شكّلت حياته صدمات
متتالية للمؤسّسات الاجتماعية والإنسانية، كالزواج والعائلة والعلاقة بالله
والتفاصيل اليومية، تماماً كما شكّل رحيله يوم أمس صدمة لمن
وجد في نتاجه مرآة حيّة
لنبض الحياة والمجتمعات، ولمعنى الفرد وموقعه في الجماعة. ذلك أن تمرّده
الحياتي
والإبداعي منحه قوة العيش على التخوم الواهية للسنين الطويلة من المماحكة
والغضب،
في حين أن وفاته عن تسعة وثمانين عاماً في عزلته عن العالم بدت
رسالة واضحة عن معنى
الحياة والموت. وكما فضّل أن يخرج من العالم (عاش أعواماً طويلة في الجزيرة
المنعزلة «فارو» في «غوتلند») كي يواجهه بأقسى ما لديه من جنون وجمال
ومخيّلة بديعة
مستلّة من الواقع والمحيطين الاجتماعي والإنساني؛ جعل السينما
(بل الصنيع الإبداعي)
أداة
فاعلة للتنقيب عن الخلل والارتباك في الحياة اليومية للفرد، وحوّل الإبداع
إلى
لغة عيش وبحث دائم عن المعاني المضمرة في القدر والمقبل من الأيام، وفي
الأمس
الصانع هذين الآنيّ والمستقبل.
بين
المسرح والسينما
تبدو الكتابة عن
السينمائي السويدي إنغمار برغمان في مناسبة رحيله منقوصة، لأن عدم مشاهدة
نتاجه
المسرحي (أولى اهتماماً كبيراً بالمسرح) تجعل النصّ «الرثائي»
(هل هو رثائي حقاً؟)
عاجزاً عن
استكمال الحبكة الدرامية لهذا المسار الطويل من المواجهة والتحدّي. ألم
يقل ذات مرّة إنه قادرٌ على العيش من دون أن يصنع أفلاماً، لكنه لا يستطيع
أن يكون
موجوداً من دون أن يُنتج مسرحاً؟ أليس المسرح صورة أقرب إلى
الحياة وأحاسيسها
ومتاهاتها، بسبب انعدام أي حاجز بينها وبين الفضاء الإنساني؛ من السينما
التي تخترق
الممنوعات والحواجز كي تبلغ مرتبة عالية من تشريح كل ما يحيط بالفرد من
مناخات؟
لستُ في وارد التنظير النقدي حول الفرق بين ما تُقدّمه
الكاميرا وما تصنعه الخشبة.
غير أن هذا الكلام الذي قاله سينمائي عريق في اختباراته الفنية المتنوّعة
يثير
حشرية البحث عن المعنى المضمر في رأي يجد المسرح أرقى وأجمل من السينما
التي قدّم
فيها ولها ما لا يقلّ عن أربعين عملاً سجالياً ومؤثّراً
ومحرّضاً على طرح الأسئلة
كلّها. كأن المسرح أوضح من السينما، وإن لم تكن السينما أقلّ قدرة عن
التعرية
والتحريض؛ أو كأن السينما، بجعلها الشاشة حياة نابضة بالمعرفة والوعي
والانكسار
والخيبات، تظلّ أرحم من المسرح في تشريح الحياة والفرد
والأفكار الكبيرة
التي يجد
المرء نفسه في خضمّ إحباطاتها وخللها وجمالها. لم أشاهد الصنيع
المسرحي لإنغمار
برغمان، لكنّي أرى في أفلامه (هل يُمكن القول إنها متأثّرة بلغة مسرحية ما
في
تنقيبها الدائم في أسئلة الفرد عن الوجود والقدر والعلاقات والثنائيات
والجسد
والخطأ والخطيئة والعقاب الإلهي ووجود الله وعدمه!) شيئاً من
عبثية المسرح المستلّة
مضامينه من عبثية الحياة وجنونها. لم اقرأ أدباً لإنغمار برغمان (كتب
نصوصاً قصصية
وروائية متفرّقة)، من دون أن أغوص بفضلها في لعبة الصراع اليومي بين العبث
والفوضى
وسلطة القدر وأشياء الحياة التي تحيل اليوميّ إلى إحساس بالغبن
والقهر، والتي تصنع
من
رماد العيون، التي تشاهد وتنقل وتحفظ، أسساً حيّة لاستكمال مشروع العيش على
الحافة الأخيرة.
الأب
والله
أثّرت التربية الدينية المحافظة والصارمة، التي
تلقّاها برغمان منذ ولادته في الرابع عشر من تموز 1918 (في
مدينة أبسلا شمال
استوكهولم)، في نمط تفكيره وفي إثارة رغبته في طرح الأسئلة المصيرية عن
الحياة
والسلطة الأبوية والتزمّت وقدرة القدر على التحكّم بالفرد وحياته وموته
وعيشه. ظلّ،
في الغالبية الساحقة من أفلامه وأدبه القصصي والروائي، يصارع
تلك الفكرة القاتلة عن
سلطة الأب والثنائي (الأب الأم) والدين والله. طرح، في أعماله تلك، أسئلة
عدّة
متعلّقة بعناوين كثيرة: ثنائي ممزّق (في أكثر من فيلم أو قصّة، طرح إنغمار
برغمان
مسألة العلاقة الثنائية بين الزوجين أو الحبيبين أو الصديقين،
محاولاً البحث في
جذورها ومأزقها ووجعها وتمزّقاتها ومصائرها المجهولة)؛ مواجهة الموت (هل
يعني هذا
أن
برغمان ظلّ يطرح على نفسه سؤال الحياة وما بعدها، أو سؤال الموت وما
قبله؟)؛
غياب الله (لا شكّ في أن طارح سؤال سلطة القدر والمصير المجهول
للإنسان والصراع
الدائم الذي يعتمل في ذات الفرد حول العلاقة الخفيّة أو المبطّنة بين الخلق
وانعدام
العيش، يجد نفسه في موقع البحث في المعاني المستترة للمصير الغامض ولفكرة
الله
ووجوده) والسؤال الأبدي في الدين والعيش والتمرّد؛ لكن أيضاً
(أي في مقابل أسئلة
الوجود والقدر هذه)، أدرك برغمان أن هناك شيئاً ما في الحياة يصنع «سحر
الحياة»، أو
بالأحرى هناك من عثر في نتاجه الإبداعي على معنى أن تكون الحياة (هل أقول
السينما)
سحراً قائماً بحدّ ذاته: ذلك أن برغمان «خلق» نتاجاً ذا ثراء انفعالي/عاطفي
سلّط
الضوء على مأساة الشرط الإنساني، أي الحياة والموت والقدر والحرية الفردية
والعلاقة
بين الخالق والمخلوق.
من المسرح، إلى السينما. ومن العزلة التي جعلها حيّزاً
إبداعياً لأفكاره والتزاماته وجنونه الإبداعي الجميل، إلى
الانفتاح الأقصى على
الجماليات الإنسانية التي تستمدّ روحها من البؤس والانكسار والخيبات
والأوجاع
والجنون. أعتقد أن برغمان هو هذا، أقلّه بالنسبة إليّ. لكني أعرف أني
استخدمت
التعابير نفسها مئات المرّات؛ ولم أستطع التحرّر من وطأة
الصدمة التي صنعها رحيل
السينمائي إنغمار برغمان. ظننت أني قادرٌ على الكتابة عنه وعن صنيعه
الإبداعي.
شعرتُ بأن مشاهدتي فيلمه التلفزيوني الأخير «ساراباند» مثلاً، ستُعينني على
مقاربة
نقدية أو تحليلية أو إنسانية لمجمل ما قدّمه من أفلام وأعمال أدبية
(ومسرحية، لو
تسنّت لي مشاهدتها، إذ اشتغل على كتابات إبسن وشكسبير
وسترندبيرغ). ظننت أني قادرٌ
على الكتابة عن إنغمار برغمان، أصلاً، بما يعنيه هذا الرجل من عالم إبداعي
مستقلّ
في
السينما والمسرح والأدب. ذلك أن ما يجذب في النتاجين الأدبي والسينمائي
اللذين
وضعهما برغمان على مدى سني حياته الطويلة، كامنٌ في قدرته على
أن يدفع المرء إلى
البحث عن (أو ربما في) معنى الحياة والموت: قلق الفرد وألمه الذاتيّ وقلقه
الوجوديّ
إزاء الموت ومعنى فرحه ووحدته وحزنه السوداوي اللامتناهي إزاء عالم «من دون
إله (أو
من دون الله)».
غير أن المفارقة الأخرى في النتاج الإبداعي لبرغمان كامنةٌ في
علاقته بالمرأة (بالنساء): صوّر مشاعرهنّ، وعشق حضورهنّ في نتاجه، وقدّم
لهنّ أرق
الحضور وأجمل الحيّز الفني والإنسانيّ. فقد لعبت العلاقة
الملتبسة بينه وبين
المرأة، منذ وعيه الأول لوجودها، دوراً في تحريضه على التنقيب الإنساني في
شؤون تلك
العلاقة وشجونها. لكن الأهمّ من ذلك كلّه كامنٌ في أنه اشتغل على الجانبين
الفني
والتقني بالقوة الإبداعية نفسها لاشتغاله على الجانبين الدرامي
والجمالي في علاقته
بهما: ذلك أن برغمان اهتمّ كثيراً بالوجوه واعتنى (بشكل كبير) بالضوء، بفضل
علاقته
بمدير تصوير اشتغل معه طويلاً، هو سفن نيغفيست الذي توفيّ في
العام الفائت؛ وتعاون
مع
مبدعات لعلّ أبرزهنّ ليف أولمان، من دون تناسي إنغريد ثولن وماج بريت نيلسن
وهارييت أندرسن وإيفا دهاليبك وأولا جاكوبسون والأبرز بينهنّ عالمياً ليف
أولمان.
السفير اللبنانية في 31
يوليو 2007
|