هذه المرة لا يمكن القرار إلا ان يكون نهائياً... لا أمل
بالرجوع عنه. في المرات الماضية، ومنذ سنين كما منذ افلام كثيرة، كان
انغمار برغمان يقول دائماً انه سيعتزل الإخراج السينمائي، لكنه كان يعود عن
قراره... وهو عاد في المرة الأخيرة وإن كانت عودته تأخرت... عشرين سنة.
ونعرف تفاصيل الحكاية: عاد قبل سنوات قليلة ليحقق فيلم «ساراباند» الذي
تصور فيه لقاء بعد جيل بكامله، بين زوجي فيلمه الشهير «مشاهد من الحياة
الزوجية». بعد «ساراباند»، سُئل مخرج السويد الكبير هل يعتزل هذه المرة
نهائياً. ابتسم موهناً، وقال: «هذه المرة اعتزالي جدي تماماً»... وكان
صادقاً، لأن الموت دهمه صباح امس في بيته في جزيرة فارو، وهو بالكاد بدأ
عامه التسعين. فانغمار برغمان ولد يوم 14 تموز (يوليو) 1918، ليموت في
الثلاثين من الشهر ذاته بعد تسع وثمانين علما.
ولكن، هل يمكن حقاً ان نقول عن مبدع كبير من مبدعي القرن
العشرين، خلّف أكثر من ثلاثين عملاً سينمائياً كبيراً، الى جانب عشرات
الأعمال المسرحية وبضعة كتب رائعة المعنى والمبنى، انه مات؟ تقول الأغنية
الفرنسية ان الشعراء لا يموتون. وبرغمان كان بكل المقاييس شاعراً. كان، ولا
يزال، واحداً من الذين حوّلوا السينما من الترفيه و»الفنون الجماهيرية» الى
الفنون الكبرى. في هذا الإطار، لم يكن عبثاً ان يعلن برغمان دائماً انه
تلميذ تشيكوف وسترندبرغ وشكسبير وكيركغارد في آن. ذلك ان سينماه حملت مسرح
هؤلاء وأفكارهم الفلسفية وأسئلة القلق الإنساني الوجودي الكبرى، تماماً كما
حملت هموم العيش العادي للناس البسطاء.
من هذا المزيج السحري والساحر، صنع برغمان سينماه التي وضعت
بلده «السويد» على الخريطة السينمائية في العالم في صورة مدهشة، بعدما كان
أسلاف له (موريس ستيلر، ماي زيترلنغ وآخرون) وضعوا هذا البلد في قلب سينما
العالم في شكل خجول. مع أفلام برغمان تبدل الوضع كلياً. وباكراً منذ العام
1946 اشار فيلمه الأول «أزمة» الى ولادة سينمائي كبير، قبل ان يعرف الناس
ان هذا السينمائي هو مخرج مسرحي كبير ايضاً وأنه كاتب من طراز رفيع. منذ
ذلك الحين صار اسم برغمان في الصدارة، الى جانب أسماء فيلليني وهتشكوك وجون
فورد وأورسن ويلز. كما أن اسمه المسرحي عُرِف على نطاق واسع ايضاً. هو، في
كل الأحوال، راح يقول ان المسرح زوجته والسينما عشيقته. ومع هذا لم يكن
الرجل في حاجة الى تعدد الإناث في حياته الفنية، أكثر مما هن متعددات في
حياته الفعلية. فهو تزوج او ارتبط بمعظم البطلات اللواتي مثّلن تحت إشرافه،
وكن يحضرن اثنتين اثنتين احياناً في الفيلم الواحد (بيبي اندرسون وليف
أولمان معاً في «برسونا»، وغونيل لندبلوم وأنغريد تولين معاً في «الصمت»...
مثلاً). كان محباً أبدياً للنساء... من هنا طغى الحضور الأنثوي على أفلامه.
وطغت معالجة قضايا المرأة والثنائي على هذه الأفلام، ولكن بين جمهرة من
مواضيع تراوح بين الموت والشيخوخة والطفولة والعلاقة مع الغيب والعائلة
والفن.
كل هذه المواضيع عالجها برغمان بريشة فنان وعقل فيلسوف وقلب
عاشق كبير. وهو كما جدد في المواضيع السينمائية، جدد ايضاً في لغة السينما،
رابطاً إياهما بالمسرح، ليحقق دينامية للصورة استثنائية، ومعبّراً عن
ازدواجية معنى الوجود الإنساني في هذا الكون بلغة بصرية بلغت اوجها في «برسونا»
و»الختم السابع» و «الفريز البري» ، ولاحقاً في بعض أجمل افلامه الملونة
(مثل «همس وصراخ» و»فاني وألكسندر»)، قبل اكتشافه قدرة الدراما التلفزيونية
على ايصال ما يريد قوله، ويحقق للشاشة الصغيرة افلاماً رائعة مثل «مشاهد من
الحياة الزوجية».
كل هذا أبدع حضور ابن القس البروتستانتي الآتي من اوبسالا،
والذي عشق لاحقاً جزيرة فارو، فأبدع عنها افلاماً، ليموت فيها بعدما عاش
ردحاً طويلاً من عمره هناك، هو الذي نادراً ما بارح السويد، إلا مرة في
السبعينات حين اضطرته مصلحة الضرائب في بلاده الى سلوك دروب المنفى،
غاضباً، ليحقق بين ألمانيا وبريطانيا افلاماً اعتبر النقاد إنها ليست جديرة
بتاريخه.
مهما يكن، عاد برغمان يومها من المنفى أكثر قوة، محملاً
بالتقدير العالمي والجوائز، ليحقق في السويد آخر أفلامه، وربما أقواها...
معلناً في كل مرة انه سيعتزل، حتى قهر الموت، اخيراً، اعتزاله.
الحياة اللندنية
في 31 يوليو 2007
|