فيلم "
الخيط الاخير" عام 2004 وهو يحوي ثلاث قصص يروي من خلالها قصة حياته
الايروتيكية وعرض في مهرجان فينسيا عام 2004 تمثيل كريستوفر بوخلوس وريجينا
نيني ولويزا رانيري.
ترك انطونيوني لفن السينما ما يقربب من عشرين فيلماً وهو رصيد
متواضع لمخرج معمر ولكنه ثروة فنية كبيرة استحقت تقدير العالم اجمع. وحصل
انطونيوني فيي مشواره الطويل على العديد من الجوائز منها الاسد الفضي من
مهرجان فينسيا 1955 على فيلم "النساء فيما بينهن" وجائزة لجنة التحكيم
الخاصة لمهرجان كان الفرنسي 1061 عن فيلم " المغامرة"" وجائزة الدب الذهبي
لمهرجان برلين 1961 عن فيلم " الليل" وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان
كان عن فيلم" الخسوف" 1962، وجائزة الاسد الذهبي من مهرجان فينسيا 1964 عن
فيلم" الصحراء الحمراء"، والسعفة الذهبية من مهرجان كان عام 1967 عن فيلم"
تكبير الصورة" وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان الدولي عن فيلم"
تعريف امرأة". اضافة الى عدد كبير من الجوائز المحلية في ايطاليا.
برحيل مخرج في قامة الايطالي انطونيوني الشاعر والرسام
والناقد، تكون السينما العالمية قد خسرت واحدا من اولئك المخرجين الذين
طالما كرمتهم السينما العالمية في اكثر من مناسبة سواء باختياره رئيسا
للجنـــة تحكيم في مهرجانات دولية شهيرة او في اقامة عروض استعادية لافلامه
تفاعل فيها حضوره الابداعي مع ايمانه العميق بمفهوم الحرية في العمل الفني،
لتنطوي مرحلة كبيرة من تاريخ السينما الايطالية والعالمية.
المدى العراقية
في 16 أغسطس 2007
|